من النكبة إلى النكسة : تطهير عرقي في فلسطين

حزيران 1967 حرب الأيام الستة التي لا تنتهي · بعد مضي 19 عاماً على النكبة (1947-1949) قامت اسرائيل بترحيل دفعة جديدة من الفلسطينيين عن وطنهم الأم خلال حرب 1967 وبعدها. ولقد هُجِّر هؤلاء قسراً من منطقة لطرون والقدس الشرقية ووادي الأردن إلى الضفة الغربية، دون أمل بالعودة.

لاجئون فلسطينيون على جسر أللنبي
من أرشيف وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين 1967

:يدرك المتابعون للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي معنى كلمة “النكبة” وما تشير إليه من كارثة حرب دارت رحاها بين 1947 و1949 وأدت إلى انتزاع أكثر من 80 بالمائة من السكان الفلسطينيين من أراضٍ عاشوا فيها لقرون وشُيّدت عليها إسرائيل. وفي حين تمثل النكبة حدثاً تاريخياً كارثياً في الضمير الجماعي للشعب الفلسطيني، فلقد تبعتها بعد مضي 19 عاماً حرب رهيبة أخرى أدت إلى تهجير ما يقارب من ربع أو ثلث السكان الفلسطينيين وبداية مرحلة جديدة لمن بقي في دياره فاضطر للعيش في ظل نظام إسرائيلي معقد. ولقد سُمّي هذا الحدث الجديد “بالنكسة”، وهي كلمة تعني التردي المفاجئ والخطير لمحنة سابقة.

ولقد حدثت هذه النكسة خلال وبعد الحرب التي دامت ستة أيام فقط بين إسرائيل وعدد من الدول العربية المجاورة، وأسفرت عن انتصار يسير نسبياً لإسرائيل واحتلال للأراضي التي كانت تحت سيادة أو إدارة تلك الدول المجاورة. ومع أن المعارك كانت خاطفة وغير ممتدة على مسافات إلا أن عدد المُرحَّلين الفلسطينيين من جرّاء هذه الحرب كان بمئات الآلاف. بمعنى آخر فإن عدد الفلسطينيين المشردين لا يتناسب مع حجم الحرب بل يتخطاها بأشواط.

حرب ديمغرافية

ولا يمكن فهم هذا الأمر إلا عبر شرحٍ للخلفية الأيديولوجية التي كانت تطبع أي عملية عسكرية أو تشريعية أو إدارية يقوم بها الإسرائيليون. فكما كشف عدد من المؤرخين الإسرائيليين الذين بحثوا في الأرشيف والوثائق الإسرائيلية الخاصة بفترة النكبة، وآخرين ممن اشتغلوا في البحث عن موروث القادة الصهاينة فإن ترحيل الفلسطينيين كان جزءاً من الحل المنشود للمشكلة اليهودية. وبما أن الصهاينة كانوا يريدون انشاء دولة يهودية على أراضٍ يشكل فيها اليهود أقلية، فإن ترجيح كفة الميزان الجغرافي لصالح اليهود كان ممكناً فقط عبر أمرين متضافرين: استيطان الأراضي من قبل اليهود، وترحيل الفلسطينيين من هذه الأراضي إياها.

عندما نشبت الحرب عام 1967، رأى القادة الصهاينة فيها فرصة لإجراء بعض التحولات الديمغرافية في الأراضي المحتلة بشكل عام وفي بعض الاراضي بالتحديد. خلال الحرب وبعدها مباشرة تم ترحيل قرابة 420.000 من الفلسطينيين من ديارهم1. ولقد تم الترحيل عبر عمليات حربية ثم تم تثبيت هذا الوضع عبر فرض تدابير قانونية تحول دون عودة المُهجَّرين الى بيوتهم.

لطرون والقدس الشرقية موقعان استراتيجيان

وعمدت اسرائيل خلال الحرب الى التركيز على بعض المناطق بعينها ذات الأهمية الاستراتيجية. وقد تمثلت إحدى أهم العمليات بإخلاء ثلاث قرى في منطقة لطرون الوسطى في الطرف الغربي من الضفة الغربية، على مقربة من الحدود الإسرائيلية وأسفرت عن ترحيل 10.000 من السكان المدنيين2 . وتبدو منطقة لطرون وكأنها يد تخرج من جسد الضفة الغربية، لم تنجح اسرائيل في احتلالها خلال حرب 1948. وظلت القرى مأهولة حتى حرب 1967 حين طردت اسرائيل السكان بالقوة ودمرت كل المباني فسوتها بالأرض. وتم تحويل الأراضي الى حديقة عامة أطلق عليها اسم “كندا بارك” كما شيدت مستعمرة على جزء من هذه الأراضي. فضلاً عن خط السكة الحديدية الذي مدّته إسرائيل على قطعة أخرى من الأراضي التي طردت منها السكان.

وشملت عمليات التهجير في الطرف الغربي للضفة الغربية مزيداً من المدن والقرى، حيث تم تدمير كل من بيت مرسم وبيت عوا وحبلة وجفتلك والبرج وجزء لا يستهان به من قلقيليه. وبنفس الأسلوب، ما أن حطت اسرائيل يدها على منطقة القدس حتى عمدت الى ترحيل سكان حي المغاربة في المدينة القديمة ودمرت ديارهم وشردتهم. وكانت البيوت في هذه المنطقة السكنية ملكاً وقفاً منذ عام 1193، تسكنها عائلات فلسطينية منذ ذلك الحين. ولقد اعتبر المسؤولون الإسرائيليون الحرب فرصةً سانحة لإخلاء هذه المنطقة وفتح باحة أمام حائط المبكى وهو مكان مقدس بالنسبة لليهود. إلا أنهم لم يدمروا المنازل التي طَردوا منها الفلسطينيين وجعلوها لاحقاً مأوى للمستوطنين اليهود.3

من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية

وكان وادي الأردن منطقة أخرى ذات أهمية استراتيجية في نظرهم كونه يشكل منطقة حدودية بين الضفة الغربية والمملكة الأردنية الهاشمية. ولقد طردت اسرائيل خلال الحرب 88 بالمائة من سكان هذه المنطقة. وكان أول من طُرد منها اللاجئون الذين كانوا قد هُجِّروا من ديارهم خلال حرب 19484 فطُردوا مرة ثانية، من ثلاثة مخيمات في المنطقة، وفرّوا الى الأردن، حيث أضيف عددهم الى نصف المجتمع الأردني المتحدر من أصول فلسطينية.

وبعد الحرب، نجحت اسرائيل في التخلص من 200.000 من الفلسطينيين بتنظيمها لحافلات تنقل السكان من القدس وأماكن أخرى من الضفة الغربية إلى الحدود مع الأردن وأجبرت المرحلين على توقيع وثيقة تفيد بأنهم يرحلون بمحض إرادتهم5 .

ولئن كان بعض هؤلاء قد اختاروا الرحيل فعلاً، إلا أن عدداً كبيراً منهم رحل قسراً كما شهد على ذلك أحد الجنود الإسرائيليين السابقين حين ذكر ما يلي:

“لعل بعض المرحلين كان راغباً بالمغادرة إلا أن عدداً لا يستهان به من السكان طُردوا فعلاً. أجبرناهم على التوقيع، كنا نرى احدى الحافلات تتوقف وينزل منها رجال. ويقول لنا المسؤولون أنهم من المخرِّبين، ويستحسن أن يكونوا خارج الدولة. ولم يكن هؤلاء موافقين على الرحيل، فكانوا يُنتزعون من الباص بالقوة، ويُعَنّفون بالركل والضرب بأعقاب المسدسات. وعند وصولهم الى المقصورة التي أجلس فيها، كانوا في حال من الضبابية تجعلهم لا يكترثون بالتوقيع. كان التوقيع بالنسبة لهم جزءاً من العملية بأسرها. وفي كثير من الحالات كان العنف المستخدم ضدهم يؤتي ثماره من وجهة نظرنا. وكانت المسافة بين نقطة الحدود ومعبر الجسر مائة متر، يعبرها الرجال الخاضعين للعنف ركضاً، في حالة من الرعب. وكان حضور الجنود المغاوير والمظليين الإسرائيليين في الجوار مستمراً. حتى إذا رفض أحد الفلسطينيين مدّ يده للتوقيع بوضع بصمته على الورقة، يخضع حينها لضرب مبرح. وكنت أنا، حينئذ، اقبض بقوة على يده وأغطس إصبعه في الحبر وأجعله يوقع قسراً. هكذا كان يتم ترحيل الرافضين. ولا أشك في أن عشرات الآلاف من الرجال هُجّروا رغماً عنهم”.6 ً

تحجيم الشعب الفلسطيني

وإن لم تلفت هذه المسألة انتباه المؤرخين بالقدر المطلوب فالسبب على الأرجح كونها لم تنطو على معارك عسكرية مثيرة وعمليات طرد شبيهة بعمليات لطرون أو قلقيليه. إلا أن المسألة برزت على الملأ في الخطاب العام وبدأت تحظى بالاهتمام عندما أعلن حاييم هيرتزوغ بكل اعتزاز أنه نظّم هذه العملية بصفته أول حاكم عسكري للضفة الغربية، عام 1991 ونجح في عملية نقل ل200.000 فلسطيني بهذه الطريقة.

في الختام نخلص الى القول بأن قوات الاحتلال الإسرائيلي تصرفت بدافع من الرغبة، كما يقول مصالحة، في “التخفيف من وزن” الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة. ولقد أسفر ذلك عن عدد هائل من اللاجئين والمهجرين داخل الأراضي. وبعد أن تم التهجير جرى ترسيخه بأدوات القانون التي أدت الى تثبيت النفي.

وتضمنت هذه الأدوات القانونية أولاً الحؤول دون إمكانية عودة السكان الذين غابوا عن ديارهم خلال الحرب وأولئك الذين اضطروا الى اللجوء أو الهجرة خارج الوطن وحرمانهم من العيش مجدداً في منازلهم. ولقد تم ذلك عبر إصدار أوراق جديدة للإقامة في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة جرى توزيعها على السكان الذين وردت أسماؤهم في الإحصاء الذي قامت به السلطات الإسرائيلية بنفسها في الاراضي المحتلة. ولقد تعمدت استثناء الغائبين من هذه الرخص.

والأخطر من ذلك أن الحكم العسكري الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة أصدر أحكاماً عسكرية تجعل من أي دخول للأراضي المحتلة دون رخصة دخولاً غير شرعي، يقتضي العقاب بجملة من التدابير من ضمنها الترحيل.

ولقد أدت هذه السياسات الى تهجير مستمر للأفراد والعائلات، وغالبيتهم غير قادرين على العودة حتى يومنا هذا. عدى عن الأعداد الإضافية من الفلسطينيين الذين عرفوا المصير نفسه للمرة الثانية بتدابير التهجير هذه فيما سُمِّي بالنكبة الثانية. وتضم هذه التدابير إلغاء الإقامة، وفرض القيود على تسجيل الأطفال. الخ...

ما من سلام عادل دون حلٍّ لمشكلة اللاجئين بعدحربي ال48 و 67 وكل من تم تهجيره بعد ذلك على يد النظام الإسرائيلي، والأهم من ذلك كله أن أي إمكانية للسلام لن يكتب لها النجاح إن لم تتصدَّ لجذور المشكلة أي الدوافع الأيديولوجية التي أَدت الى مشكلة التهجير هذه.

1الرقم الفعلي غير معروف بالتحديد، وقد أعلن الأمين العام للأمم المتحدة غداة الحرب إن 255.000 من الفلسطينيين تم ترحيلهم بالإضافة إلى 110.000 من سكان مرتفعات الجولان السوريين. راجع الأمم المتحدة الجمعية العامة، تقرير الأمين العام للأمم المتحدة القرار 2252 (ES-V) وقرار مجلس الأمن رقم 237 (1967) 15 أيلول/ سبتمبر 1967 الفقرة 159 الوثيقة A/6797. كما نشر تحت الرمز: S/8158. أما المفوض العام لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين فلقد قدر الأعداد ب300.000 بمن فيهم 120.000 من لاجئي حرب 1948 الذين تم تهجيرهم للمرة الثانية، راجع ال UNRWA، تقرير المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأول من شهر تموز/يوليو 1996) الجمعية العامة للأمم المتحدة 30 يونيو/ حزيران) الفقرة الأولى من التقرير الرسمي UN DOC À/6713. ويقدر Bailey من ناحيته الأرقام ب 300.000 من ضمنهم 113.000 لاجئين من حرب 1948

2نور مصالحة : أرض من غير شعب : إسرائيل وعمليات الترحيل والفلسطينيين Nur Masalha, A Land without a People: Israel, Transfer and the Palestinians, 1949-96,Faber & Faber, 1997

3Rashid Khalidi, “The Future of Arab Jerusalem,” British Journal of Middle Eastern Studies 19, no. 2 (January 1992): 139–40.رشيد الخالدي، مستقبل القدس العربية، من منشورات مجلة الدراسات البريطانية حول الشرق الأوسط

4UNRWA تقرير المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى Report of the Commissioner General of the United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (1 July 1996-30 June 1967), para. 30; مصالحة: سياسة التبرؤ: إسرائيل ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين Masalha, The Politics of Denial: Israel and the Palestinian Refugee Problem, 203; كويغلي، جمع شمل العائلات وحق العودة الى الأراضي المحتلة Quigley, “Family Reunion and the Right to Return to Occupied Territory,” 225

5نور مصالحة: سياسة التبرؤ Nur Masalha, The Politics of Denial, ibid.

6نور مصالحة في كتابه الصادر بالإنكليزية حول " سياسة التبرؤ: اسرائيل ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين.