قوتة قارون : تحوُّلات قريةٍ مصريّة

أدّى دخولُ قانونِ تحريرِ أسعارِ إيجاراتِ الأراضي الزراعية حيِّزَ التنفيذِ عامَ 1997 إلى إضعاف المجتمع الزراعي المصري. واندثرَت المكاسبُ الضئيلةُ أبّانَ حقبةِ الإصلاحِ الزراعيِّ في المُنتصفِ الثاني للستينات. كما أدّى تحريرُ الأسعارٍ هذا، بين عامي 1997 و2003 ، إلى تشريدٍ ما يقاربُ مليون مصريٍّ حُرموا من لُقمةِ عيشِهم. قريةُ قوتة قارون صورةٌ عن المجتمعِ الفلاحيِّ المصري، قصتُها تشيرُ إلى صراعٍ مُستدام بين ملّاكين شديدي الطمع ومقرَّبين من دوائرِ القرارِ السياسي، وفلاحين يدينون بقوتهم لحيازة الأرض وزراعتها.

مزارع في حقله في الفيوم

تقعُ قريةُ قوتة قارون في مُحافظة الفيوم، على بعدِ نحوِ 130 كيلومتراً، جنوبَ غربي أهرامات الجيزة الشهيرة. وهي مسافةٌ تقطعُها السيّارة في نحوِ الساعتَين. وعلى عَكس الانطِباعِ المأخوذِ من الخرائط السياحيّة، فإنَّ الفيوم،تلك الواحةَ الكبرى الواقعةَ غربَ نهرِ النيل، والمعروفةَ ببُحيرةِ قارون الساحرةِ وصيدِ البطِّ وفُندقِ الأوبيرج الذي تأسَّس قبلَ الحرب العالميّة الثانية عام 1937، هي واحدةٌ من أفقرِ محافظات مصر.

لا تصلُ مياهُ الشربِ النقيّة سُكانَ قوتة قارون، البالغِ عددُهم نحوَ خمسةَ آلافِ نسمةٍ سوى يومين في الأسبوع. صحيحٌ أنه توجد في القريةِ مدرستان ابتدائيتان ومدرستان إعداديتان. كما تتوافرُ الكهرباءُ بما يمكِّن أهلَها من مشاهدةِ الفضائيّات التلفزيونية واستخدامِ الانترنت. لكنَّ أقربَ المدارس الثانوية تقعُ على بعدِ 30 كيلوامتراً . بل يَضطرُّ الأهالي إلى قطعِ عشرةِ كيلومتراتٍ إضافيّةٍ في وسائلَ مواصلاتٍ بائسةٍ ليحصَلوا على الخدمات الصحيّة الضروريّة من المستشفى المركزي في "إبشواي

أحكامٌ قضائيّة جائرةٌ تتسبَّبُ بطردِ الفلّاحين

“إبشواي”: المدينة ذاتُها التي أصْدرَت محاكمُها مؤخَّراً، وفي غُضونِ شهرٍ واحد، عشرين حُكماً ابتدائيّاً بالحبسِ على ثمانيةِ فلّاحين فُقراء في دَعاوى سرقة محاصيلَ أراضٍ يحوزونها ويزرعونها. وكلُّها دعاوى رفعَتْها عائلةٌ “والي”، ذاتُ الماضي الاقطاعي والنفوذ في أجهزة الدولة، لإجبارِ65 أسرةً على مغادرةِ وتسليمِ نحو150 فدّاناً من أراضي القرية (بواقع أقلِّ من ثلاثة أفدنة للأسرة الواحدة). وكان هؤلاء الفلاحون الفقراء قد تمكَّنواعام 1966 من حيازتِها في واحدةٍ من آخرِ خطواتِ الإصلاحِ الزراعي، في زمنِ الرئيسِ الأسبقِ عبد الناصر، لكن دون تملُّكِها ملكيَّةً قانونيَّةً كاملةً بوَثائقَ رسميّة.

وفي بلد كمصر، يعود تاريخُ حيازةِ العائلاتِ الاقطاعيّة لمساحاتٍ شاسعة منَ الأرضِ الزراعيّة وملكيَّتِها أساساً إلى العلاقةِ مع السلطةِ والحاكم. ولقد دخلَ الصراعُ الاجتماعي حول الأرض مع عائلة “والي” في قوتة قارون مرحلةً جديدةً، مع التوسُّع في السياسات النيوليبرالية التي تكرَّست مع إصدار القانون رقم 96 لسنة 1992. وينصُّ هذا القانون على تحريرِ إيجاراتِ الأراضي الزراعيّة واخضاعِها تماماً لعلاقات السوق والعرض والطلب.

وهكذا، تضاعفَ متوسِّطُ إيجارِ فدّانِ الأرضِ الزراعيّة 27 مرةً خلال 18 عاماً منذُ تطبيقِ القانون عام 1997. وكانَ من آثارِ هذه السياسات في عمومِ البلادِ طردُ نحوِ900 ألفاً من فقراءِ الفلاحين المُستأجِرين من الأراضي التي يزرعونها ويقيمون عليها (31 % ممن كانوا يزرعون الأرض في مصر حينها وفق الاحصاءات الرسمية لوزارة الزراعة)، وتشريدِهم ودفعِهم الى البطالةِ والبحثِ عن عملٍ بالمياومة في الزراعةِ والبناء. وهكذا أصاب الضررُ اقتصاديّاً واجتماعيّاً أسرٌ فقيرةٌ يقدَّر تعدادُها بـ 5.3 مليونِ نسمة.

تواطؤ السياسةِ والقانونِ والأجهزةِ الأمنية

ولكن ثمّةَ دراما خاصّة ومفارقةً ما بشأنِ قرية قوتة قارون وقريناتها في الفيوم. وتتمثَّل الدراما في أنَّ يوسف والي، أحدُ أعمدةِ عائلة “والي” الإقطاعيّة، كانَ نائباً لرئيسِ الوزراء ووزيراً للزراعة وأميناً عاماً للحزب الحاكم (الوطني الديموقراطي) ونائباً عن الحزب في البرلمان حين إصدارِ القانون وتطبيقِه. وهكذا وقفَ من موقعِه في الحكومةِ والحزبِ والبرلمانِ وراءَ قانونٍ يستفيدُ هو وعائلتُه منه في صراعِهم على الأرضِ مع الفقراء من الفلّاحين. أما المفارقةُ، فهي أنّ تلكَ العائلةَ الاقطاعية، ذاتَ النفوذ السياسي السلطَوي، تمكَّنتْ أيضاً من طردِ فلّاحين في قوتة قارون وقرى مجاورةٍ في الفيوم؛ لم يكن لعائلةِ والي عقودَ إيجارٍ على الأرض، وبالتالي فإن القانونَ لا ينطبقُ على المساحات التي يحوزونَها ويزرعونها من الأرض، كما لم يصدر أي حكم قضائي لصالح العائلة يسمح لها باستعادة هذه الأراضي.

صراعُ عيشٍ يودي بحياةِ مئاتِ الفلاحين

لقد جرى انتزاعُ الأرض من فلاحّيها الفقراء مع تنفيذِ القانون رقم 92 لسنة 1996 بحملاتٍ أمنيّة شملَت مئاتَ القرى في طولِ مصر وعرضِها. ويقدِّر تقريرٌ لمركز “الأرض” في القاهرة التكلفةَ في الأرواح بين عامَيّ 1997 و 2003 بـ 334 فلاحاً قتيلاً. سقط منهم مائةُ ضحيّةٌ في العام الأول. ووِفقَ شهاداتِ الفلّاحين في قوتة قارون التي استمعْتُ إليها، فقد تكرّرت مداهماتُ قوات الأمن لأراضي وبيوتِ الفلاحين في القرية خلال عام 1997. وجرت آنذاك عمليّات اعتقالٍ وتعذيبٍ في مركز شرطةِ “إبشواي” شملَت الصعقَ بالكهرباء، بما في ذلك التعذيبُ الجماعي مع توصيلِ التيّار الكهربائي بأرضيَّةِ غرفةِ الاحتجاز بعد إغراقِها بالمياه. وماتَ الفلاحُ إسماعيل علي خليل بعد هذا التعذيب فورَ عودتِه الى منزلِه.

ثورةُ يناير والنقاباتُ الزراعيّة

جاءت ثورةُ 25 يناير 2011 علامةً فارِقةً في الصراع بقوتة قارون. فبعدما شاهدَ الفلاحون عبرَ شاشات الفضائيّات انهيارَ جهازِ الشرطةِ في 28 يناير وتنحّي الرئيس مبارك نفسُه في 11 فبراير استعادوا الأرض. وأسّس صغارُ الفلاحين هؤلاء نقابتَهم المستقلّة في القرية بحلول عام 2012، بعد طولِ حرمانٍ من حقِّ التنظيم النقابي. فبمقتضى قرارٍ من وزيرِ القوى العاملة صدر في مارس 2011 تشكَّلت في أنحاءِ مصر نحوَ 350 نقابةٍ فلاحيّة على هذا النحو، وإنْ لم يضمَّها بعدُ اتحادٌ واحد. وهكذا أصبحَ بإمكانِ الخمسةِ والستين فلاحاً وأُسَرِهم الحائزين لمُلكيّاتٍ صغيرة في قوتة قارون أن يجدوا إطاراً تنظيميّاً جامعاً يتحدَّث باسمِهم أمامَ السلطات في صراعِهم مع عائلةِ “والي” حولَ الأرض.

وبرزَ دورُ هذه النقابةِ بعدما استعادَت العائلةُ أنفاسَها وعادَت لتحريضِ السلطات ضدَّ الفلّاحين واتهامِهم بسرقةِ واتلافِ محاصيلَ زرَعوها بأنفُسِهم. نظّمَت العديدَ من الوقفاتِ الاحتجاجيّة أمامَ مكتبِ النائب العام. وحصلَت في عهد الرئيس مرسي على كميّاتٍ من السمادِ بأسعارٍ مخفَّضةٍ وزَّعَتها على الفلّاحين. وقامت بمحاولةٍ وحيدةٍ للتسويقِ الجماعيّ لمَحصولَيْ الزيتون والكمثرى في عامِ 2012. لكنَّ عهدَ مرسي نفسَه شهد أيضاً حبسَ الفلاح “محمد جنيدي” شهراً واحداً في مطلع عام 2013 بذاتِ تهمةِ سرقةِ محاصيلَ أرضٍ يزرُعها. وبالأصلِ فإنَّ مواقفَ الإخوان المسلمين كانت معارِضةً لقانونِ الإصلاحِ الزراعيِّ منذُ الخمسينيّات ومتهاونةً مع قانونِ العلاقاتِ الإيجاريّة الجديدِ في التسعينيّات.

تمّوز/ يوليو 2013: صفحةٌ تَليها صفحات

لكنّ الأمورَ أصبحَت أكثرَ صعوبةٍ للفلاحين الفقراء بعد 3 يوليو 2013. ففي ظلِّ استعادةِ نظامِ مبارك لسطوتِه وعودةِ الانتهاكاتِ الأمنيّة لحقوقِ المواطنين تحتَ عناوين هيبةِ الدولةِ والحربِ على الإرهابِ وملاحقة الإخوان، صعَّدت عائلةُ والي من ضغوطِها على فلاحي قوتة قارون لانتِزاع الأرض. بل أخذَت تُحرِّضُ عليهم بادِّعاءِ مشاركتِهم في اعتصامِ رابعة العدويّة وموالاة الإخوان. واسفرَت هذه الضغوطُ إلى حينِه عن دفعِ ستةِ فلّاحينَ للتوقيعِ على عقودِ بالتنازلِ عن الحيازةِ. فضلاً عن حبسِ الفلّاح أحمد محمد عيسي في شهر مارس الماضي متَّهماً بسرقةِ محصولٍ زرعَهُ على أرضٍ يحوزُها.

وبلا شكٍّ فإنَّ توالي أحكامِ الحبس مؤخراً ضدَّ فلاحي قوتة قارون على النحوِ الذي أشرنا له في بدايةِ هذا المقال تفيدُ بارتفاع ٍ ملحوظٍ في مستوياتِ تحريضِ أجهزةِ الدولةِ على فقراءِ الفلاحين، وتلفيقِ القضايا. لكنَّ مايجرى حالياً ليسَ إلا صفحةً من تاريخِ صراعٍ اجتماعيٍّ ممتدٍّ في ريفِ مصرَ وقراها؛ صراعٌ تتأثَّرُ مجرياتُه حتماً بالتحوُّلات في قمةِ السلطة بالقاهرة، وإن كانَ إعلامُ وصحفُ العاصمةِ لا يكترِثان كثيراً به. صفحةٌ سَوف تَليها صفحات.