تونس. “حركة فيفري المجيدة”، من فورة طلابية إلى انتفاضة شبابية

في فبراير/شباط 1972، سعت الحركة الطلابية في تونس إلى كسب استقلاليتها في وجه سلطة الرئيس الحبيب بورقيبة وحزبه الاشتراكي الدستوري، وتستعد إلى ما سيكون في تاريخ البلاد المعاصر “حركة فيفري المجيدة”. حركةٌ ارتبطت بمؤتمر طلابي “خارق للعادة” نظّمه الطلاب اليساريون في كلية الحقوق بتونس العاصمة خلال الأيام الممتدة من الثاني من فبراير/شباط 1972 إلى الخامس منه، ودفعت الرئيس الحبيب بورقيبة إلى إغلاق الكليات والجامعات لثلاثة أشهر بعد نجاح الحركة وتحوّلها من كونها داخل أسوار الجامعة إلى انتفاضة شبابية ستعمّ البلاد إلى نهاية الصيف.

صورة من المؤتمر الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس.

كان كل شيء جاهزاً للانفجار الذي سيقع في الأيام الأولى لشهر شباط/فبراير 1972. فمنذ كانون الأوّل/ديسمبر راح التوتر يسود بين الطلاب اليساريين وبين النظام والطلاب الموالين له، في ظل سعي الرئيس بورقيبة الدؤوب من خلال الحزب/الدولة وسياسة “فرّق تسد” إلى الإمساك بهياكل ومنظمات المجتمع المدني كافة وكسر استقلاليتها، وفي مقدمتها: الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، والاتحاد العام لطلبة تونس.

كانت تونس لا تزال في عام 1972 في طور الخروج من عهد سياسة التعاضد الاشتراكية ورجُلِها النقابي السابق أحمد بن صالح، وذلك بعد انتهاجها منذ بداية الستينيات إلى نهايتها. وبدت تقترب إلى عالم تتعاظم وحشية رأسماليته وتذهب بعيداً في مسار اختزال الإنسان في بعد واحد (L’Homme unidimensionnel)، كما يقول الفيلسوف الألماني هاربرت ماركوز، المتمرّد على استحالة الإنسان “سلعة في المجتمع الصناعي المتقدّم”، والقائل بأنّه لا يمكن له أن يسترجع إنسانيته إلا بالتسلّح بـشعار “الرفض الكبير”.

غير أنّ الزمن كان أيضاً زمن ازدهار الحركات الطلابية التقدّمية والتحرّرية في العالم، في خضم عقد لعلّه بدأ مع نشر الولايات المتحدة الأميركية قوات لها في فيتنام عام 1965، ثم انتهى بهزيمتها في نيسان/أبريل 1975. عقد تواصلت فيه النزاعات التحرّرية في عالم يطوي عهود الاستعمار، وشهد على وجه الخصوص الثورة الثقافية في الصين الماويّة، وكذلك أيار/مايو 68 الذي شكّل الحدث الأكثر تأثيراً في قصّة تونس. ستتقاطع السياقات المحلية والدولية فيها لتولد “فيفري المجيدة”.

توق إلى الاستقلالية

ولدت “حركة فيفري المجيدة” بعدما مارس النظام مختلف أشكال القمع من محاكمات واعتقالات وملاحقات وتجنيد قسري. فقد أراد تحجيمَ التيارات الطلابية اليسارية ولجمها بعدما اشتدّ عودها واتضحت رؤيتها للنضال من أجل: “اتحاد عام لطلبة تونس ديمقراطي جماهيري مستقلّ”، و“جامعة شعبية وتعليم ديمقراطي وثقافة وطنية”، وهما للمفارقة الشعاران المركزيان اللذان لا يزالان يتردّدان إلى اليوم داخل أسوار الجامعات. قبل ذلك، كانت المنظمة الطلابية رهينة الطلبة الدستوريين ومرتبطة بالأطر الشبابية للحزب الحاكم، فيما يتوزّعها شقّا الأحمدَين المتعارضَين: عرّاب سياسة التعاضد أحمد بن صالح، ومناهضها أحمد المستيري. وكان الطلاب الموالون للحزب الحاكم قد فرضوا في مؤتمر المنظمة الحادي عشر عام 1963، تبنّي ميثاق طالبي ينصّ على ربط الاتحاد عضوياً بالحزب الحاكم.

هذا ما صبغ الحركة الطلابية التونسية في بداية السبعينيات بزخم ثوري يتوق إلى الاستقلالية تنظيماً وسياسةً. وكانت الشرارة الأولى لانفجار شباط/فبراير، قد أوقدت قبل ذلك بنحو ست شهور، وتحديداً في مدينة قربة حيث كان ينعقد المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العام للطلبة في ظلّ صراع حاد بين الطلبة اليساريين وبين نظرائهم الدستوريين. وقد أنهى هؤلاء أعمال المؤتمر بمعاونة أجهزة الأمن، وطردوا المؤتمرين، وعيّنوا هيئة تنفيذية مؤقتة، ومنعوا المصادقة على لوائح المؤتمر الداعية إلى الاستقلالية التامة عن الحزب الحاكم.

شتاء الطلبة القارس

كان الحزب الاشتراكي الدستوري مصرّاً على اختراق الهيكل الطلابي وتدجينه في المرحلة التي تلت إخراج بن صالح وسياسته. وبمثابة رد الفعل، سيوقّع المعارضون على عريضة سميت “لائحة 105” (نسبة إلى عدد الموقعين من أصل 175 مشاركاً في المؤتمر)، يتمسكون فيها بمطلب الاستقلالية. وبدأوا يحضّرون عبر هياكل نقابية مؤقتة لاستكمال ما أُنهي بالقوّة عبر عقد مؤتمر “خارق للعادة”، وهو الذي ستبدأ أعماله في 2 شباط/فبراير.

كان من مهمات تلك الهياكل تجميع أصوات الطلبة ونضالاتهم من أجل إتمام إنجاز المؤتمر، في نشاط سرّي بمعظمه سينبثق منه لاحقاً برنامج نقابي موحد بين مختلف التيارات اليسارية في الجامعة، سمي ببرنامج 73 ورفع شعارات مركزية للحركة الطلابية، أبرزها: اتحاد مستقل ديمقراطي وممثل، الحركة الطلابية جزء لا يتجزأ من الحركة الشعبية.

لن ينعقد المؤتمر “الخارق للعادة” إلا في سنة 1988! ولكن في ذلك اليوم الثاني من شباط/فبراير تجمّع في كلية الحقوق في العاصمة نحو أربعة آلاف طالب، بحسب مؤرخ الحركة الطلابية محمد ضيف الله، من بين نحو 12 ألف طالب مسجّلين في الجامعة التونسية. ومما زاد الطين بلة كان توقيف الأمن الناشطة سيمون بن عثمان إثر عودتها من فرنسا بعد أربع سنوات من محاكمتها غيابياً ضمن محاكمات طالت أعضاء “تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي – آفاق” Perspectives، أب أحزاب اليسار الجديد بتنوّعاته في تونس.

“لا مجاهد أكبر إلا الشعـب”

لكن على غرار مجريات صيف مدينة قربة، سيتدخل الأمن هذه المرّة أيضاً وبوحشية راحت تتعاظم حتى بلغت ذروتها في الخامس من الشهر مع مشارفة أعمال المؤتمر على الانتهاء. دخلوا وأنهوا الأعمال، تؤازرهم ميليشيات الحزب الحاكم (ميليشيات الصيّاح) التي كانت ترفع شعار “يحيا المجاهد الأكبر” (أي الرئيس الحبيب بورقيبة)، فيردّ عـليها الطلبة بــ “لا مجاهد أكبر إلا الشعـب”.

وقد انتقلت الصدامات إلى الشوارع، ما أدّى إلى مواجهات دامية وإيقاف أكثر من 900 طالب، حتى عُرف هذا اليوم في تاريخ البلاد بالـ“سبت الأسود”. وسيقرّر مجلس الوزراء في الثامن من شباط/فبراير غلق كليّتي الآداب (3,200 طالب) وكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية (1,867 طالباً)، وهو ما سيستمر إلى غاية شهر أيلول/سبتمبر 1972. وفي يوم 10 شباط/فبراير بدأت عمليات الإيقاف في صفوف الطلبة والتلاميذ ليناهز عدد الموقوفين ألفاً وخمسمئة موقوف.

لاقى المشهد تضامنَ الأساتذة الجامعيين مع الموقوفين، ورفضهم غلق الجامعات. ففي 25 شباط/فبراير وجّه أساتذة كلية الآداب والعلوم الإنسانية رسالة إلى رئيس الجمهورية وقّع عليها 149 جامعياً، ثم وجّهوا رسالة ثانية في 11 نيسان/أبريل، جددوا فيها رفض قرار الغلق ودعوا إلى مشاركة الأساتذة والطلبة في الحياة الجامعية على أساس الانتخاب.

التعاضد وقد سقط على الرؤوس

كان طلاب “حركة فيفري المجيدة” متأثرين بصورة خاصة بثورة/انتفاضة أيار/مايو 1968. فغالبية رموزها درسوا في جامعات فرنسية، وهم متشبّعون بفلسفة تلك الثورة/الانتفاضة الوجودية والجنسانية ومجتمع المشهد/الواجهة وجمالية القبح والطوباوية، وبفلسفة الأنوار. هزّت تلك الأفكار والمحطّات طلاب الجامعة التونسية، وفتحت آفاقاً مغايرة في التحليل والتفكيك والتفكير بطرق مختلفة عمّا يُعرف بالأورثوذوكسية الماركسية للشيوعية السوفياتية.

وقد أخذت فورة طلاب الجامعة التونسية تستعر وتتأجّج وتتغذّى من الطاقات الشابة التي عادت إلى تونس من باريس وبروكسيل وروما وغيرها من العواصم التي كانوا يدرسون في جامعاتها، حاملين الفكر التقدّمي والحداثي والفكر اليساري الجديد، ليلتحموا بطلاب وطالبات الجامعات التونسية. لعلّ أبرزهم: محمد بن جنات، هاشمي بن فرج، نور الدين بن خذر، جلبار النقاش، أحمد عثماني، سيمون للوش، حبيب مرسيط، شريف الفرجاني، فتحي بالحاج يحيى، شكري بلعيد، صالح الزغيدي، محمد الكيلاني، النوري بوزيد، توفيق الجبالي، علي سعيدان، فاضل الجعايبي.. وكان لا بد لهذا الانصهار والتلاقح أن ينفجر في مواجهة آلة قمع النظام وكشف فشل تجربة التعاضد التي فُرضت بالقوة على الشعب التونسي.

كانت الدولة لا تزال في عام 1972 في طور طي صفحة تلك التجربة التي قامت، نظرياً، على قيم العدالة والتقدّم والديمقراطية الاجتماعية، وعلى اتباع الاقتصاد المسيّر بتخطيط تنجزه الدولة وتفرضه. وهدفت بعدما عُدَّت خطوة في مسار استكمال الاستقلال الوطني، إلى مجابهة رأس المال الأجنبي الذي يستولي على موارد البلاد. ولكن انتهى “التعاضد الذي يقدّمه الأيديولوجيون بصفته خطوة نحو الاشتراكية، شكلاً من الانتقال إلى الرأسمالية في الوضعية التونسية”، على ما يوجز المفكّر المصري سمير أمين في كتابه “المغرب الحديث” (1970).

كان طلبة الجامعات من الفئات المتضرّرة من “التعاضد”، الذي لم ينجح في جعل النظام اشتراكياً ولا في تخليصه من كونه نظاماً رأسمالياً. لذا كان شعار: “الحركة الطلابية جزء من الحركة الشعبية” من بين أهم شعارات شباط/فبراير 7219، وسيدعم هؤلاء الطلاب احتجاجات العمّال والفلاحين بشكل مباشر، خاصة أنّ فئة كبيرة منهم من أبناء وبنات العمال والفلاحين وصغار التجّار وغيرهم من الفئات التي أخذ تهميشها يزداد.

ومن حيث لا تدري، منحت السلطات بقرارها غلق كليتي الحقوق والآداب مدة 3 أشهر، فرصة ذهبية للطلبة من أجل التظاهر خارج أسوار الجامعات، وهو ما تمّ فعلاً. فقد وجدت الحركة الطلابية تعاطفاً شعبياً وسنداً قوياً في كامل الجمهورية خاصة من تلامذة المعاهد الثانوية. إلا أنّ العامل الأهم في تحويل تلك الحركة الطلابية الاحتجاجية إلى انتفاضة شعبية هو الإسناد القوي من الاتحاد العام التونسي للشغل. فقد نفّذت العديدُ من الهياكل القطاعية، وقطاع النقل على وجه الخصوص، عشرات المظاهرات والاعتصامات والإضرابات تضامناً مع طلاب الجامعة التونسية، ودفاعاً بدورهم عن استقلالية منظمتهم.

نقطة مفصلية في الدفاع عن استقلالية المنظمات

شكّل 5 فبراير/شباط 1972 يوماً مجيداً في تاريخ تونس المعاصر، لا داخل أسوار الجامعة التونسية فحسب، وإنّما خارجها أيضاً. كما أنّه مثّل نقطة مفصلية في الدفاع عن استقلالية المنظمات الوطنية عن الحزب الحاكم ووصاية الزعيم الأوحد (باني الأمّة ثم منقذ الأمّة). كان محطة فارقة في تأكيد مبدأ القطيعة السياسية والتنظيمية مع النظام الحاكم. ويمكن القول إنّ ما بعد ذلك اليوم هو المرحلة التي بدأت تتشكّل فيها ملامح التيارات السياسية والفكرية والمعارضة التونسية عموماً: اليسار بمختلف تياراته، والتيارات القومية العروبية، والتيار الإسلامي أيضاً.

لكن لم ينجُ غالبية الطلاب من المحاكمات التعسفية بسبب نشاطهم السياسي والنقابي. فمع تكفّل أجهزة القمع بممارسة كافة أشكال المداهمات والملاحقات والتعذيب والاعتقالات، كانت محكمة أمن الدولة جاهزة لتلفيق التهم وإصدار الأحكام على مئات الطلبة، وتراوحت بين الطرد من الجامعة والسجن والتجنيد القسري (معتقلات رجيم معتوق وقرعة بوفليجة في الصحراء التونسية وجزيرة زمبرة في الوطن القبلي). ساهم هؤلاء الطلاب، بخاصة المذكورة أسماؤهم أعلاه، في تأسيس الحركة الطلابية التونسية وأثروها لاحقاً في السبعينيات. وهم يشكّلون الجزء الكبير من النخبة الفكرية والسياسية والفنية التقدّمية في تونس، ورسموا على مدار العقود اللاحقة ملامح الحركة اليسارية التونسية التي ستتجسّد في مختلف التنظيمات الحزبية والجمعياتية والقطاعية (خصوصاً المحاماة والتعليم)، وأيضاً في المشهدين الثقافي والفكري. كانوا، في المراحل كافة في مواجهة السلطة القائمة والحزب الحاكم. فالحزب الاشتراكي الدستوري الذي سيتحوّل لاحقاً إلى التجمع الدستوري الديمقراطي مع انقلاب زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة سنة 1987، سيستأنف نهج القمع والمحاصرة والتضييق بعد سنتين فقط من الهدنة الوهمية التي أُعلِن عنها في “الميثاق الوطني”، ورغم إصدار عفو عن جميع الطلبة المعتقلين، كان النظام الاستبدادي لبن علي أكثر قمعاً وأشد شراسة في ضرب المنظمة الطلابية.

لا شك في أنّ “حركة فيفري المجيدة”، وبعد نصف قرن من الزمن على أحداثها، مثلت نقطة مفصلية في تاريخ تونس الحديث وألهمت الثورة على نظام سنة 2011. فأغلب رموز الحركة كانوا في الصفوف الأمامية لجميع التحركات الاحتجاجية التي توّجت يوم 14 كانون الثاني/يناير، فيما يبدو اليوم وبنظرة إلى الخلف أن لا الحلم تحقّق ولا القمع انتهى.