تاريخ أدبي

لامارتين، أو عندما كان أدباء فرنسا يتماهون مع الإسلام

من يصدّق اليوم أن تاريخ الأدب الفرنسي يعجّ بمؤلّفين كان لهم فضول ورغبة في فهم الإسلام والانفتاح عليه، كما كانوا يتّسمون بتسامح لا نجده اليوم عند أغلب مثقفي البلد. والشاعر ألفونس دي لامارتين مثال على ذلك.

رسم للامارتين عندما كان عضو الحكومة المؤقتة، ووزيرًا للخارجية، 1848، بريشة آلوف.
المكتبة الوطنية الفرنسية.

إذا كانت عظمة الهدف وضعف الوسائل وضخامة النتيجة هي المقاييس الثلاثة لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ على القيام بمقارنة إنسانية بين رجل عظيم من التاريخ الحديث مع محمّد؟! (...) فيلسوف، خطيب، رسول، مشرع، قائد، فاتح أفكار، مُعيد للعقائد ولدين بدون صور، مؤسس لعشرين إمبراطورية على الأرض وإمبراطورية روحانية، هو ذا محمد! بجميع المقاييس التي يتم بها تقدير العظمة البشرية، أي إنسان كان أعظم؟

صاحب هذه الأسطر كاتب مشهور ووزير خارجية فرنسي سابق ومرشح غير موفق للانتخابات الرئاسية.. من 175 سنة خلت. اسمه ألفونس دي لامارتين. أي إنسان غربي يعرف اليوم أن صاحب قصيدة “البحيرة” الشهيرة قد جعل من محمد نموذجًا؟

إنسانوية بلا حدود

كان ذلك في وقت لا تُعرِّض فيه الإسلاموفيليا (التماهي مع الإسلام) الشخصيات العامة إلى السحل الرمزي والتشهير. ومع ذلك... كان شاعرنا ملكيًّا وكاثوليكيًّا جدا، ولم تكن له على ما يبدو من الميزات التي من شأنها إغواء المغنّي الفرنسي الأناركي جورج براسانس، الذي غنى قصائده، أو الشبكات الاجتماعية الإسلامية، التي تشيد به اليوم. بل كان مؤيّدًا لتفكيك أوصال الإمبراطورية العثمانية وغزو الجزائر في سنوات شبابه الأولى، واختار الصليب ضد الهلال، مثل صديقه فيكتور هوغو. لكنه تأثر كثيرًا بالاستقبال الذي حظي به من قبل الشرقيين في 1832-1833 وصُدم بمذابح الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فأصبح مدافعًا عن العثمانيين، ومن بعدهم عن المسلمين، إلى درجة نشر سيرة للنبي سقطت في غياهب النسيان1. في غضون ذلك، ترأس السلطة التنفيذية الفرنسية الناتجة عن ثورة 1848 وعمل على ترقية مثله العالمية، فكتب:


لوني هو لون أولئك الذين يُضطهدون!
لا حب لي ولا كراهية للأعلام المختلفة
حيثما يعاني الإنسان، سيجدن في صفه
وكلما هُزم جنس بشري ودُنّس،
كلما ازدادت قداسته في عيني وأصبح لي وطنًا2]].

“خُلقتُ متديّناً، كما خُلق الهواء شفّافًا”، هكذا عرّف لامارتين نفسه، هو الذي أكّد دائما على إخلاصه للمسيحية في مواجهة منتقديه الكاثوليك، على الرغم من أن تديّنه غير المعتاد قد التقى بالإسلام في نقاط عديدة. وجد في الشرق الذي انجذب إليه منذ شبابه روحانية تسحره: “هذه الأرض العربية أرض المعجزات. (...) الله أكثر تجليًّا هناك من هنا: لهذا السبب أريد أن أشيخ وأموت هناك”، هكذا كان يقول في أيام شيخوخته. كما حثّ أبناء بلده على أن يستلهموا من التسامح الديني العثماني:

يمكن للدين المحمدي3 أن يدخل، دون جهد ودون صعوبة، في نظام من الحرية الدينية والمدنية؛ (...) فقد اعتاد أن يتعايش في سلام وانسجام مع العبادة المسيحية.. (...) يمكننا، ضمن الحضارة الأوروبية (...) أن نترك له مكانه في المسجد، ومكانه في الظل أو في النور4.

في إشادة ترقى إلى وصية روحية، يعترف الشاعر في “مذكّراته السياسية” أنه استخلص هذه القناعات من أسفاره إلى الشرق، التي حوّلته إلى مؤيد لإله عالمي، والأخلاقي وإلى إنسانوي بلا حدود:

غادرنا كإنسان لنعود كفيلسوف. إننا فقط في صف الله. يصبح الرأي فلسفة وتصير السياسة دينًا. ذلك هو تأثير الرحلات الطويلة والأفكار العميقة عبر الشرق.

“بلد من الانصهار والتباين في الوحدة”

نزعته الإنسانوية ليست وليدة بعض الغرائبية الرومانسية، بل جاءت من تأمل تاريخي لبلده:

إن فرنسا، جغرافيًا وأخلاقياً، بلد انصهار وتباين في كنف الوحدة. (...) هي نفسها ليست أكثر من مزيج رائع من الأجناس والدم واللغات والأعراف والتشريعات والشعائر، التي تذوّب كل ما لديها من التنوع في وحدة بطيئة وشاقة. (...) لذلك فإن التنوع هو الطابع الأساسي والأساس لفرنسا القومية.. (...) فقر الأعراق القومية الأخرى في أوروبا يأتي من كونها لا تحظى سوى بطابع قومي؛ في حين تكمن عبقرية فرنسا وجدارتها وعظمتها ومجدها في التعدد.

أساء منتقدو الاستشراق السياسي5 فهم لامارتين، حيث حكموا عليه من خلال قراءة أحادية مبتورة لكتابه “رحلة في الشرق”، في حين أن الاقتصار عليه يعني تجاهل التطور اللاحق للكاتب. يمكننا أن نكتشف في عمل لامارتين رحلة فكرية موازية لاكتشافه الشخصي للشرق، تقوده من حساسية شعرية قريبة من روحانية القرآن، إلى إنسانوية منفتحة على المسلمين. إذ ترافق نفاذه للقداسة الإسلامية مع تعاطف تجاه المسلمين، مما جعله يتعمق في سيرة نموذجهم الروحي والزمني، قصد شرح ذلك لقرائه. لذلك، أراد لامارتين أن يستكشف المجال الكامل للقداسة الإسلامية، من الوحي القرآني إلى ترجمته في الحياة اليومية للنبي، كما لو كان يسعى إلى تحقيق توازن بين الإثنين. قدرته على التطور المرتبطة بانفتاحه الذهني، لافتة للنظر: إننا هنا أمام أرستقراطي ملكي أصبح نائبًا يساريًا، ومادح للإمبريالية الأوروبية انتقل إلى مناهضة الاستعمار، وكاثوليكي أصولي تحوّل إلى مشيد بمحمد! تم هذا النضج الفكري في نفس الوقت، ليتبين مدى تكامله. وهو يكشف على التوالي، من حيث السياسات الداخلية والخارجية والدين، مواقف إنسانية كانت تلجمها بيئته وتعليمه. وهي مواقف تستجيب لمنطق شامل، فاحترام المظلومين في مجتمعه الأصلي يسير جنبًا إلى جنب مع احترام المسلمين المحتقرين في أوروبا. وبالتالي، فإن حياة هذا العقلاني المخلص تُظهر انسجاماً لم يغفره له معاصروه، والذي يمكن للأحفاد أن يستلهموا منه بشكل مفيد.

“على المسيحيين أن يتساءلوا”

إذا كانت روحانية الإسلام تثير حماسته، فإن هذا الإنسانوي معجب بشكل خاص بالتسامح الإسلامي:

هذا التعصب الوحشي المزعوم الذي يتهم به الجاهلون الأتراكَ6، لا يتجلى إلا من خلال التسامح واحترام ما يقدسه الرجال الآخرون ويعبدونه. حيثما يرى المسلم فكرة الله في أفكار إخوته، فهو ينحني ويحترم. إنه يعتقد أن الفكرة تجعل الشكل مقدّسًا. إنه الشعب المتسامح الوحيد. على المسيحيين أن يتساءلوا ويسألوا أنفسهم بحسن نية، عما كانوا سيفعلون لو أن أقدار الحرب سلّمت لهم مكة والكعبة!

لامارتين، ممرّر للإسلام

أظهرت حرب القرم التي واجهت فيها روسيا تحالفًا مكوّنًا من فرنسا والمملكة المتحدة وسردينيا والإمبراطورية العثمانية من 1853 إلى 1856، مدى خطورة طموحات هيمنة روسيا على الأوروبيين الغربيين. وقد بدّدت لبعض الوقت وهم العدو المسلم، لكن نجاح لعبة مقياس القوة المسماة بـ“الرأس التركي” في معارض ذلك الوقت تشهد على ترسيخه شعبيا. تسمح تلك اللعبة بقياس القوة العضلية من خلال ضرب مطرقة على رأس ملفوف بعمامة، وكان مسَلّماً أن كلمة “التركي” تعني مواطني الإمبراطورية العثمانية، بمن فيهم العرب.

 وسام حرب القرم، باريس، 1854، ونرى عليه صورة لنابليون الثالث محاطًا بالملكة فيكتوريا والسلطان العثماني عبد المجيد الأول (نقشها أرماند أوغست كاكي بين 1793 و1881).
وسام حرب القرم، باريس، 1854، ونرى عليه صورة لنابليون الثالث محاطًا بالملكة فيكتوريا والسلطان العثماني عبد المجيد الأول (نقشها أرماند أوغست كاكي بين 1793 و1881).
Cgb Numismatique, Paris

إن الروابط بين الاستشراق والاستعمار في القرن التاسع عشر معروفة جيدا، وبالتالي لم يكن ذلك الوقت أكثر ملاءمة للإسلام من زماننا. لكن في تلك الفترة، لم يختلق الفرنسيين بعد خطرًا عربيًّا-مسلمًا ليكون بمثابة كبش فداء لمخاوفهم الهوياتية. وبالتالي لم يكونوا يُوصمون أي تعبير للتماهي مع هذا الدين. كان النقاش العام يترك مجالاً للـ “إسلاموفيليا”، احتله عدد من أبرز الكتاب. ونظرًا لشهرته، يمكن اعتبار لامارتين أهم “ممرر للإسلام” في فرنسا المعاصرة. وقد تبعه مؤلفون آخرون من القرن التاسع عشر، حيث شاركوه احترامه لهذا الدين، وهو أمر تجاهله معظم قرائهم. لامارتين، الذي وُلد عام 1790، هو الأكبر في جيل ينتمي إليه أصدقاؤه فيكتور هوغو والكساندر دوماس، وكلاهما ولد عام 1802. جعل فيكتور هوغو نفسه مدافعا عن محمد في ديوانه “أسطورة القرون”، وكتب ألكسندر دوماس في مذكراته عن رحلة إلى شبه الجزيرة العربية:

دمج كل هذه المعتقدات في واحدة، وتوحيد جميع العرب تحت ظل قانون مشترك، وإعطاء هذا الشعب دفعة جديدة، تلك كانت المهمة الهائلة التي اضطلعت بها عبقرية محمد. كيف يمكن بالتالي أن نرفض تحية ثناء لمن خلق كل ما يقدمه التاريخ الإسلامي من عظمة ونبل ومجد؟"

ويتبع لامارتين الفيلسوف أوغست كونت (1798-1857)، الذي أشاد بـ“محمد الذي لا يُضاهَى”، والمؤرّخ والسياسي إدغار كينيه (1803-1875) الذي اعتبر أن “الإسلام بدأ لأول مرة في تحقيق مبدأ المساواة”، وإدوارد دي لابولاي (1811-1883)، صاحب القصة الفلسفية “عبد الله أو النَّفَل ذو أربعة أوراق” في عام 1859، والتي يحمل غلافها عبارة “الله أكبر”.

نشر جول فيرن (1828-1905) في 1847 قصيدة “القرآن”: “لا إله إلا الله، الله7!”. وقال محمد بنيس، أحد نقاد الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه إن جزءًا كاملاً من حياته (1842-1898) واهتماماته الثقافية مشبع بتعلقه بالثقافة العربية الإسلامية. كما اعتنق آرثر رامبو (1854-1891) الإسلام بعد أن استقر في عدن عام 1880. أخيرًا، كتب الأديب بيار لوتي (1850-1923) في عام 1908: “نحن الأوروبيون نعتبر من الحقائق المسلَّم بها أن الإسلام ليس سوى دين ظلامي. (...) وهذا يدل أولا وقبل كل شيء على الجهل المطلق بتعاليم الرسول”.

يمكن إضافة كُتاب آخرين أقل شهرة، وعدد من الفنانين إلى هذه القائمة السريعة والمثيرة للإعجاب. كلهم يشهدون على إسلام ملهم لأفضل المؤلفين وبالتالي فهو جزء من الثقافة الفرنسية الأكثر رسوخًا، بعيدًا عن العنصر الأجنبي الذي يندد به البعض اليوم. إن الصورة المرتبطة بالقرن التاسع عشر على أنه إسلاموفوبي - لأنه إمبريالي – اختزالية، كونها تتناسى هؤلاء الكتاب المرموقين. لقد عاشوا في وقت كان فيه الفرنسيون يستطيعون التعبير عن احترامهم للإسلام دون إثارة الشكوك..

تمت ترجمة سيرة لامارتين عن محمد إلى اللغة العربية، وقد يكون معظم قرائه الآن مسلمين، كما تظهره الاستشارة عبر الإنترنت. مع ذلك، لم يفكر أي زعيم فرنسي حتى الآن في استخدام هذا الجزء من التراث الأدبي لبلاده لتعزيز اندماج الإسلام، أو لمكافحة صورة بلد إسلاموفوبي باتت اليوم رائجة بين العديد من المسلمين. إننا في حاجة إلى إعادة اكتشاف لامارتين.

1تشكل هذه السيرة الذاتية، التي أُخذ منها المقطع الذي اقتبسناه كافتتاح للمقال، الجزء الأول من كتابه “تاريخ تركيا” - Paris, Aux bureaux du Constitutionnel, 1854.

2من قصيدة “توسان لوفرتور”، 1850.

3كانت عبارة “المحمدية” مرادفا للإسلام آنذاك.

4لامارتين...رحلة الى الشرق - Alphonse de Lamartine, Voyage en Orient, in Œuvres complètes de M. de Lamartine, Paris, Charles Gosselin, Furne et Cie, 1842, tome 7, p. 148.

5اُنظر/ي إدوارد سعيد، “الاستشراق”.

6كانت كلمة “الأتراك” مرادفا للعثمانيين في ذلك الوقت، وبالتالي تشمل العرب.

7كتبها كما تُلفظ بالعربيّة.