مقاطع من صعوبة الحياة اليومية في ليبيا

ليس العنف المرضَ الوحيدَ الذي يعاني منه الليبيّون. إذْ إنهم تعوَّدوا على العنفِ بسرعَة فاقَت تعوَّدَهم على النقصِ في المالِ والكهرباء، وخاصَّة في خدماتِ الدولة. إلّا أنَّ هذا لا يحولُ دونَ اكتِظاظ ِالمقاهي وازدِهارِ البناء. وبانتظارِ فرصةٍ لعبورٍ قد يكونُ مأساويّاً للبحر المتوسط، يشتَغِل عمّالٌ صحراويّون على ورشاتِ البناء. وتمسُّ انتهاكاتُ حقوقِ الانسانِ بما فيهِ المجتمعَ الليبيَّ، المَحرومَ من التربيةِ والتأهيلِ منذُ ما يقاربُ الخمسين سنة.

يتنعَّم أحمد بالشمس، على مدخلِ بنايته، في بعد ظهيرةِ ذلك اليوم الربيعي. ويستفسِر مرةً أخرى وبقلقٍ عن المعاملات للحصولِ على حقِّ اللجوء في فرنسا. كان أحمد يعملُ سائقاً في إحدى السفارات التي غادرَت البلد، كغيرها، في صيف 2014، وها هو متوقفٌ عن العملِ منذ أِشهر وعرضةً للإحباط المعنوي: “لم أعد أحتمِل هذه الحالة. الكهرباء المقطوعة، وانعدام الأمن... ليست هذه حياة”. وتندلعُ الاشتباكات في شارعِه في الليلةِ التالية، وكأنها تؤكِّد أقواله. إنها قوى أمنِ “فجر ليبيا”، تحالفُ الفئات المسيطرة على طرابلس الغرب، تطاردُ مجموعةَ شبّان من حي الفشلوم، بحجّةِ المتاجرة بالمخدّرات. واقعُ الأمر أنَّ بعضَهم يتاجرُ فعلاً بالمخدرات ، إلّا أنَّ هذا الحيَّ معروفٌ أيضاً بدعمِه لعمليّة “كرامة” المناصِرةِ للبرلمان المنافسِ في طبرق ( في أقصى الشرق الليبي)، كما يظهرُ من الكتاباتِ العديدةِ على جدرانِ الأبنية.

تُرَّهاتُ حربُ العصابات في الأحياء

في الساعة السادسة صباحاً، يأخذُ المشهدُ شكلَ حربِ عصابات. يقتحِمُ مسلَّحو “فجر ليبيا” شارعَ أحمد بالدبّابات والمدرَّعات. يفتِّشون البيوت مقنَّعين، مرْتدين ستراتٍ واقيةٍ للرّصاص، وحاملين الرشاشات. تدخلُ الدبّابات ملعبَ المدرسة. تندلِعُ طلقات النيران من هُنا وهُناك وتكسِر زجاجَ نوافذَ البيوتِ المحاذِية. يتعرَّضُ بعضُ الشبّان الذي يتمُّ القبضُ عليهم للضرب، ثم يُزجُّ بِهم داخلَ السيّارات. مشاهدُ الحرب هذه نادرةٌ وعاديّةٌ في آنٍ معاً. نادرةٌ، لأنها لا تحدثُ يوميّاً ولا أسبوعيّاً ولا حتى شهريّا. إنما تحدثُ من حينٍ لآخر. وعاديّةٌ لأنَّ السكان اعْتادوا على إطلاقِ النارِ القريبِ والأبعدَ وتكيَّفوا مع آليّةِ التعاملِ مع الوضع. وهكذا، حين يندلعُ حريقٌ في محلٍّ لبيعِ الألعاب الناريّة في الشارع، لا ينادي أحمد ولا جيرانُه الإطفائيّة. وفي حينِ يستمرُّ إطلاقُ النار في الشارع، يحاولون رفعَ الستار الحديدي كيفما كان، رغمَ الأسهمِ الناريّة التي تفرقِع فيه. وعلى الرغمِ من تواجدِ مستودعٍ للغازِ على مقربةٍ من المحل، فما من سلطة معنية ستتحرَّك. وحدُه سائقُ سيارة الإسعاف سيأتي بأقنعة جراحيّة. ويتمكَّنُ أحمد وجيرانُه من محاصرةِ الحريق، دون أن يستهجنوا غيابَ ردَّة الفعلِ لدى السلطات. وتعودُ الحياةُ إلى مجراها في اليوم التالي. يعودُ التلامذةُ إلى المدرسة، وتفتحُ المتاجر أبوابَها، وكأنَّ شيئاً لم يكن. لا يبقى من هذه الحادثة سوى آثارُ الضررِ على بعضِ المباني.

نضوبٌ في عائدات الأجور

أكثرُ ما يستهجِنُه الليبيّون هو انعدامُ الأجور. فما يقاربُ 75 % من الليبيين موظّفون في القطاع العام. إلا أنَّ العديدَ منهم لم تطأُ رجلُهم يوماً الوزاراتِ التي ينتمون إليها: “تحت حكمِ القذافي، وحينَ الانتهاء من الدراسة، كنا نبلَّغ فقط بانتسابِنا : أنتَ، سيَصلك معاشك من الوزارة الفلانيّة” . هذا ما يشرحُه محمد، وهو من سكانِ صبحا، عاصمةِ الفزّان في جنوب البلد. وهو رسميّاً موظفٌ في وزارة الصحة، إلا أنه لم يدخلْها يوماً. وكانَت تلكَ الحالُ بالنسبةِ لـ“القائد” الوسيلةُ الفضلى والأكثرَ فعاليةً لشراءِ السلمِ الاجتماعي. وكانت هذه الأجورِ، وإن لم تكنْ عالية، تمكِّن الليبيين من العيش. وكان الليبيّون يُكمِلون دخلَهم هذا بأعمالٍ حرّةٍ كدكاكين أو مشاريعَ استيراد وتصدير مع تونس، أو حيَلَ أخرى مختلفة. وكان بعضُهم يستغِلُّ فوضى الإدارة العامة، فيجمعَ بين عدّة أجور من وزارات مختلفة. يَعتدُّ مازن بكونِه رجلاً نزيهاً، حيث يتقاضى من الحكومة أجراً واحداً على أنَّه شرطيٌّ. إلّا أنَّه لم يقبضْ شيئاً منذ سنة. وليسَ وضعُه استثناءً. ولا تقدِّم أيَّةٌ من الحكومتين المتنافستين – حكومةِ طرابلس وحكومةِ البيضاء الوحيدة المعترفُ بها من قبلِ المجتمع الدولي- أدنى تفسيرٍ لهذا التأخير.. وإلى حينٍ تُفرجُ فيه الأمور، يتدبَّر مازن أمرَه كالباقين فيَفتحُ رصيدَ دينٍ في الدكّان. إلا أنَّ انعدامَ الأمن يثيرُ حفيظتَه أكثرَ من غيابِ الأجور، “وتلكَ الميليشيات التي تدَّعي أنّها الشرطةُ أو الجيشُ، في حينِ أنَّهم صبيةٌ بدونِ أيِّ تأهيلٍ لا تَتَجاوزُ أعمارُهم 15-16 سنة.. الدولةُ ليسَت هكذا”. ليست الدولة أكثر تواجداً في أماكن أخرى. فشبكات الكهرباء والاتصالات تعاني من الاشتباكات. وتعرَّضَت طرابلس لانقطاعٍ في التيّار الكهربائي لمدّةِ ثماني ساعاتٍ يومياًّ في نهايةِ شهر نيسان، بسببِ عطلٍ في إحدى محطّات توليدِ الكهرباءِ ونقصِ المصلِّحين. في المدنِ كما في العاصِمة، حيثُ تتواجَدُ شبكةُ الاتصالات، يتحاشى الليبيّون الكلام، إذ يعلمون أنَّهم معرَّضون للتنصُّت.

فوْضى في البناء

بقيِت مشاريعُ الإعمارِ الكبيرة التي بدأت فيها قبلَ الثورة على حالِها. فالشركاتُ الأجنبيّة (خاصة الصينيّة والكوريّة والتركية) التي عادَت بعد الثورةِ اضطُرَّت إلى تركِ البلادِ مجدَّداً على إثرِ اندِلاعِ الحربِ الأهليّة في ربيع 2014. وغدَت هياكلُ الأبراجٍ المهجورَة والرافِعات العالِيَة المحاذِيَة لها جزءاً من المشهَدِ المعماري في طرابلس والمدن الأخرى. واستغلَّ المهجَّرون من مدنِهم الأصليّة كالطوارق الوضعَ وسَكنوا الثكَناتِ التي كانَ يسكُنُها عمّال البناء سابقاً. أما البناء الخاص، فهو يزدَهر. فالليبيّون، رغمَ انعدام الأمن، يبنون البيوتَ الفخمة ويضيفونَ الطوابق على سطوحِ الأبنيةِ ولا يتورَّعون بإطلاقِ ورْشات بناء. فكلفةُ البناءِ رخيصة، خاصَةٍ بحكمِ تواجدِ العمّال الأفارِقة. ويستغلُّ كلٌّ الفوضى السائدة، فيبني دونَ أن يتحرّى عن مالكِ قطعةِ أرض، ولا يأبهً إذ يقرضُ بناؤه جزءاً من حديقةٍ عامة، ويزيدُ طابقاً علوياً دون أن يُعنى بأي ضغطٍ إضافي قد يهزُّ أساساتِ البناية. فمنذُ فترة طويلةٍ، وتبعاً للقانون رقم 4 المأخوذ من الكتاب الأخضر لمعمر القذافي، يصبحُ الساكنُ مالكاً لمسكَنه، وذلك بحكمِ إقامتِه فيه.

استراحات ومقاهٍ

في نهاية المطاف، وحدها المقاهي لم تتغيَّر في حياةِ الليبيّين. فالمقاهي تتواجدُ في كلِّ الأمكنة، حتي في بنغازي حيثُ تدورُ حربُ العصابات. فالمقاهي جزءٌ لا يتجزَّؤ من حياةِ الليبيِّ اليوميّة (واستثناءً، في حياةِ زوجتِه أو ابنتِه في طرابلس)، وقد تكونُ هذه المقاهي متواضعةً أو فخمة ، إذ نجدُ مقهى نسبرسو كافيه Nespresso Café في شارعِ غرغارش التجاري في طرابلس ، ومقهى لافازا Lavazza في بنغازي. وقد تكونُ أيضاً تقليديّةً أو مزيّنةً بألوانِ فريقِ كرةِ المفضَّل لصاحبِها. ويشرحُ صلاح: “قد أذهبُ إلى ثلاثةِ مقاهي أو أربعة كلَّ يوم، تبعاً لمن سألْقى من الأصدقاء”. وهذا لا يعني أن صلاح متقاعدٌ أو كسولٌ، إنما إيقاعُ أيّام العمل يعتمِدُ على رغبةِ الموظَّف وصاحبِ العمل على حدٍّ سَواء. فليس نادراً أن يقرِّرَ موظَّفٌ أن يأخذَ فرصةً لبضعة ساعات. فوقتُ الراحة أهمُّ من وقتِ العمل: نمطُ حياةٍ جذّاب، ولكنّه يثيرُ غيظَ مديرِ مستشفى طرابلس المركزي، عبد الجليل غريبي: “لا أستطيعُ أن أثقَ بالممرِّضات الليبيّات. لا أعرفُ هل سيتواجَدن في القسمِ ولا كم منَ الوقتِ سيمكثْنَ به. لهذا السبب، يتكوَّن جزءٌ كبيرٌ من الطاقم الطبّي من الممرِّضين الفيليبينيّين والهنود”.

الشارع ممنوعٌ على المرأة

لا تساهمُ صورةُ المرأة العامِلة هذه بتحسينِ وضعِ المرأة ولم يعدْ الشارع سوى ذكرى بالنسبةِ لاستبراق توات، الناشطة في جمعيّة فينيكس للدفاعِ عن حقوق المرأة والتي تتنهَّد وتقول بحسرة: “في طرابلس، كنتُ أمشي مع أمّي. باتَ الأمرُ مستحيلاً دونَ سماعٍ كلامٍ من قِبَل الرجالِ هنا وهُناك”. وتضيفُ صديقتُها عائشة شكري: “يعتبرون الشارع ملكاً لهم. وليسَ من مصلحةِ أيّةِ امرأةٍ أن تجيب”! أما عائشة المغربي، وهي مناضلةٌ نسويّة معلَنة، شاعرةٌ وإحدى الليبيّات القليلات السافِرات، فخطابُها سياسي: “خلالَ الثورة، كنّا في كلِّ مكان: في المطبَخ، في الجبهَة، في المستشفيات، وفي نهايةِ المطاف، يرفضَ ابني المراهقُ مرافقَتي لأنَّ هناك من يعاكِسُني في الشارع”! وهناك ما هو أسوأُ من ذلك. في الخريف الماضي، قُتلَت إحدى الليبيات السافرات في وَضحِ النهار في شارعِ غرغارش في طرابلس، خلالَ عودتِها من زيارةٍ لصديقة لها. لم تتوضَّح مُلا بساتُ الجريمة كلِّيّاً، إلا أنَّ السفورَ كانَ الحافزَ الأساسي لهذه الجريمة، على ما يبدو.

التربيةُ في مواجهة العنف

بغضِّ النظر عن تلك الحادثةِ المروِّعة، لا يشكِّل التخوُّف الدائمُ من الحرب الأهليّة، ولا النقصُ في المال والخدماتِ العامّة والبنى التحتيّة، الهمَّ الأوَّل عند سكّان طرابلس، بقدرِ ما هوَ النقصُ في مجالِ التربية. “عِشْنا اثنين وأربعين عاماً دونَ أن نحظى بتعليمٍ حقيقي. كانَ القذافي يمنعُ تعلُّمَ اللغاتِ الأجنبيّة، خوفاً من أن نَنفتحَ على أفكارٍ جديدة. لم تغيِّر الثورةُ شيئاً. لا زلنا نرى على التلفزيون، الدعايةَ نفسَها التي كانت في حقبة ِالقذافي، أكانت لهذ الجهةِ أو تلكَ: الكذبُ دائماً وإلقاءُ اللائمة بالكذب على الآخرين”. تلكَ هي خلاصةُ موظَّفٍ كبيرٍ مُهمَّتُه تقييم عملِ الوزارات. كانت ليبيا في الأسابيعَ الأخيرةِ نقطةَ انطلاقٍ مأساويّةٍ لمهاجرين عمومُهم صحراويّون يسعون للوصول إلى أوروبا. في هذه المناسبة، تحدَّثت تقاريرُ تلفزيونيّةٌ عديدةٌ عن ظروفِهم المعيشيِّة المُزريَة: عنصريَّةُ المجتمع، عنفُ أربابِ العمل تجاهَهم، مراكزُ الحجز، إلخ. كلُّ هذا صحيح، إلا أنَّ صحفيَّة أجنبيَّة تضيف: “لا يحترمُ الليبيّون حقوقَ الانسان تجاهَ المهاجرين، هذا واقعٌ، ولكنَّهم لا يحترِمون تلكَ الحقوقَ تجاهَ بعضِهم البعض. لا يمكِنُنا أن نطلبَ منهم التنفيذ الفوري لمبادئ لا معرفةَ لهم بها”. في الشارع، يقضي الأطفال وقتَهم يتضاربون بالعصي وخراطيمَ بلاستيكية. يُسمّون ذلك “لعبةَ الحرب”. يشرحُ الأمرَ صحفيٌّ ليبيٌّ قائلاً: “هذا شيءٌّ عادِيّ. أستاذُنا في المدرسةِ يضربُنا بخرطومِ الغاز حينَ نُخطئ بالإجابةِ أو بالتصرُّف”. وهو نمطُ تربيةٍ يَراه طبيعيّاً جميعُ الليبيين، أو أغلبُهم، أكانوا من الثوريّين أو من المتحسِّرين على زمنِ القذافي.

# لأسبابٍ أمنية، تمَّ تغيير كلِّ الأسماء.