مراقبة سبرانية

إسرائيل في مستنقع قضية بيغاسوس

لم يهتم أحد في الماضي بالبرامج الإسرائيلية طالما كان الهدف منها السيطرة على الفلسطينيين. لكن فضيحة بيغاسوس جعلت الموضوع يجتاز هذا الإطار بالكشف عن عمليات تنصت على سياسيين إسرائيليين، وعن ممارسات ليست بالبعيدة عن ممارسات الدول المارقة. كل هذا أثار مخاوف الكثيرين، لا سيما الحليف الأمريكي.

في غضون أسبوعين، بداية شهر فبراير/شباط، اتخذت “قضية بيغاسوس” منعطفًا غير متوقع في إسرائيل. فقد كان تومر غانون، وهو صحفي يعمل بموقع الأخبار الاقتصادية الإسرائيلي “كالكاليست”، يقدّم يوميا عناصر جديدة حول لغز شركة المراقبة الإلكترونية NSO وبرنامجها المعجزة “بيغاسوس” للتجسس غير المحدود حتى على الهواتف التي تتمتع بأكبر قدر من الحماية، والحال أنهما كانا إلى حد ذلك الوقت يتمتعان بصورة إيجابية جدا في إسرائيل. كيف لا، وقد نصّبت بيغاسوس نفسها كسلاح من أعلى طراز في “الحرب ضد الإرهاب”، سلاح تُحسد عليه إسرائيل من قبل عظماء هذا العالم.

ما المشكلة في تطوير تقنية رائعة لعزل شعب بأكمله والسيطرة عليه -ونتحدّث هنا عن الفلسطينيين، ولكن ينطبق الكلام كذلك عن شعوب أخرى في أماكن أخرى-؟ وحدهم بعض المدافعين الإسرائيليين عن حقوق الإنسان كانوا يستنكرون الأمر. وكما كتب الصحفي أنشيل بفيفر، “لم يكن الإسرائيليون يكترثون ببيغاسوس وبالـNSO قبل تفجير هذه الفضيحة”1. بالعكس، فبالنسبة إلى معظم الإسرائيليين، كان اختراع هذه التكنولوجيا وانتشارها في جميع أنحاء العالم موضع فخر. فقد مكّن استخدام برنامج “بيغاسوس” من التجسس على رؤساء المنظمات غير الحكومية الفلسطينية لسنوات، من بينهم على سبيل المثال المحامون الذين يسعون إلى إمداد تحقيق المحكمة الجنائية الدولية بالأدلّة حول الأعمال التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي (وحركة حماس) خلال الحرب على غزة خلال صيف 2014. فبالنسبة للغالبية العظمى من الإسرائيليين، يُعدّ تعقّب هؤلاء عملا يُحمد عليه.

هديّة للأنظمة العربية

كانت “بيغاسوس” وغيرها من البرامج المماثلة تتويجًا لعقود من المجهودات من قبل قوات الأمن الإسرائيلية من أجل إرساء نظام مراقبة أكثر ولوجا في شعب بأكمله، بعيدا عن أي قيود عامة. وقد مثّلت الضفة الغربية مخبرا لتقنيات جرى “تحسينها” باستمرار. وما لبثت أن قامت أكثر من 100 دولة بالتواصل مع شركة NSO وشركات إسرائيلية أخرى للاستفادة من خبرتها، وهي على يقين أن البائعين الإسرائيليين لن يهتموا كثيرا بطريقة استعمالها. وقد جاء في جريدة “هآرتس” سنة 2021: “أينما ذهب نتانياهو، تبعته NSO2. حتى الشكوك حول الدور الذي لعبته “بيغاسوس” في اغتيال المعارض السعودي جمال خاشقجي عام 2018 لم ينقص من الهيبة التي كانت شركة NSO تتمتع بها في إسرائيل. وفي نهاية الأمر، فقد ساهمت “الهدايا الإلكترونية” الإسرائيلية للأنظمة العربية إلى حد كبير في توقيع “اتفاقيات أبراهام”، هذا التحالف غير المسبوق بين إسرائيل وممالك الخليج (والمغرب) والذي روّج له دونالد ترامب.

كانت هذه المرافق مغرية للغاية. ولم يكن هناك أي سبب لكي يتمّ في يوم من الأيام استخدام المراقبة الإلكترونية السرية المفرطة والواسعة النطاق للتجسس على الإسرائيليين أنفسهم، ودون علمهم. وبالفعل، هذا ما حدث. وبفضل مقالات موقع “كاكاليست”، صرنا نعلم اليوم أن الشرطة الإسرائيلية استخدمت أيضا برنامج “بيغاسوس” من قبل أجل عمليات مراقبة لا تمت بصلة بـ “الحرب ضد الإرهاب”. فقد تم التنصّت على رؤساء بلديات، ومديري دواوين وزارية، وفحص إيماءاتهم، وكشف علاقاتهم، ونقل حديثهم إلى من أمر بوضعهم تحت المراقبة. نفس الشيء بالنسبة إلى قادة حركة “الراية السوداء” الذين قادوا المظاهرات المطالبة باستقالة بنيامين نتانياهو، لما كان الأخير رئيسًا للوزراء. والأدهى هو أنه تمّ حتى “تعقّب” أثر ابنه أفنير نتنياهو...

يا لها من فضيحة! اليوم وقد صار بدوره رئيسا للوزراء، ها هو نفتالي بينيت، زعيم المعسكر الديني الاستيطاني، يشرح للشعب البسيط أن “بيغاسوس” كغيره من برامج التجسس الإسرائيلية الأخرى يلعب بالتأكيد “دورًا مهمًا للغاية في مكافحة الإرهاب”، لكن لا يُفترض أبدا أن “يُستخدم ضد الشعب الإسرائيلي”. أما وزير الأمن الداخلي عمر بارليف، الذي ظل يكرّر طيلة الأيام الأولى أنه لم يحدث شيء يُذكر، فقد وعد في نهاية المطاف بتشكيل لجنة تحقيق. لكن عناصر من المجتمع المدني يطالبون بتشكيل لجنة عامة، لا حكومية.

تتأجّج إذن الأزمة الديمقراطية داخل إسرائيل، لتَفتح ملفات لم تكن تُفتح في السابق، أو لم تكن تزعج أحدا. وهكذا يعود فجأة إلى سطح الذاكرة كون نفتالي بينيت جمع ثروته في مجال المراقبة الإلكترونية، ببيع شركتين من هذا النوع إلى الصناديق الأمريكية مقابل 100 مليون دولار، وقد حصل ذلك قبل عشر سنوات. ويُلاحظ أيضًا أحدهم أن الصديقة الحميمة للمسؤولة الثانية في حزب بينيت، أي وزيرة الداخلية أيليت شكد، هي المدعوة شيري دوليف.. وهي الرئيسة المشاركة لشركة NSO. كما علمنا أن يوسي كوهين، رئيس الموساد الذي خرج إلى التقاعد مؤخرًا، كان قد فكّر في الاستثمار في المراقبة الإلكترونية بالاشتراك مع جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب، وستيفن منوتشين، وزير الخزانة السابق. واكتشفنا أخيرًا أنه عندما كُشفت قضية بيغاسوس، كان المتحدث باسم NSO متحدثا سابقا باسم الجيش الإسرائيلي. أما في الولايات المتحدة، فقد اختارت NSO لنفسها مدافعا هناك هو رود روزنشتاين، مساعد وزير العدل الأمريكي في عهد ترامب. وهكذا يبدو مجال المراقبة الإلكترونية الإسرائيلية كنادٍ خاصّ.

خطاب نتانياهو السخيف

طبعا، لا تخلو القصة من بعدها السخيف. فقد حثّ نتانياهو المقرّبين إليه على تبني القضية للمطالبة.. بسحب الإجراءات المرفوعة ضده فوريّا! فمن المؤكّد أن الشرطة تحايلت على القانون من خلال لجوئها إلى المراقبة الإلكترونية، عند القيام بتحقيقها من أجل تعزيز تهم الفساد الموجهة إليه. كم شخصا تم التجسس عليه بشكل غير قانوني؟ لذا، يدعي مؤيدو نتانياهو أنه لا يجب فقط إعلان أن الإجراءات القانونية ضده باطلة، بل يجب كذلك إلغاء نتائج الانتخابات، حيث تعرّض بطلهم خلالها لحملة تشهير لا أساس لها. فبعد أن وقع في الجبّ، أصبح رئيس الوزراء السابق هو من يحفر. إنها وقاحة لا مثيل ولا حدود لها. طوال عشر سنوات، كان نتنياهو بمثابة ممثل تجاري عن شركة NSO لجني أرباح نجاحات إسرائيل الدبلوماسية. وها هو اليوم يجعل من سوء استخدام برامج التجسس سبب سقوطه. ربما نسي ما تفوّه به في 3 ديسمبر/كانون الأول 2015، عند تولي روني الشيخ -وهو مستوطن متدين وكان الرجل الثاني في الشاباك- منصبه كرئيس جديد للشرطة، وقد كان نتانياهو اختاره بنفسه: “لقد أصبحت التكنولوجيا الإلكترونية جانبًا مهمًا في كل إجراءات الدولة. أتوقع يا روني أن تستخدم هذه التقنيات في عملياتك الأمنية لحماية المواطنين وفرض القانون”3. ونِعمَ الكلام.

ليس مستقبل نتانياهو الشخصي هو المهم. بل المهم هو التداعيات الملموسة لقضية “بيغاسوس” على إسرائيل -وهي دولية أكثر منها محلية. بالتأكيد، وكما كتب أحد كتاب الأعمدة الإسرائيليين، فإن الحقيقة هي أن “NSO هي جزء من قلب وروح المؤسسة الإسرائيلية”4. لكن أهمية قضية “بيغاسوس” تكمن أكثر في بعدها الدولي وتأثيرها على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. فوفق مجلة New York Times Magazine (28 يناير/كانون الثاني 2022)، حصل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي منذ يونيو/حزيران 2019 على نسخة محدودة من برنامج “بيغاسوس”. وقد تم ذلك بعد ثمانية أشهر من اغتيال جمال خاشقجي، وبعد عدة عروض قام بها خبراء شركة NSO أمام سلطات مكتب التحقيقات الفيدرالي. كما تم تعديل البرنامج خصوصيا حتى يتسنى تفعيله على الأراضي الأمريكية (فقد كان برنامج “بيغاسوس” قد استبعد الولايات المتحدة من نطاق نشاطه، مراعاة لمصالح الحليف الكبير). وفي بداية فبراير/شباط 2022، أقرّت الشرطة الفيدرالية الأمريكية بأنها “اختبرت” البرنامج قبل التراجع عن شرائه في يوليو/تموز 2021. أي تحديدا عندما كشف الاتحاد الدولي للصحفيين Forbidden Stories عن تحقيقه بشأن بيغاسوس.

توترات بين واشنطن وتل أبيب

يبدو من طريقة ردها أن السلطات الإسرائيلية لم تعِ حقا أبعاد الفضيحة. واقتصرت باختصار على اعتبار أن التهجم على شركة NSO يعني إضعاف معسكر المدافعين عن الديمقراطية في مواجهة الإرهاب. لكن بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وضعت وزارة التجارة الأمريكية شركة NSO (وشركة أخرى تُدعى “كانديرو”) على قائمة سوداء للمنظمات والشركات التي تعتبر أنشطتها “مخالفة للأمن القومي أو لمصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة”. ووفق ما كتب مراسلا “نيويورك تايمز” رونين بيرغمان ومارك مازيتي، كان ذلك بمثابة “رفض أمام الملأ لشركة أصبحت، على أكثر من صعيد، جوهرة الصناعة العسكرية الإسرائيلية” (18 يناير/كانون الثاني 2022). ولم يُعلم الأمريكيون وزارة الدفاع الإسرائيلية بقرارهم إلا ساعة قبل إصداره، وقد بلغ الوضع درجة عالية من التشنج.

لفترة قصيرة، ظن نفتالي بينيت أن بإمكانه ثني جو بايدن عما هو مقدم عليه. وقد أعلن إيغال أونا، رئيس المديرية الإلكترونية الوطنية، بأن هذا “الهجوم (...) جزء من خطة عامة ترمي إلى كبح التقدم الإسرائيلي”. كما ادعى المبعوثون الإسرائيليون إلى واشنطن أن أول المستفيدين من اختفاء شركة NSO سيكونان روسيا والصين. رُغم ذلك، لم يحد الأمريكيون عن قرارهم. أما بالنسبة للحجة التي كرّرتها NSO بأنها لا تتحمل مسؤولية سوء استخدام بعض الدول لبرنامج من قبيل أن “شركات صناعة السيارات ليست مسؤولة عن سلوك السائقين المتهورين”-، فهي لم تُبهر مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الذين ألفوا هذا النغم.

استوعب الإسرائيليون في نهاية المطاف قرار البيت الأبيض بوضع شركة NSO على قائمته السوداء للشركات المنبوذة. وقد أسفر ذلك عن ثلاث نتائج. أولاً، ضربة قاسية لـ“دبلوماسية التكنولوجيا الإلكترونية” التي تطوّرت في عهد نتانياهو، والتي كانت تعتمد على بيع معدات المراقبة لحمل الدول على دعم إسرائيل. نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أن عدد العملاء في إسرائيل المستفيدين من منتج “بيغاسوس” سينخفض قريبًا من 103 إلى 37 فقط. كما تم استبعاد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمغرب من قائمة البلدان المستفيدة، في تعارض تام مع فلسفة “اتفاقيات أبراهم”. لكن ذلك لم يكف لتغيير رأي واشنطن.

ثانيًا، كان لقضية “بيغاسوس” تأثير أعمق على صورة إسرائيل الدولية. فقد أدى الكشف عن معلومات Forbidden Stories إلى إظهار أن هذا البلد يتصرف من نواح كثيرة كدولة مارقة. وأصبح مصير توماس زيرون دي لوسيو مثالاً لتعاملات إسرائيل المربكة. فقد كان زيرون رئيسا للشرطة المكسيكية، وتفاوض مع شركة NSO للحصول على معدات واسعة النطاق من “بيغاسوس”. ويُشتبه اليوم في أنه نظم سنة 2014 مذبحة 43 طالبا، كما تتهمه الرئاسة المكسيكية الجديدة منذ 2019 بـ “التعذيب والخطف وإخفاء الأدلة”. لجأ زيرون إلى إسرائيل، حيث لا يزال يقيم. وقد طالبت المكسيك في أكتوبر/تشرين الأول 2021 مرة أخرى بتسليمه، لكن نفتالي بينيت رفض.

تدهور صورة إسرائيل في الولايات المتحدة

في الولايات المتحدة على الأقل، ساهمت قضية “بيغاسوس” خاصة في وضع الأساليب الإسرائيلية للسيطرة على الفلسطينيين في مركز الاهتمام الإعلامي. لقد سبق وشهدت صورة إسرائيل تدهورًا حادًا أثناء قصف غزة في ربيع 2021. وبقضية شركة NSO، جلبت المراقبة غير المحدودة للفلسطينيين اهتمام وسائل الإعلام. من بين الأمثلة على ذلك ما حصل في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حيث نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تحقيقًا معمقًا حول “برنامج واسع للتعرف على الوجوه” يُضاف إلى أدوات المراقبة الإلكترونية للفلسطينيين، والتي تم إرساؤها منذ سنوات. وقد أوضح التحقيق أن هذا البرنامج يعتمد على تضاعف الكاميرات وعملية اختراق للهواتف ذكية تسمىBlue Wolf (الذئب الأزرق). جميع السكان معنيون بهذا البرنامج، “بمن فيهم الأطفال وكبار السن”. وأسرّ جندي إسرائيلي للصحيفة الأمريكية أن هذا النظام “يقتفي أثر [الفلسطينيين] إلى منازلهم”. ويتحدّث جندي كان في الخليل عن “انتهاك لخصوصية شعب بأكمله”.

وجّهت الصحيفة سلسلة من الأسئلة إلى المتحدث باسم الجيش. وكان جوابه أن تحسين تقنيات المراقبة يتعلق “بالعمليات الروتينية (...) في مكافحة الإرهاب والجهود المبذولة لتحسين جودة حياة الفلسطينيين في يهودا والسامرة”5. تذكّر صحيفة “واشنطن بوست” بأن هذه التقنيات محظورة من قبل العديد من المدن الأمريكية الكبرى لأنها تنتهك الخصوصية، وبأن برلمان الاتحاد الأوروبي صوّت في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 من أجل حظر تقنيات التعرّف على الوجه في الأماكن العامة. وفي إسرائيل نفسها، رفضت السلطات استعمالها! لكن، وكما جاء في صفحات “واشنطن بوست”، “تطبّق إسرائيل معايير مختلفة في الأراضي المحتلة”. وكلما عرفنا المزيد عن NSO وأمثالها، كلما تبينت أكثر الأساليب المستخدمة للتحكم في كل لحظة من حياة شعب آخر، وكلما ظهرت إسرائيل كنموذج لسلطة تعتمد على الهوية، جمعت بين أكثر التقنيات تقدمًا في تحد صارخ للقانون.

ومع ذلك، فإن تدهور صورة إسرائيل لا يُقلق قادتها بقدر ما تُقلقهم العواقب الاقتصادية المحتملة لقضية “بيغاسوس”، بما في ذلك في فرنسا حيث “تودّ الشركات أن يكون لديها ما يُعادل الموساد”. أولاً، يرفض قطاع التكنولوجيا العالية بأكمله رفضا واسعا الشركات الإسرائيلية الناشئة التي تعمل في مجال المراقبة الإلكترونية. وقد باتت الأخيرة، وفق ما جاء في جريدة “هآرتس”، توصف بـ“مرتزقة الإنترنت”. ونجد التعبير نفسه في الشكوى التي قدمتها شركة “ميتا”، الشركة الأم لموقع فيسبوك، ضد NSO وCowebs، وهي شركة إسرائيلية أخرى تطوّر برامج للولوج والتجسّس. ويتهم فيسبوك الشركتين بـ “إنشاء حسابات وهمية لزبائنه تقوم بمراقبة الإنترنت، وخاصة الشبكات الاجتماعية”6. كما يتّهم فيسبوك أربع شركات إسرائيلية أخرى (هي “بلاك كيوب” و“بلو هوك” و“كونيايت” و“سيتروكس”) بالعمل “تحت الرادارات” للتجسس على حشد من الأفراد. ووفق “هآرتس”، يُظهر ملف فيسبوك “أن صبر قطاع التكنولوجيا العالية بدأ ينفد” في مواجهة انتشار هؤلاء “المرتزقة”.

يتجسد “نفاد الصبر” هذا، على سبيل المثال، عندما تتهم شركة “مايكروسوفت” علنًا الشركة الإسرائيلية الناشئة “كانديرو” ببيعها لزبائنها برامج قادرة على اختراق أنظمة الكمبيوتر الخاصة بها (رويترز، 15 يوليو/تموز 2021). ومن جانبها، أبلغت شركة “آبل” في ديسمبر/كانون الثاني 2021 أحد عشر دبلوماسيًا من السفارة الأمريكية في كينيا أنه تم التجسس على هواتفهم بواسطة برنامج “بيغاسوس”7. كذلك كان الحال بالنسبة لتسعة دبلوماسيين آخرين في أوغندا. وقد تم ربط جميع هواتفهم بعناوين بريدية إلكترونية تابعة لوزارة الخارجية باستخدام “آي كلاود”، نظام تخزين “آبل”. وهكذا تم القبض على NSO متلبّسة بتهمة الإضرار المباشر بالمصالح الأمريكية.

عائدات الصادرات الرائعة.. مهدّدة

أخيرًا، فإن أسوأ نتيجة للقرار الأمريكي بإدراج “بيغاسوس” في القائمة السوداء هي اقتصادية. لا توجد أي دولة في العالم تحتل فيها مبيعات الأسلحة والمعدات الأمنية مكانة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي كما هو الحال في إسرائيل، إذ يوظّف هذا القطاع وحده 10٪ من موظفي الدولة. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت أجهزة المراقبة الإلكترونية مصدرًا جديدًا للثروة، سريع التطور. ووفقًا للمديرية الإلكترونية الوطنية الإسرائيلية، فقد حققت هذه الأجهزة 3,4 مليار دولار من العائدات في عام 2021، أي 41٪ من إجمالي مبيعات قطاع الأمن، بما في ذلك الأسلحة. لكن تقرير Forbidden Stories وخاصة قرار الحظر الأمريكي جعلا هذا القطاع الصناعي المتنامي بشكل كبير يواجه مخاوف من فقدان أسواق مهمة. ويتمثل الخيار الأسوأ في أن تنفّذ واشنطن حرفياً قرارها بحظر شركة NSO. لأن المشكلة بالنسبة لإسرائيل ليست في منع NSO من بيع منتجاتها في الولايات المتحدة، بل إن الحكومة الأمريكية تفرض على الشركات الأمريكية التي تصنع عناصر لها دور في تشغيل برنامج “بيغاسوس”، التوقف عن تزويد NSO أو غيرها بها. ما قد يؤدي بإفلاس هذه الشركات الناشئة.

في هذا الجو، لم تُبد الشركات المنافسة لـ NSO أي تضامن مع الأخيرة، بل باتت كل شركة تواجه مصيرها بمفردها. تتهم كلّ من شركة NSO و“كانديرو” الأخرى بأنها انحرفت عن مسار هذه المهنة الجميلة. كما تتعدّد مخاوف الإفلاس. “كانديرو” في موقع لا تُحسد عليه، وقد شرع مهندسوها بالفعل بالبحث عن عمل في شركات أخرى. من جهتهم، يبحث مالكو NSO عن مشتر. ولكن حتى لو اختفت NSO أو “كانديرو” أو غيرهما، من سيصدق أن هذه الصناعة ستنهار؟ إن التحديات التي سمحت لإسرائيل بالاستفادة من المهارات المشكوك فيها ولكن المفيدة للغاية لهذه الشركات لن تختفي. ومن المرجح أن يحلّ آخرون مكانها قريبًا، بموافقة متجددة من القادة الإسرائيليين -وبرضوخ من زبائنهم. تفضّل صحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية الإسرائيلية اليومية شركة “باراغون” التي تم إنشاؤها مؤخرًا، والتي تخصّصت في ولوج شبكات مثل “ماسنجر” أو “سيغنال” أو “واتساب”، وقد جندت الكثير من الموظفين منذ ظهور صعوبات عند NSO. وكانت مجلة “فوربس” الأمريكية هي التي كشفت عن وجودها. ووفق المجلة، فقد قام “باراغون” بتقييم أخطاء أسلافه والاعتبار منها. “لن تكون الأنظمة الأوتوقراطية وغير الديمقراطية في لائحة زبائنه”. كلّ حرّ في تصديق ذلك.. أم لا.

في الأثناء، يراقب باهتمام مقدمو عروض اشتراء NSO و“كانديرو” من الإسرائيليين والأجانب متى ستركع هذه الشركات، على أمل الترحيب بألمع مهندسيها وخبراتهم. لكن لا يبدو الجانب الأمريكي مستعدًّا لأن تعود المياه إلى مجاريها كأن شيئا لم يكن. ففي 7 يناير/كانون الثاني 2022، دعا المركز الوطني لمكافحة الاستخبارات والأمن، وهو الوكالة الأمريكية الرئيسية لمكافحة التجسس، مواطني الولايات المتحدة إلى “أن يصبحوا أكثر وعيًا بالتهديدات التي تشكّلها شركات مثل NSO على الحريات والديمقراطية”8. كما لوحظ صعود طلب متزايد داخل المجتمع الأمريكي، طلب ترجمته مؤخرا افتتاحية في “واشنطن بوست” بعنوان: “مقاطعة شركة برامج التجسس الإسرائيلية هذه [NSO] ليست سوى الخطوة الأولى”9. وجاء في هذا النص أن الأمر الملحّ اليوم هو فرض ضوابط صارمة لا وجود لها حاليًا على هذا النوع من الشركات. يبدو التنظيم الدولي الفعال للمراقبة الإلكترونية غير واقعي في عالمنا هذا. لكن اعتماد بعض المعايير الجماعية المقبولة بشكل عام فكرة تزداد انتشارا. ليتفاقم معها قلق المسؤولين الإسرائيليين.

1Anshell Pfeffer, « Israelis didn’t care about NSO and Pegasus — until this scandal »، “هآرتس”، 5 فبراير/شباط 2022.

2Amitaï Ziv, « Where Netanyahu went, NSO followed : how Israel pushed cyberweapons sales »، “هآرتس”، 10 يوليو/تموز 2021.

3Anshell Pfeffer, « Pegasus scandal is a massive can of worms about to erupt all over Israel’s elites »، “هآرتس”، 7 فبراير/شباط 2022.

4Amos Harel, « Police Using Pegasus Spyware against Israelis shows NSO is an arm of the State »، “هآرتس”، 18 يناير/كانون الثاني 2022.

5Elizabeth Dwoskin, « Israel escalates surveillance of Palestinians with facial recognition program in West Bank »، “واشنطن بوست”، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

6Sagi Cohen, « ’CyberMercenaries’ : Israel spyware industry is getting damned around the world »، “هآرتس”، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

7« NSO Pegasus spyware used to hack US diplomats’ phones »، “واشنطن بوست”، 3 ديسمبر/كانون الأول 2021.

8Julian Barnes, « Biden administration warns against spyware targeting dissidents »، “نيويورك تايمز”، 7 يناير/كانون الثاني 2022.

9« Blacklisting this Israeli spyware firm is only the first step »، افتتاحية “واشنطن بوست”، 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2021.