أوكرانيا، فلسطين. لكلّ حرب سردُها

نفذ الجيش الإسرائيلي على مدى 48 ساعة في جنين أكبر عملية عسكرية له منذ الانتفاضة الثانية، بطيرانه ودباباته، ودفع بأكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني إلى النزوح. رغم ذلك، لم يُثر هذا الهجوم سوى ردود فعل دولية نادرة، على عكس التعبئة الدائمة لصالح الأوكرانيين. هذه المعايير المزدوجة تقوّض الخطاب حول كونية القانون الدولي.

نزوح سكان مخيم جنين في 4 يوليو/تموز 2023 بسبب العملية العسكرية الإسرائيلية.
جعفر اشتية/وكالة فرنس برس.

وفقًا لآخر إحصاء للأمم المتحدة، بتاريخ 5 يونيو/حزيران 2023، يبلغ عدد ضحايا حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا – التي يبلغ عدد سكانها 44.9 مليون نسمة - منذ اندلاعها 425 24 ضحية مدنية، معظمهم من الأوكرانيين، حيث قُتل 983 8 شخصًا وجُرح 442 15 آخرون. طبعًا، إنها حرب بغيضة لا مبرّر لها، هذا غني عن القول، ولكن نفضّل قوله بوضوح. وفعلاً، هكذا تنظر الصحافة ووسائل الإعلام الفرنسية والغربية، التي تغطي يوميًّا وأوّلاً بأوّل منذ أكثر من عام، جميع تفاصيل تطوّرات هذه الحرب. وهكذا يقدّمها أيضا إيمانويل ماكرون، رئيس الدولة الفرنسية، الذي يذكّر بانتظام، وبغض النظر عن بعض المراوغات، بدعمه الكامل لأوكرانيا. وهو في ذلك لا يحيد عن صراط القادة الأوروبيين الآخرين والرئيس الأمريكي.

ولئن اجتمعت كل الأسباب للترحيب بهذا الاهتمام، فمن المؤسف مع ذلك أن حروبًا أخرى، بنفس القدر من البشاعة، لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام المستمر والمستدام، وأن يكون القانون الدولي، مرة أخرى، ذريعة تُوظّف بحسب الجغرافيا.

لمن تحقّ المقاومة؟

هذا هو الحال على وجه الخصوص بالنسبة للحرب الدائمة التي يشنّها الجيش الإسرائيلي منذ سنوات عديدة على سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة – أي الضفة الغربية وقطاع غزة -، حيث يعيش حوالي 5.2 مليون نسمة، ذنبهم الوحيد هو.. وجودهم على هذه الأرض. لا غرابة في هذه المقارنة: هناك، بغض النظر عن خصائصهما، أوجه تشابه بين هاتين الحالتين. لكن طريقة التطرّق إليهما مختلفة للغاية، وهو أقلّ ما يمكن قوله.

فمثلاً، عندما يستغل فلاديمير بوتن بلا حياء ذكرى الحرب العالمية الثانية، التي دفع خلالها السوفييت ثمنًا باهظًا، لتبرير غزوه لأوكرانيا بحجّة “اجتثاث النازية” من هذه البلاد، يثير هذا التلاعب المخزي، عن حق، استنكارًا عامًّا. لكن عندما تقوم الحكومة الإسرائيلية بتزوير مماثل من خلال قولها إن المتظاهرين الذين يحشدون ضد قمع الفلسطينيين هم معادون للسامية ويحنّون إلى المحرقة، فإنها تجد متواطئين، مثل إيمانويل ماكرون على سبيل المثال، ليعلنوا بالفعل أن معاداة الصهيونية - التي لا نُنكر بأنها يمكن أن تُخفي أحيانًا أحقادًا عنصرية حقيقية - تُعدّ مبدئيًّا معاداة للسامية.

كذلك، لا يخطر على بال أحد إنكار حقّ الرئيس الأوكراني، الذي تزوّده فرنسا بالأسلحة بانتظام منذ بداية العدوان الروسي، في المقاومة والمطالبة بالعودة إلى حدود بلده المعترف بها دوليا. لكن الأمم المتحدة تطالب عبثًا، منذ عام 1967، بإعادة الأراضي الفلسطينية التي احتلّها الجيش الإسرائيلي في ذلك العام مع مرتفعات الجولان. ولا أحد في “المجتمع الدولي” يفكّر في تسليم أسلحة للمقاومة الفلسطينية، التي يتم التنديد بها بانتظام وتوصف بالـ “إرهاب”: فهل المقاومة “امتياز للبيض”؟ بل يُطلب من الفلسطينيين “تقديم تنازلات”، بينما تتم الإشادة بعناد السلطة الأوكرانية.

إن الأعمال الاستعمارية والحربية التي تُعتبر - عن وجه حق تمامًا – مرفوضة البتة في أوكرانيا، تُصبح مقبولة بشكل عام وسهل، عندما تكون من فعل الحكومة الإسرائيلية. ويمكن ملاحظة ذلك أيضا على مستوى الاهتمام – أو غياب أي اهتمام – بضحايا هذه الانتهاكات.

أموات لا ثِقل لهم

وفقًا لكييف، قُتل “485 طفلاً أوكرانيًا على الأقل” منذ بدء الغزو الروسي. وتثير هذه الحصيلة المروّعة سخطًا مشروعًا، كما يُعتبر مرتكبو هذه المجزرة، عن حق، جلادّين لا يمكن التعامل معهم. ولكن، ومرة أخرى، نرى تنسيبًا لهذا السخط وفق الجغرافيا. ففي نهاية عام 2008، أسفرت عملية “الرصاص المصبوب” على قطاع غزة التي ارتكب خلالها الجيش الإسرائيلي، وفقًا للأمم المتحدة، “أعمالًا ترقى إلى جرائم حرب وربما، في ظروف معيّنة، إلى جرائم ضد الإنسانية”، عن مقتل 1315 فلسطينيًا، من بينهم 410 أطفال.

بعد خمس سنوات، في صيف 2014، تسبب هجوم جديد على غزة - عملية “الجرف الصامد” التي انتهكت خلالها القوات الإسرائيلية، وفقًا لمنظمة العفو الدولية، “قوانين الحرب من خلال تنفيذ سلسلة من الهجمات على منازل المدنيين، مظهرة لامبالاة باردة تجاه المذبحة الناتجة عنها” - في مقتل 1354 مدنيًّا فلسطينيًّا، بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، من بينهم هذه المرة كذلك عدة مئات من الأطفال. رغم ذلك، لم تلق الحكومة الإسرائيلية جرّاء أفعالها نبذًا من صرح الأمم، ولم تتخذ أية عقوبة بحقها.

بفضل إفلاتها المضمون من أي عقاب، تواصل هذه الحكومة إجرامها. فقد قُتل في الأراضي الفلسطينية المحتلة 230 شخصًا برصاص الجيش الإسرائيلي أو المستوطنين في 2022. وفي الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023، “أزهق الجيش الإسرائيلي بالفعل أرواح أكثر من 161 فلسطينيًا”، بحسب وكالة فلسطين للإعلام. في 19 يونيو/حزيران 2023، قُتل ستة فلسطينيين، خمسة منهم مدنيون، من بينهم صبي في 15 من العمر، في غارة للجيش الإسرائيلي على مدينة جنين بالضفة الغربية. لكن وسائل الإعلام الفرنسية صرفت النظر بسرعة عمّا تعتبره حادثًا عاديًا، إذ لا شيء يجب أن يصرفها عن التغطية “المباشرة” اليومية التي تكرّسها لحرب بوتين على أوكرانيا. في 20 يونيو/حزيران 2023، كرّست صحيفة “لوموند” مع ذلك مقالًا بليغًا لمعلومة لم يلاحظها الكثير في فرنسا: “اتخذت الحكومة الإسرائيلية خطوة مهمة نحو ضم الضفة الغربية”.

كان من المفترض، في وقت يظهر فيه العالم الغربي بأسره أنه يدافع في كييف عن حقوق الشعوب، أن تثير مثل هذه الخطوة بوادر بداية انزعاج. لكن للفلسطينيين ذنب كبير، لا يُغتفر بالتأكيد، كونهم ليسوا أوروبيين. وقد لفّ الخبرَ على الفور صمت مطبق، ذلك الذي تُحاك تحته أسوأ الموافقات.