الاتحاد السوفياتي بين نارين في حرب ال 67

حزيران 1967، حرب الأيام الستة التي لا تنتهي · لقد مثلت الحرب الإسرائيلية العربية محنة كبرى بالنسبة للقيادة السوفياتية، الواقعة بين نارين : حلفها مع مصر وسوريا من ناحية وعزمها على عدم الانجراف الى صدام عالمي مع الولايات المتحدة الأميركية من ناحية أخرى

مايو/أيار 1964 - السكريتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروتشوف الى جانب الرئيس جمال عبد الناصر خلال زيارة إلى مصر

كان لدى القادة السوفيات، عشية حرب ال 67، إقتناع راسخ بأن فترة السنوات الإحدى عشرة التي انقضت منذ حرب السويس عام 1956، كانت كافية لمد الجيشين المصري والسوري بما يكفي من المساعدات لمواجهة اي نزاع محتمل. ثمة عوامل عديدة جعلت السوفيات مرتاحي البال حيال ميزان القوى عشية الحرب الوشيكة: كمية السلاح لدى القوات العربية والعدد الغفير من الجنود، بل والمعين الديموغرافي الذي يكاد لا ينضب في العالم العربي، والاعتقاد الساذج وقتها بأن اليهود “لا يعرفون خوض غمار الحرب”، وهو اعتقاد لم تزعزعه المعارك السابقة التي خاضها هؤلاء في الماضي القريب. وحتى لو لم تكن النية لدى الاتحاد السوفياتي السماح للعرب بتدمير اسرائيل، قطعاً، إلا أنه اعتبر من المفيد بمكان استنهاضهم في المعركة. وفي رأي السوفيات، آنذاك، بالرغم من كون الحرب غير مُستَحبة، إلا أنها لو نشبت فسوف تكون حتماً محدودة ولن تؤدي الى هزيمة عربية.

ويبدو أن السوفيات اعتبروا أن التقارير الاستخباراتية الوافدة من اسرائيل والتي كانت تشير الى حقيقة الاستعدادات العملياتية لدى الجيوش المتواجهة وتخطيط اسرائيل لحملة عسكرية لم تكن سوى تضليلاً. فتصديق مثل هذه الأخبار كان يعني التشكيك بحكمة ودراية القيادة العليا السّوفياتية، وطرح علامات الاستفهام حول جدوى السنوات الطويلة من نشاط الوكالات العسكرية في مصر وسوريا، في الوقت الذي كان ليونييد بريجنيف بحاجة لمساندة القيادة العسكرية من أجل تدعيم موقفه على الصعيد الداخلي. هناك مثل روسي يقول:“لا يرسم الفلاح إشارة الصليب استيعاذاً بالله إلا إذا رعدت السماء”. وها هي السماء ترعد الآن....

حرب من أجل بضعة سفن؟

في مطلع عام 1967 كانت الدعاية السورية المعادية لإسرائيل، والتي اثارتها الى حد بعيد اعتبارات سياسية محلية، مصحوبةً بتحركات عسكرية على خطوط وقف إطلاق النار1 . ومن ناحيته كان الخطاب الدعائي الإسرائيلي المعادي لسوريا أيضاً مصحوباً بمناورات عسكرية تَعِد بالويلات (وقد تكون الاستخبارات السورية ووسائل الإعلام السّوفياتية قد بالغت بشأنها) كما أدلى الزعماء الإسرائيليون بجملة من التصريحات العدائية.

وقد نُقل عن لسان مصدر إسرائيلي رفيع المستوى تهديدٌ مفاده أن إسرائيل لن تتوانى عن اتخاذ تدابير عسكرية فورية لقلب النظام في سوريا2 إن استمر هذا البلد في حملته التخريبية. في الثامن عشر من أيار/ مايو طالب جمال عبد الناصر بسحب قوات الأمم المتحدة المرابطة على خطوط وقف إطلاق النار ومضيق تيران. ونشر مكانها قوات مصرية ، وفِي الثالث والعشرين من مايو/أيار أعلن حظراً على عبور السفن الإسرائيلية من خليج العقبة الى البحر الأحمر، مما يعني حصاراً لميناء إيلات الإسرائيلي. وكما وضح لاكور"3 ما من شك في أن القادة السوفيات كانوا يريدون لمصر أن تستعرض قوتها على حدود إسرائيل الجنوبية ولكن هل كانوا يريدون فعلاً إغلاق مضيق تيران واندلاع الحرب؟ الشواهد متضاربة حول الموضوع.. إذ أن جمال عبد الناصر بادر بالخطوة الأولى دون استشارة الاتحاد السوفياتي. وفي لحظة معينة، بات التراجع مستحيلاً.

ما من مؤشر يؤكد أن أحداً من القادة السوفيات كان يريد حرباً في الشرق الأوسط. إلا أنهم اضطروا الى مساندة العرب معنوياً وسياسياً وكان من الواضح عبر التصريحات الحكومية السّوفياتية في 23 مايو/ أيار 1967 أن موسكو ستنحاز الى العرب إن استهدفهم عدوان4. إلا ان السوفيات ألمحوا بالمقابل الى عبد الناصر أنهم لن يساندوا مبادرة شن الحرب من طرف العرب على اسرائيل. وإن كانت الدبلوماسية السّوفياتية تساند عبد الناصر سياسياً فلقد كانت في الوقت نفسه تسعى الى “حل سلمي عادل مقبول من الطرفين” للأزمة5 وفيما يتعلق بمصالحهم الاستراتيجية، فلم يكن السوفييت يكترثون لمعرفة من هي الجهة التي تتحكم بمضيق تيران أو ما إذا كانت السفن الإسرائيلية تستطيع عبور مياهه أم لا. وبالتالي كان الاتحاد السوفياتي مستعداً لدعم أي حل توفيقي، باعتبار أنه لا يُعقل اندلاع حرب لمجرد أن بضعة سفن لا تستطيع الابحار من العقبة الى البحر الأحمر.

وقف العدوان الإسرائيلي

في اليومين الأوّلَين من الحرب التي نشبت في 5 حزيران/يونيو 1967، وردت في الصحافة والإذاعة السّوفياتية تقارير مُعدة سلفاً تدّعي أن القوات المصرية والسورية توغّلت في عمق الأراضي الإسرائيلية وأن الطيران الحربي العربي استهدف مواقع داخل اسرائيل. وعندما أصبح جلياً في اليوم التالي ان القوات الجوية العربية قد دُمّرت بالكامل وأن القوات البرية تعرضت لهزيمة نكراء لم يكن الاتحاد السوفياتي على استعداد للتدخل في النزاع. وكما كان متوقعاً، فلقد قام الاتحاد السوفياتي بعدد من الأنشطة السياسية والدعائية المساندة للعرب. وكان قد صدر له في 5 يونيو حزيران بيان خاص يستنكر “العدوان الإسرائيلي” ويعلن “دعمه الثابت” لحكومات وشعوب البلدان العربية“، ويحض إسرائيل على”الكف فوراً ودون شروط عن أعمالها الحربية وسحب قواتها الى ما وراء خطوط إطلاق النار"6، كخطوة أولى مستعجلة]].

واقترح المندوب السوفياتي آنذاك في مجلس الأمن نيقولاي فيدورنكو صياغة مماثلة على اجتماع طارىء للمجلس، إلا أن الممثلين الأميركي والبريطاني اعترضا على فقرة في مشروع القرار تنص على انسحاب القوات. عن هذا الموضوع كتب يفغيني بريماكوف " رغم كون الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية يدعمان بكل وضوح طرفين متصارعين في حرب 1967، إلا ان كلا القوتين العظميين كانتا تبحثان عن سبل الحؤول دون استفحال الأمور بحيث لا7 تتحول الى حرب عالمية. وكان هناك خط هاتفي مباشر ومستمر بين زعيمي البلدين"

(...) في 6 حزيران /يونيو تبنى مجلس الأمن بالإجماع قراراً يناشد كل الحكومات المعنية بأخذ التدابير الكفيلة بوقف فوري لإطلاق النار والامتناع عن خوض المعارك في الشرق الأوسط، كخطوة أولى ودون أي تأخير. إلا أن الهجمة الإسرائيلية استمرت غير آبهة بالنداء.

و في 7 حزيران / يونيو عاد مجلس الأمن الى الاجتماع بطلب من المندوبين السوفيات، وذلك من أجل تحديد الوقت الذي تتوقف فيه النيران، وقرر المجلس بالإجماع أن موعد وقف إطلاق سيكون في الثامنة مساء من اليوم نفسه. ووافق الأردن على اقتراح وقف إطلاق النار في 7 يونيو/حزيران ، وفي8 يونيو / حزيران أبلغت الحكومة المصرية الأمين العام للأمم المتحدة يوثانت، أنها توافق بدورها على وقف إطلاق النار شريطة أن يلتزم به الطرف الآخر. إلا أن الاتفاق لم يكن يحتوي اي بند ينص على العودة الى الوضع السابق.

وفي اليوم نفسه أصدرت الحكومة السّوفياتية تحذيراً موجهاً الى اسرائيل مفاده انه في حال لم يتم التطبيق الفوري لوقف إطلاق الذي تطالب به الأمم المتحدة، فسوف يعيد الاتحاد .السوفياتي النظر في علاقاته مع إسرائيل وينظر في إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية معها8 (..) ومع أن مجلس الأمن أمر للمرة الثالثة بضرورة الكف عن الاشتباك فوراً، تابعت إسرائيل توغلها في الأراضي السورية بل وقصفت العاصمة دمشق.

قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل

وفي اجتماع مجلس الأمن في 10 يونيو/حزيران دعا المندوب السوفياتي بإلحاح لاتخاذ إجراءات من شأنها “وقف المعتدي”9 إلا أن المندوب الأميركي، رغم مطالبته كلا الطرفين بوقف إطلاق النار، اعترض على التنديد بإسرائيل. وقطع الاتحاد السوفياتي علاقاته مع اسرائيل في 10 يونيو/ حزيران. وفي هذا التاريخ، وبعد تسلمها المذكرة السّوفياتية، أوقفت إسرائيل الحرب على كافة الجبهات، وكان قادتها قد أنجزوا المهمة العسكرية الاستراتيجية التي حددوها لأنفسهم. (...) في المقابل الى أي مدى كانت إسرائيل مطمئنة الى إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة الأميريكية في حال شنها الحرب؟ لقد كان قرار الحرب قرار القيادة الإسرائيلية وحدها إلا أنها كانت واثقة من النصر كما كانت على ثقة بإمكانية التعويل على واشنطن في حال تعقدت الامور. وكانت واشنطن تحبذ توجيه ضربة الى هيبة الاتحاد السوفياتي ومواقعه، وهو الأمر الذي لا بد أن يتحقق عبر هزيمة حلفائه وأصدقائه العرب، بل وقد يتبعه تغيير للنظام في مصر وسوريا. ولقد بقيت مهمة إخراج الاتحاد السوفياتي من الشرق الأوسط مطروحة على جدول الولايات المتحدة السياسي. (...) ومن السهل القول اليوم، باسترجاعنا للأحداث، أن الزعماء السوفيات قد أخطأوا حين قطعوا علاقاتهم مع إسرائيل، إذ كان بإمكانهم إستدعاء سفيرهم وتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مع الإبقاء على ظابط ارتباط في إسرائيل تحت راية حيادية، فنلاندية مثلاً، من أجل الحفاظ على قناة اتصال مستمرة بالحكومة الاسرائيلية وقوى سياسية أخرى، وعملاً على تسهيل مساهمة السوفيات في أي عملية سياسية لاحقة لصنع السلام في المستقبل. ولقد فسر المحللون الغربيون التحرك السوفياتي على أنه التفاتة موالية للعرب. إلا أن تفسيراً آخر ورد على لسان مسؤول رفيع في وزارة الخارجية السّوفياتية.

قال المسؤول في الخارجية: "لقد اتخذت وزارة الخارجية أحياناً إجراءات كان لها اثر سلبي على سياستنا الخارجية، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1967. ومن الواضح أنه كان إجراءً خاطئاً كلفنا الكثير. لماذا اتخذناه إذاً؟ دعني أُذكّر بحكاية رواها ليف مندلفيتش، وكان حينها على علم بالقرارات المتخذة داخل السلطة بعيداً عن الأضواء حول هذا الموضوع. كان غروميكو هو الذي اقترح قطع العلاقات في آخر لحظة، في اجتماع المكتب السياسي، وذلك بهدف تفادي التورط في مغامرة حربية واسعة النطاق إلى جانب العرب كان يطالب بها “الصقور” في معسكرنا. كان ذلك ثمناً زهيداً لإرضاء وتهدئة ال“صقور”.

“سألته:”من كان ضمن أولئك الصقور في ذلك الوقت؟ أجاب المسؤول : “لم يذكر مندلفيش أي أسماء.. كان غروميكو يخشى حصول صدام مع الولايات المتحدة الأميركية بما يعيدنا الى أزمة الصواريخ التي عشناها عام 1962. وفي حقيقة الأمر كان قطع العلاقات مع إسرائيل عملية للاستهلاك المحلي أكثر منها التفاتة لصالح العرب”.

(...)

صهاينة رجعيون مقابل عرب تقدميين

ومع أن الاتحاد السوفياتي لم يستطع الحؤول دون تكبّد البلدان العربية هزيمة عسكرية إلا أنه استطاع تجنيبها الانهيار السياسي والاستراتيجي. فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى باشر بإرسال شحنات من الأسلحة والعتاد الى مصر وسوريا كما بعث إليهما بالعديد من المستشارين ناهيك عن المساعدة الاقتصادية المكثّفة. وبدأت وسائل الاعلام حملة دعائية مضادة لإسرائيل والصهيونية متهمة الاسرائليين “بالاعمال البربرية”10 في حين استخدمت “صحيفة البرافدا عبارة”حرب إبادة"11 .

وأُلصقت بوزير الدفاع موشي ديان تسمية “موشي أدولفوفيتش” (للتلميح بأنه من أتباع أدولف هيتلر) ونُعتت الصهيونية بأنها زمرة من اللصوص، وأداة للسيطرة على رجال البنوك في “وول ستريت”، وأحياناً بالحاكم الآمر على وول ستريت. وتم التعامل مع الصهيونية لا كحركة سياسية بل كمؤامرة إجرامية موجهة ضد كل الشعوب المحبة للسلام. وقيل أنها بتأثُرها بالتعاليم اليهودية فهي ضرب من ضروب العنصرية، تسعى الى السيطرة على العالم بأسره. وأردفت وسائل الإعلام السّوفياتية قائلةً إن “العدوان الإسرائيلي” قد فشل في تحقيق هدفه الأساسي إذ لم ينجح في قلب النظم “التقدمية” العربية.

ثم طرحت سياسة الاتحاد السوفياتي حيال الشرق الاوسط كبند أساسي للنقاش على جدول أعمال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 21 يونيو/ حزيران، وصدر قرار مفاده أن “العدوان الإسرائيلي جاء نتيجة مؤامرة من القوى الأكثر رجعية في الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، الموجهة ضد فصيل من حركة التحرر الوطني، وطليعة الدول العربية التي اختارت طريق التحول الاقتصادي الاجتماعي التقدمي لمصلحة الجماهير الكادحة والتي تنتهج سياسة مضادة للإمبريالية.”(..) ولقد جرى بعد ذلك ترداد هذه النظريات وهذه الحجج دون توقف على لسان الباحثين الأكاديميين والصحفيين السوفيات.

وفي عام 1990 تحدثت عن هذا الأمر مع أ.د. بيرلين، نائب المدير الأسبق لقسم الشرق الاوسط في وزارة الخارجية وبعد ذلك مع أحد الباحثين حول الشرق الأوسط.

سؤال : “والآن، وبعد كل هذه السنوات، أما زلت تعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية كان لها مصلحة فعلاً بحرب 1967؟”

أ.د. بيرلين: “نعم، على الأرجح. وفي ما كتبناه وقتها أساس من الصحة لاشك فيه . من المؤكد أن الولايات المتحدة كانت تود إحراج عبد الناصر والبعث في سوريا، أو الإطاحة بهما، الواحد تلو الآخر أو الاثنين معاً”.

سؤال: “ولكن المسؤولين السياسيين الإسرائيليين والباحثين الأكاديميين يكتبون أن القوات الإسرائيلية لم تكن متمركزة على الحدود السورية”.

أ.د. بيرلين: "كان بإمكان إسرائيل تعبئة جيشها في غضون يوم واحد. كانت عملية شن الحرب مرتبطة بالقرار السياسي، فقط لا غير، والقرار هذا كان في حقيقة الامر قد اتُخذ. إلا أن جمال عبد الناصر منحهم الذريعة بسحب قوات الامم المتحدة من الحدود وإغلاق مضيق تيران. ربما كان بإمكاننا التدخل ومطالبة عبد الناصر دون مواربة بإلغاء قراره فوراً. لكننا لم نجرؤ على ذلك خشية استعدائه12.

هيبة ثابتة رغم تراجعها

ولقد اتهم الرأي العام العربي والعديد من الزعماء السياسيين الاتحاد السوفياتي بالفشل في تجنيب الأصدقاء العرب الهزيمة. قد تبدو عملية النقد الذاتي وتأنيب الضمير نادرة في الطباع الوطنية العربية في حين نراها من صميم الطباع الوطنية الروسية. لذلك فإن أسباب الفشل والهزائم لدى العرب تُعزى الى “القدر”، والإمبريالية، والاتحاد السوفياتي، أي طرف كان، باستثناء العرب أنفسهم. ولكن هذه المرة، كانت الهزيمة العسكرية والمهانة التي لحقت بالحركة القومية من الجسامة بحيث أثارت موجة من النقد الذاتي، في هبة من العلاج التطهيري، إلا أنها لم تشمل إلا شريحة سطحية من يسار النخبة الفكرية (الانتليجنتسيا).

ولقد عللت الصحافة السّوفياتية الانتصار العسكري الاسرائيلي بالطابع المفاجيء للعدوان، والمد الغربي بالأسلحة، والتعاون الاسرائيلي-الأميركي، والمزاج المتعصب للشعب الإسرائيلي، الى آخره من الأسباب، وقيل أن “البرجوازية العسكرية” المصرية قد خانت عبد الناصر، وعلى وجه التحديد قيادة القوات الجوية . كما قيل أن الشعارات العربية المتطرفة في عدائها المعلن لإسرائيل قد ألحقت الضرر الفادح بقضية العرب، وذهب البعض الى ان الأنظمة التقدمية قد هزمت لانها لم تكن تقدمية بما فيه الكفاية. وأن على الأنظمة، إذا ما أرادت استرجاع الاراضي المحتلة، أن تقوم بعملية تطهير في البنى السياسية والعسكرية لاستئصال العناصر الرجعية والمعادية للاتحاد السوفياتي (...).

ومع أن هزيمة حلفائه نالت من هيبة الاتحاد السوفياتي إلا انها لم تقوض تماماً نفوذه ف المنطقة، إذ كان قد تم ترسيخه في السنوات العشر السابقة للحرب العربية الإسرائيلية عام 1967. بل على العكس تماماً، إذ استمرت التوجهات الاجتماعية السياسية التي كانت قد اكتسبت قوة في عقدي الخمسينات والستينات، بوتيرتها الذاتية بل وتسارعت بفعل الحرب، واعتبر الرأي العام العربي أن الحرب كانت “عدواناً إسرائيلياً مُدبّراً بالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأميركية” بما يتفق مع الرواية السّوفياتية الرسمية. ولقد أدت الموجة المتعاظمة من المشاعر المعادية للغرب (“ضد الإمبريالية”) الى انقلاب بعثي جديد في العراق في يوليو/ تموز 1968، وانقلاب يساري راديكالي في السودان في مايو/ أيار 1969، والى ثورة في ليبيا في اول ايلول/سبتمبر 1969. ولم تكن وقتها جاذبية النموذج الاجتماعي السياسي السوفياتي، التي اقتبست منها الأنظمة بعض العناصر، قد تضاءلت بعد تماماً. أوَلَمْ تكن الانتصارات العسكرية والسياسية لفيتنام وكوبا تدل على القدرة التعبوية لهذه الأنظمة اليسارية الراديكالية؟ ألم تكن مصر، زعيمة العالم العربي، سالكةً الطريق نفسه، ماضيةً فيه بعزم؟

بين نارين

إلا أن لُب القضية كان مختلفاً. فلقد أثبت الزعماء السوفيات أنهم لن يسمحوا بانهيار الأنظمة الصديقة وأن لديهم القدرة والامكانيات الكفيلة بمنع سقوطها. ولقد أُغدقت المساعدة العسكرية على مصر وسوريا بما يفترض اعادة بناء طاقتها. واستمرت المشاريع الجسيمة - منها ما ينطوي على أهمية قصوى فتحت عهداً جديداً، مثل بناء السدود في أسوان وعلى الفرات، وإنشاء مصنع القصدير في حلوان- بفضل التعاون مع الاتحاد السوفياتي. كما هاجر العديد من المصريين والسوريين والعراقيين لمتابعة دراساتهم في الاتحاد السوفياتي.

إلا أن نزعات أخرى بدأت بالظهور بشكل واضح وراحت تنال من نفوذ الاتحاد السوفياتي في الشرق الاوسط وذلك منذ أواسط السبعينات. ولم يكن السبب وحده في كون الأنظمة الثورية الاستبدادية غير قادرة على حل مشاكلها الداخلية، حيث كان بالإمكان التذرع بال “المؤامرات الإمبريالية والصهيونية” و بحالة الحرب. ثم أن الأزمات الداخلية الحقيقية كانت ستظهر لاحقاً.

كان لُب المشكلة في حقيقة الأمر التناقض الداخلي في موقف الاتحاد السوفياتي حيال النزاع العربي الإسرائيلي. ففي الوقت الذي كان الاتحاد السوفياتي يسلح فيه مصر وسوريا، لم يكن يرغب في - ولا هو مستعد أساساً- للتخطيط لحل عسكري للمشكلة، ولا لأي تغيير في الوضع السائد. أولاً كان الزعماء السوفيات يخشون هزيمة عربية جديدة. وثانياً كان سيَتعيّن على الاتحاد السوفياتي في حال مثل هذه الانتكاسة أن يَرفع من مستوى انخراطه بالنزاع لينقذ الأصدقاء والاستثمارات التي ساهم بها. وثالثاً كان من المحتمل أن تُثير مشاركته في الأعمال هذه رد فعل أميركي يؤدي الى الصدام بين القوتين العظميين. ورابعاً كان من شأن أي تسوية أن تخفف من تبعية البلدان العربية تجاه السوفيات. في حقيقة الأمر كان من مصلحة الاتحاد السوفياتي الإبقاء على حالة “اللا حرب واللا سلم” رغم المظاهر الخارجية للجهود الدبلوماسية السّوفياتية في حل النزاع.

جمال عبد الناصر على الطريق السليم

ولقد حفّزت المجابهة مع كل من اسرائيل والغرب جمال عبد الناصر على المضي قدماً في تقرّبِه من الاتحاد السوفياتي. (…) وبالنسبة للاتحاد السوفياتي فلقد ظل تعاونه مع مصر بطبيعة الحال ذا أولوية قصوى في المنطقة. وبفضل التوريدات السّوفياتية من الأسلحة وتواجد المستشارين العسكريين ، كان الجيش المصري قد استعاد فاعليته بسرعة. واستمرت زيارات الوفود رفيعة المستوى ما بين البلدين، وكان تعاون عبد الناصر مع اليساريين والماركسيين قد أفضى الى إيهام موسكو بأن مصر ما زالت على “الطريق السليم”.

و كنت قد تناقشت بالأمر عام 1990 مع ن. بونومارييف، حيث قال لي: “عبد الناصر كان زعيماً”تقدمياً وصديقاً للاتحاد السوفياتي، يطمح الى وضع مصر على طريق التطور الاجتماعي.

سألته: “حسب فهمكم للأمور كان التطور الاجتماعي يعني المقاربة التدريجية”لنموذج الاتحاد السوفياتي، أليس كذلك؟

ب. ن. بونومارييف : “طبعاً، هذا ما كنت أعنيه، من البديهي أن جمال عبد الناصر كان يتقدم باتجاه مشابه لتجربتنا، عبر اقترابه من الاتحاد السوفياتي، ومن الكفاح ضد الإمبريالية والنضال من أجل الاشتراكية، ولقد أبلغت السلطات العليا بذلك”13.

ولقد تدفقت الأسلحة السّوفياتية أيضاً على سوريا للتعويض عن خسائر الحرب ولقد زار أندري أنطونوفيتش غريشكو، وزير الدفاع السوفياتي دمشق في مارس/ آذار 1968. وكان أحد أسباب الهزيمة السورية سَحْب النظام لعدة وحدات قتالية سورية عالية الجاهزية من الجبهة، وذلك بهدف تدعيم حماية زعماء البعث والأمن الداخلي، حيث كانت القيادة السورية تخشى على نفسها من خصومها في الداخل، أكثر مما تخشىاه من إسرائيل. ولقد كان لهذه السياسة فعاليتها إذ أضعفت المعارضة في سوريا وشتتت جهودها(...). إلا أن سوريا بقيت في نظر الاتحاد السوفياتي حليفاً مزعجاً، لا يمكن ضبط أفعاله، ولا التنبؤ بها فظلّت في رأيه مصدراً للتعقيدات. ولم تكن موسكو تستسيغ الشعارات الصادرة من دمشق والمغالية في تطرفها اليساري (عبارات مثل “الحرب الشعبية”على اسرائيل مثلاً).

حرب الاستنزاف (1969 - 1970)

وفي نيسان/أبريل 1970، علق جمال عبد الناصر على الأحداث قائلاً: “لقد استطعنا بفضل الاتحاد السوفياتي أن نستعيد القدرة الدفاعية للجمهورية العربية المتحدة ونحن الآن في موقع يسمح لنا بالرد على اعتداءات اسرائيل على نطاق واسع.”14 إلا أن اسرائيل، معتمدةً على القدرات القتالية المتقدمة في جيشها وتنظيمها العسكرية المتفوق وسيطرتها على الأجواء، قررت نقل “حرب الاستنزاف” الى عمق الأراضي المصرية باستهدافها مواقع عسكرية واقتصادية ومدنية .

وكانت عمليات القصف الإسرائيلية قد بلغت في ديسمبر/كانون الأول 1969 مبلغاً بات معه الوضع الداخلي السياسي خطيراً وهيبة جمال عبد الناصر متردية الى درجة حملته على القيام بخطوة غير مسبوقة، بأن قام بزيارة سرّية الى موسكو في 22 يناير 1970 طلب فيها من القادة السوفيات ارسال قوات نظامية من سلاح الجو مزودة بالطائرات الحربية لدعم قواته. إلا أن الامتثال لمثل هذا الطلب كان يتخطى الالتزامات التقليدية للسوفيات تجاه الحليف المصري ويقتضي قراراً من المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي وكذلك قراراً من قيادة القوات المسلحة السّوفياتية15.

مرة أخرى، لم تكن محاولة إنقاذ نظام عبد الناصر وحدها العامل الذي أخذته القيادة السّوفياتية في الحسبان، لدى اتخاذها القرار، بل كانت مصالحها العسكرية والاستراتيجية في صميم حساباتها .

1لم يكن هناك سوى اتفاقيات هدنة موقعة بين اسرائيل والعرب

2ولتر لاكور ، مؤلف كتاب : “الطريق الى حرب ال”67 ، الصادر باللغة الانكليزية. ص 75

3راجع كتاب لاكور المذكور آنفاً

4صحيفة البرافدا 24 مايو/أيار 1967

5مذكرات بريماكوف الصادرة باللغة الروسية وعنوانها “سري جداً: الشرق الأوسط على مسرح الأحداث و في الكواليس (النصف الثاني من القرن” العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين) موسكو 2012.

6سياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية والعلاقات الدولية، مجموعة وثائق موسكو ;ص 147-148.

7راجع المصدر المذكور آنفاً

8راجع المصدر المذكور آنفا : “سياسة الاتحاد السوفياتي الخارجية والعلاقات الدولية” ص 148-149.

9الأمم المتحدة، وثائق مجلس الأمن،من تاريخ 16-6-1967 الى 15-7-1967. المحاضر الرسمية للجمعية العامة، الدورة القانية والعشرون، الملحق رقم 2 (A/6702) 1967. ص 70

10صحيفة الإزفيستيا، 10 يونيو / حزيران

11صحيفة البرافدا في 22 يونيو /حزيران 1967

12مقابلة تمت في أيار 1990

13مقابلة تمت في تموز/يوليو 1990

14صحيفة الأهرام 12 أبريل/ نيسان 1970

15محمد حسنين هيكل، في كتاب : الطريق الى رمضان، الصادر باللغة الانكليزية، لندن، منشورات كولينز 1975 ص 88