هجرة

الاتفاقية الفرنسية الجزائرية لسنة 1968 هاجس من مخيال الأحزاب اليمينية

تنص الاتفاقية، التي صُممت لتسهيل الهجرة الاقتصادية واستجابة للحاجة إلى العمالة المهاجرة خلال فترة “الثلاثين المجيدة”، على حرية التنقل بين البلدين للمواطنين الجزائريين. أُفرغ هذا النص من محتواه على مر السنين، ولم يعد له أي تأثير على تدفقات الهجرة. على الرغم من ذلك، يتحرك اليمين الفرنسي للمطالبة بإلغائه، مما يسمح له بإثارة المخاوف حول “غزو البلاد” من قبل المهاجرين العرب.

عمال جزائريون في موقع بناء عام 1973.
وكالة فرانس برس.

بدأ كل شيء في 25 مايو/أيار 2023 عندما تم نشر دراسة أجراها كزافييه دريانكور Xavier Driencourt، السفير الفرنسي السابق بالجزائر تحت عنوان: “سياسة الهجرة: ماذا يجب أن نفعل بالاتفاقية الفرنسية الجزائرية لسنة 1968؟”. الجواب على السؤال واضح من العنوان: يجب إلغاء النص الذي نسيه الجميع إلى حد كبير، سيما من “المستفيدين منه”، لأنه يشجع الهجرة الجزائرية إلى فرنسا، وهو موضوع مخاوف وتخيلات مهووسة لدى جزء من السكان.

في تلك الفترة، وضعت هذه الاتفاقية حدًّا لتوترٍ حاد بين فرنسا والجزائر بشأن عدد المهاجرين الجزائريين الذين يتم قبولهم في فرنسا. كانت باريس قد خفضت بقرار أحادي الجانب عدد الأشخاص الذين يتم قبولهم شهريًّا إلى ألف اعتباراً من تاريخ الأول من يوليو/تموز 1968. بعد ثلاث سنوات من الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين، وقّع كل من وزير خارجيته آنذاك عبد العزيز بوتفليقة وسفير فرنسا في الجزائر، جان باديفان Jean Basdevant، في 27 ديسمبر/كانون الأول 1968، على اتفاقية تسمح بدخول 35 ألف عامل جزائري إلى الأراضي الفرنسية سنويا. كما يسمح لهم هذا النص بالبقاء مدة 9 أشهر للعثور على منصب شغل، ولم يكن ذلك إنجازاً كبيراً في فرنسا خلال فترة الثلاثين المجيدة، حيث بلغ معدل النمو السنوي 5% وحيث كانت المصانع في حاجة إلى سواعد. وفي حال نجاحهم في الحصول على شغل، يحصل طالبو الهجرة على تصريح إقامة صالح لمدة 5 سنوات لهم ولأسرهم. وكان يمكن للسياح الجزائريين الحاملين لجواز سفر أن يدخلوا فرنسا بصفة حرة والبقاء فيها لمدة 3 أشهر بموجب نفس الاتفاقية. وتلتزم باريس من جهتها بتحسين التكوين المهني وظروف سكن المهاجرين الذين كثيرا ما كان يقتصر تشغيلهم على الوظائف الأكثر صعوبة، وغالباً ما يتم إيواؤُهم في أحياء قصديرية.

مزايا تقلّصت باستمرار

كانت بداية الاتفاقية بطيئة، إذ بالكاد تم قبول 30 ألف عامل في 1969، وهي السنة الأولى لتطبيقها. وقد دخل حوالي 20 ألف امرأة وطفل إلى فرنسا، ولكن، كما يلاحظ الأستاذ أندري آدم André Adam في مقال علمي، "كان عدد المغادرين مساوياً تقريباً.

هل يستفيد الجزائريون من معاملة لا يشملها قانون دخول وإقامة الأجانب المعروف تحت اسم “كوديسا” Codesa؟ ليس تماماً. فبدون أن يحظوا باتفاق مماثل، دخل المغربيون، الذين كانوا أقل عددا آنذاك، بأعداد أكبر، ولحقوا بالجزائريين وأصبحوا اليوم على بنفس عددهم.

في نهاية 1985، عشية انتخابات عسيرة وفي سياق ارتفاع البطالة، ألغى رئيس الوزراء لوران فابيوس Laurent Fabius المادة الأولى (المتضمنة قبول 35 ألف عامل كل سنة) والمادة الثانية (حول الإقامة لمدة 9 أشهر للعثور على عمل) للاتفاقية، وتمت إعادة كتابة النص بشكل تقييدي أكثر. تلاها تعديلان آخران عامي 1994 و2001. وتم حذف جزء “الدخول” من الاتفاقية وبقي جزء “الإقامة” ساري المفعول جزئيًّا. بعد ذلك بسنة، تم فرض التأشيرة التي أصبحت مفتاح دخول الأجانب إلى فرنسا. إنها الضابط الحقيقي لـلـ 800 ألف أجنبي الذين يعتزمون الذهاب إلى فرنسا. وقد حُجبت بصفة أكبر الاتفاقية الفرنسية الجزائرية التي لم تعد تُطبّق منذ ثلاث سنوات.

معارضو هذه الاتفاقية يطلقون النار ولا يصيبون، حيث إن بطاقة الإقامة التي استبدلت بشهادة الإقامة يستفيد منها 600 ألف جزائري مقيمون عموماً منذ مدة طويلة، ويتمتعون ببعض “الامتيازات” مثل الوصول الفوري إلى دخل التضامن الاجتماعي دون الانتظار عدة سنوات مثل بقية المهاجرين. وقبل نهاية 2022، أعلنت الوزيرة الأولى إليزابيت بورن - مستبقة الجميع ومستشعرة الرياح التي تهب من اليمين - خلال زيارة رسمية للجزائر لمضيفيها أنها تحضّر لـ “مراجعة” الاتفاقية. كان من المقرر إجراء تعديل رابع. بأي هدف؟ لم تتسرب أي معلومة، ما عدا وعد مبهم بتحسين ظروف 32 ألف فرنسي يعيشون في الجزائر، وهم بالأساس مزدوجو الجنسية ويحملون جوازي سفر، واحد للخروج من الجزائر والثاني للدخول إلى فرنسا.

تم استقبال ذلك ببرود. رأت الصحافة الجزائرية في هذا القرار انتهاكاً لاتفاقيات إيفيان التي قُبرت إلى حد كبير منذ 1962 من قبل الطرفين. ودان آخرون، مثل النائب الاشتراكي السابق في البرلمان الأوروبي (من أصل جزائري) كمال زريبي “ضربة موجهة للعلاقات الفرنسية الجزائرية”. وردًّا على ذلك، أوضح الرئيس عبد المجيد تبون في مقابلة مع جريدة “لو فيغارو” الفرنسية اليمينية في ديسمبر/كانون الأول 2022: “لقد تم التفاوض على حرية تنقل الجزائريين في فرنسا ويتعين احترامه. هناك خصوصية جزائرية حتى بالمقارنة مع البلدان المغاربية الأخرى”. ويُستشف ضمنيا من هذا أن شرف البلاد على المحك.

تطور للمجتمع الفرنسي مثير للقلق

عادت دراسة كزافييه دريانكور بشكل ملحوظ إلى الحياة السياسية الفرنسية في بداية صيف 2023. ففي مقابلة صحفية تم تداولها بصفة واسعة، التقط الوزير الأول السابق إدوارد فيليب Edouard Philippe الكرة ودعا بدوره إلى إلغاء الاتفاقية. وفي 26 يونيو/حزيران، قدم برونو ريتايو Bruno Retailleau، رئيس مجموعة حزب “الجمهوريين” اليميني في مجلس الشيوخ مع العديد من زملائه اقتراح قانون يطالب هو أيضا بهذا الإلغاء. وفي الأخير قدمت مجموعة نواب “الجمهوريين” في المجلس الوطني بدورها مشروع قانون من أجل إنهاء اتفاقية 1968. ويأخذ عرض الأسباب للنصين، في المجلس الوطني وفي مجلس الشيوخ، الصفحة الأولى من تقرير دريانكور دون أن يغير فيه سطراً واحداً. رفضت الجمعية الوطنية المشروع بأغلبية 151 صوتا مقابل 114، أي مجموع نواب “الجمهوريين” ونواب “آفاق”، مجموعة إدوارد فيليب الصغيرة في البرلمان، وبعض الأصوات المعزولة. وامتنع حزب التجمع الوطني لمارين لوبان (اليمين المتطرف) عن التصويت، خشيةً من تعزيز منافسه رقم واحد. وحذا حذوه أغلب مجموعة “نهضة” – حزب رئيس الجمهورية -، امتثالاً لأمر إيمانويل ماكرون الذي لا يريد أن يتدخل البرلمان في قضية حساسة بين باريس والجزائر. وأخيراً، أتت معارضة نص الجمهوريين غالباً من اليسار، وجمعت 151 نائبا من الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (Nupes)، الذي يشمل حزب “فرنسا الأبية” لجلن لوم ميلانشون وبقايا الحزب الاشتراكي والشيوعي ونواب الخضر.

ما الذي يتعين استخلاصه من حلقة برلمانية وحكومية ودبلوماسية هامشية بالمقارنة مع “قانون الهجرة” ومواده الـ95 التي تم إقرارها بعد ذلك بأيام قليلة؟ ربما لا شيء، إذ تجاهل الرأي العام تلك المشاريع ورفضها المجلس الوطني. ولكنها مع ذلك إشارة إضافية إلى تطوّر مثير للقلق في المجتمع الفرنسي، يتمثل في تطور علني وبدون عُقد لتيار إعلامي سياسي قوي يعادي علناً المهاجرين - ولنَقُلها، المسلمين منهم على زجه الخصوص -، ويتغذى من الأزمة السياسية الناجمة عن غياب أغلبية مؤيدة للرئيس إيمانويل ماكرون في الجمعية الوطنية. يركض يمين الوسط المتراجع وراء اليمين المتطرف ويتبنى خطاباته حول موضوع الهجرة، الذي لا يأتي ضمن اهتمامات الفرنسيين إلا بعد مواضيع مثل القدرة الشرائية والصحة والبيئة وعدم المساواة. في الحقيقة، لا تحتاج البلاد إلى إلغاء اتفاقية عام 1968، ولا إلى قانون وزير الداخلية دارمانان الذي يخلط بين كل شيء، وصوّتت عليه حاشية مارين لوبان في آخر المطاف، والذي لن يكون له أي تأثير على تدفقات الهجرة.