حين تتحول الحياة حطاماً بفعل الدكتاتورية التونسية

شهادات الضحايا وصمت الجلادين · بدأت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 جلساتُ الاستماعِ العلنيّة لضحايا انتهاكاتِ حقوقِ الانسان في تونس. حيث أدلى ما يزيد عن عشرين ضحية من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والذين اختارتهم هيئة الحقيقة والكرامة، بشهاداتٍ مؤثِّرةٍ تقشعرُّ لها الأبدان. وستتوالى تلك الشهادات، المُذاعة على الهواءِ في وقتِ الذروة، لمدّةٍ تزيدُ عن العام.

تتَّبع جلساتُ الاستماعِ التونسية، منذ أن بدأت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، نفسَ الطقوس في كلِّ مرّة: عقب النشيد الوطني، يعمُّ الصمت. في جوٍّ مهيب، حيث مُنِع التصفيق بناءً على طلبِ أعضاءِ هيئةِ الحقيقة والكرامة، يشرعُ الضحايا في سرد رواياتهم. كلُّ واحدة من تلك الروايات لا تقلُّ عن الأخرى إثارةً للمشاعر: نساءٌ ينتمين إلى التيار الإسلامي تعرَّضن باستمرار للتعذيبِ والاعتداءِ الجنسيّ والحرمانِ الاقتصاديّ والتضييقِ الإداريّ؛ أمّهاتٌ لـ“شهداءٍ” من الثورة التونسية يحكينَ كيف مات أبناؤهن رميًا بالرصاص بينما كانوا يتظاهرون سلميًا في المناطق المحاصَرة في الرقاب وقصرين وتالة وتونس العاصمة؛ أشقاءُ نشطاءٍ من اليسار أو اليمين يحكون عن تزويرِ السلطاتِ لتقاريرَ الطبِّ الشرعيّ من أجل إخفاء حقيقة وفاة أقاربهم تحت التعذيب...

أُنشِئت هيئة الحقيقة والكرامة بمقتضى القانون الأساسي المؤرَّخ في 24 ديسمبر/كانون (راجع الفصل الخامس من القسم الثاني من 2013، والمتعلِّق بإرساءِ العدالةِ الانتقالية وتنظيمها. وكغيرها من لجانِ الحقيقة التي تأسَّست في دولٍ أخرى (أشهرها بالطبع لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا)، تتولّى الهيئة كشفَ الحقيقة عن انتهاكاتِ حقوقِ الإنسان. ويتَّسع نطاقُ عملها بشكلٍ استثنائيّ ليشمل الفترة من 1955 إلى 2013، أي 58 عامًا، كما يتضمَّن التحقيق في الجرائم الاقتصادية والمالية. وتستهدفُ الهيئة

هدمَ النظامِ الاستبداديّ، وتمهيدَ الانتقال نحو دولةِ القانون، بالكشفِ عن انتهاكات الماضي، وتحديدِ مسئولية الدولة عنها، ومساءلةِ المسؤولين عن تلك الانتهاكات عن أفعالهم، وجبرِ الضرر وردِّ الاعتبار للضحايا، وأخيرًا، حفظِ الذاكرةِ الوطنية والتهيئةِ للمصالحة الوطنية.

وتعدُّ جلسات الاستماع العلنية، التي تقع في إطار مهام الهيئة – التي تبدأ من التحقيقات وتنتهي بوضعِ برنامجٍ لإعادةِ التأهيلِ الفرديّ والجماعيّ1 – لحظةً فارقةً يتشاركها التونسيون جميعًا.

سواءً أكانوا من اليمين أو اليسار

تروي زوجةُ أحدِ المختفين كيف رفضت الدولة لسنواتٍ الاعتراف بقتل زوجها، فظلت تنتظر عودة الغائب. كما يروي ظابطٌ في الجيش ما تعرَّض له من انتهاكٍ وإذلالٍ على خلفيّة إحدى أهم القضايا السياسية إثارةً للجدل على الإطلاق في الثلاثين عامًا الأخيرة؛ حيث اتَّهم زين الدين بن علي مجموعةً من العسكريين بمحاولة تدبير انقلابٍ لتسليم السلطة إلى الإسلاميين، وقام بتلفيق تلك المؤامرةِ وإلقاء مسؤوليتها على عشرات الضباط من ذوي المناصب في المؤسَّسة العسكرية. هذا الحادث إنما ينمُّ عن البارانويا الأمنية التي كان يعاني منها الرئيس السابق. ويصف دبلوماسيٌّ سابق كيف تمَّ تجريده من منصبه وتنحيته جانبًا عام 2007، لا لشيءٍ إلا لأنه رفض التغاضي عن عملياتِ التجارةِ وغسيلِ الأموال المشبوهة التي كانت تقوم بها جليلة طرابلسي، أخت زوجة الرئيس، ليلى طرابلسي بن علي، حين كان سفيراً لتونس في الإمارات العربية المتحدة. وهناك قصصٌ لا تنتهي تحمل نفس المعاناة، سواء أكان الراوي من اليسار أم اليمين، نقابيّ أو عسكريّ، مرأة أم رجل. أسرٌ تتمزّق، حيواتٌ بكاملها تغرق في الظلمات، صدماتٌ وكوابيسٌ تتوالى، مسيراتٌ مهنيّة تنتهي دون سابق إنذار. ولا يزالُ الشعورُ بالظلمِ قائمًا: “إنها جرائمُ نظام. تثبت تلك الجرائم إلى أيِّ مدى تمَّ توظيف مؤسَّسات الدولة في مجالات الصحة والتعليم والأمن والعدالة والمعلومات لخدمة نوايا دنيئة، بحيث تحوَّلت إلى أدواتٍ في يد الاستبداد والقمع”، بحسبِ رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بنسدرين.

في تونس، كان افتتاح جلساتِ الاستماع رسميًا في نادٍ خاص فخم كان مملوكًا لسيدة تونس الأولى، ليلى طرابلسي بن علي، بمثابةِ ردٍّ على الاتهاماتِ بالجمود والسلبية التي وجَّهتها أغلبُ أجهزةِ الإعلامِ المحليّة، والشبكات السياسية والمالية الموالية للرئيس السابق، إلى هيئةِ الحقيقة والكرامة. فلبلوغ تلك المرحلة، تلقَّت الهيئة 62[ ألف ملف خاص بالضحايا، واستمعت إلى 11 ألف ضحية من جميعِ أنحاءِ البلاد، وعلى مدارِ عدّة أشهر، في جلساتٍ مغلقة. كما حقَّقت في مئات الحالات، منها حالات لمرتكبي تعذيب، كما صنعت “خريطةً” للانتهاكات، حدَّدت فيها 32 موقعًا شهدَ انتهاكات لحقوق الإنسان. وقد حقَّقت الهيئة في الانتهاكات التي ارتُكِبت إبّان 18 أزمةً سياسيةً عظمى، منها محاولات الانقلاب التي وقعت في 1962 و1980 و1987، والمواجهات مع الإسلاميين والمعارضة اليسارية والنقابيّين خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة، وانتفاضةُ الحوضِ المنجميّ في قفصة عام 2008، وفترة الثورة التونسية، والاغتيالاتِ السياسية التي وقعت في 2013، والهجماتِ الإرهابية التي وقعت عقب الرابع عشر من يناير 2011. تقول سهام بنسدرين: “نحن نرغبُ في معالجةِ كلِّ ذلك العنف الذي تعرَّض له الضحايا من قبَل بعض موظّفي الدولة، باسم الدولة ولأسبابٍ متعلِّقة بالدولة، ليس عن طريق النسيان، ولكن عن طريق الذاكرة”.

ردُّ الاعتبار للضحايا

اختيرَ الشهودُ الأوائل على تلك الحقبة المظلِمة، الذين مَثّلوا في جلسات الاستماعِ الأربعة التي نظِّمت في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2016، وفقًا لمعايير حدَّدتها بعناية لجنةُ الحقيقة، على الأرجح من أجل إيقاظ الضمائر. فقد وقع الاختيار أولاً على ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ممَّن تعرضوا لفظائع ارتكبها النظام السابق، من قتلٍ عمد واختفاءٍ قسريّ وتعذيبٍ وعنفٍ جنسيّ. كما روعِيَ في اختيارِ الضحايا معياري المساواة بين الجنسين والتمثيل الإقليمي اللّذين نصَّ عليهما القانون.

وتوضِّح علا بن نجمة، رئيسة لجنة البحث والتقصّي بهيئة الحقيقة والكرامة، العمل الذي سبق جلساتِ الاستماع، للتحقُّق من الوقائعَ الوارِدةِ في رواياتِ الضحايا ومطابقتها معها: “بعد الاستماع إليهم في جساتٍ مُغلقة، يقدِّم قضاتنا ومحققونا جميع الأدلة على أقوالهم. إذ نتحقَّق بدقّةٍ من حجم الانتهاكات التي مورست بحقهم، ومن المكان والزمان الذي وقعت فيه، ومن أسماءِ مرتكبي تلك الانتهاكاتِ ومناصبهم”.

تابعت كورا أندريو، مؤلِّفةُ كتاب “العدالة الانتقالية من جنوب أفريقيا إلى رواندا” (جاليمار، 2012)، مسارَ العدالة الانتقالية في تونس من 2012 إلى 2014 بصفتها خبير مساعد بمكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان بتونس. بالنسبة إليها، لا تُعتَبرُ جلساتُ الاستماع، التي تصفها بـ“وقفة، لحظة مهيبة شبه شعائرية للاستماع ومراجعة الذات، على المستوى الفردي والقومي”، أدواتٍ للتحرّي أو البحث عن الحقيقة، بل هي أدواتٌ لاستعادة بعض المعايير الأخلاقية والاجتماعية والاعتراف بها. “أخيرًا صار صوتُ الضحايا مسموعًا ورواياتهم معترفٌ بها. أخيرًا وجدت أصواتهم صدىً إعلاميًا غير مسبوقٍ في جلسة استماعٍ جماهيرية، بعد أن تم تجاهلها طويلاً. مع ذلك، يجب الانتباه إلى أنه لا يوجد في تلك الجلسات حلٌ سحريّ لمداواة جراحهم” كما تؤكد اندريو.2

صمتُ الجلّادين المدوّي

هزَّت أحدُ الشهاداتِ المُذاعة خلال الجلسة المُنعقدة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني32016 مشاعر الكثير من التونسيين. صاحبها، سامي براهم، البالغ من العمر 50 عامًا، هو اليوم باحثٌ في العلوم الإنسانية. روى براهم الجحيم الذي عاشه على مدار ثمانية أعوام قضاها في 14 سجنًا مختلفًا في حقبة التسعينيات. رغم أنه كان في تلك الجلسة هادئًا ومبتسمًا في بعض الأحيان، إلا أنه لم يتمالك نفسه من البكاء حين توجّه بالسؤال التالي بخصوص جلاديه: “لماذا فعلوا كل ذلك؟ هل كانوا هم أنفسهم ضحية أطراف أخرى؟ هل كانوا يبحثون عن ترقيّاتٍ مهنية؟ هل تم إجبارهم على ممارسة تلك الفظاعات؟ ما كانت غايتهم من إرغامِ سجينٍ على البقاءِ عاريًا طيلة أسبوعٍ كامل؟ لماذا اعتدوا عليَّ جنسيًا؟”. وأضاف: “لا أرغب في مقاضاة أحد .. أريد فقط معرفة الحقيقة وأنا مستعدٌّ لأن أسامح جلاديّ إذا ما اعترفوا بأفعالهم وبيَّنوا أسبابها واعتذروا”.

سرعان ما غزت أسئلة الجمهور شبكات التواصل الاجتماعي: أين هم الجلادون؟ متى يحضرون للشهادة؟ كيف يمكن كشف الغطاء عن الحقيقة كاملةً دون الاستماعِ إلى أقوالهم واعترافاتهم؟ تجيب كورا اندريو على كلِّ تلك الأسئلة، قائلة: “حتى يقبل مسؤولٌ سابق الإدلاء بشهادته أمام عامّةِ الناس، ويعترف بجرائمه السابقة ويعتذرُ على شاشةِ التلفزيون، وهو أمرٌ مهين، يجب أن يكون هنالك سببٌ ودافعٌ قويّ وراءَ ذلك.. باستثناء بعض الحالات الاستثنائيةِ لمسؤولين تائبين ممّن عبَّروا عن شعورهم بالذنب، فإنَّ ما يحفِّز الجلّاد على التكلم يخضع إلى منطقٍ إنسانيٍّ واحد، وهو أسلوب العصا والجزرة (العقاب والثواب) .. الجلادون إنّما يقبلون بقانون اللعبة ويدلون بشهاداتهم، إلا لأنهم يطمحون في العفو عنهم، وهو ما يسمّيه البعض خطأ بالمصالحة، أو على الأقل في التخفيف من الحكم الصادر ضدهم في المقابل” .4

يبدو أنَّ القاضي الإداريّ محمد عيادي، الذي استقال من عضوية هيئة الحقيقة والكرامة في أكتوبر/تشرين الأول 2015، يشارك كورا اندريو الرأي: “الجلادون يأتون تحت الضغط المسلَّط عليهم بفعل ما قد ينتظرهم من تهديداتٍ جديّة.. يدلون بشهاداتهم حين تحالُ ملفّات القضايا المرفوعة ضدهم إلى الدوائر المختصّة للنطقِ بالحكم .. غير أنَّ هيئة الحقيقة والكرامة تشهد تأخيرًا كبيرًا في هذا الشأن. مازال قضاة الدوائر القضائية المتخصِّصة التسع في انتظار الملفّات للنظرِ فيها وإصدار الأحكام بخصوص الإنتهاكات الجسيمة في مجال حقوق الإنسان، منها التعذيب والقتل العمد”.5

يخبرنا صمت مرتكبي التعذيب بالكثير عن شعورهم بالإفلات من العقاب، وهو شعورٌ مبرَّر إذا ما نظرنا إلى الأحكام المخفَّفة التي صدرت بحقِّ القيادات الأمنية بوزارة الداخلية أثناء الثورة. على ما يبدو، لا يزال أمام تونس الكثير للوصول إلى روح “المصالحة”.

1راجع الفصل الخامس من القسم الثاني من القانون الأساسي

2“ألفة بلحسين،”خبيرة في مجال العدالة الإنتقالية: “تونس في حاجة إلى الجلسات العلنية”، justiceinfo.net، 16 ديسمبر/كانون الأول [[2016

3التسجيل الخاص بالجلسة العلنية المنعقدة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، بدءًا من الدقيقة 1:56:00

4ألفة بلحسين، “خبيرة في مجال العدالة الإنتقالية:”تونس في حاجة إلى الجلسات العلنية"، justiceinfo.net، 16 ديسمبر/كانون الأول 2016.

5ألفة بلحسين، “تونس: جدل ونقاش حول صمت الجلادين”، justiceinfo.net، 2 ديسمبر/كانون الأول 2016