تحقيق

اتفاقية الهجرة مع مصر. سفن فرنسية في مياه عكرة

ستقوم ثلاث شركات فرنسية وهما “سيفيبول” وشركة الاستشارات الدفاعية الدولية وشركة “كواش” بتزويد البحرية المصرية بثلاث سفن بحث وإنقاذ، علاوة على تدريب طواقمها. هذا ما يكشفه موقع “أوريان 21” في تحقيق حصري. وقد تجعل عملية التزويد هذه، التي تتم في إطار اتفاقية الهجرة مع مصر، من الاتحاد الأوروبي طرفا متواطئًا في الانتهاكات التي يرتكبها خفر السواحل المصري والليبي.

سفينة الإنقاذ Ocean Viking تصل إلى ميناء طولون جنوب فرنسا، تحت مراقبة سفينة عسكرية، وعلى متنها مهاجرون، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
كريستوف سيمون/وكالة فرانس برس.

عاماً بعد آخر، تواصل فرنسا سياستها في إضفاء الطابع الخارجي على حدود أوروبا. وفقًا لمعلوماتنا، قامت شركة Civipol، المتعامل الدولي التابع لوزارة الداخلية، ومتعاقدها الفرعي المتمثل في شركة الاستشارات الدفاعية الدولية، وهو مزود الخدمات المعتاد لوزارة القوات المسلحة لتدريب العسكريين الأجانب، باختيار شركة Couach لبناء السفن من منطقة جيروند (جنوب غرب فرنسا) لتزويد خفر السواحل المصرية بثلاث سفن بحث وإنقاذ، والذين ستقوم شركة الاستشارات الدفاعية الدولية بتدريب طاقمها. يتم كل ذلك بتمويل أوروبي قدره 23 مليون يورو، يشمل أدوات مدنية لمراقبة الحدود. ووفق مصادرنا دائماً، من المتوقع أن تتبع ذلك عروض تنافسية أخرى من قبل سيفيبول وشركة الاستشارات الدفاعية الدولية لمراقبة الهجرة في مصر، لا سيما بغاية توريد الكاميرات الحرارية وأنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية.

ترتبط هذه العقود بصفة مباشرة باتفاقية الهجرة الموقعة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بين الاتحاد الأوروبي ومصر، حيث تتكفل القاهرة، مقابل مساعدة مادية بقيمة 110 ملايين يورو إجمالاً، بمنع المهاجرين واللاجئين المتواجدين على أراضيها وفي مياهها الإقليمية من المغادرة إلى أوروبا. مهندس هذا المشروع هو المفوض الأوروبي لشؤون التوسيع وسياسة الجوار، أوليفر فارهيلي، وهو دبلوماسي ينتمي إلى حزب “فيدس” الذي يتزعمه رئيس الوزراء المجري غير الليبرالي، فيكتور أوربان. وقد لفت الانتباه مؤخرا بإعلانه، من جانب واحد، تعليق المساعدات الأوروبية لفلسطين غداة السابع من أكتوبر ــ قبل أن يُعاد “تأطيره” ليتراجع عن القرار. كُلّفت بشكل مشترك كل من شركة سيفيبول والمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة لتنفيذ هذا الاتفاق، كما سبق أن أشار إلى ذلك موقع “أفريكا انتليجنس”. منذ ذلك الحين، دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى إبرام اتفاقية جديدة للهجرة مع نظام المشير السيسي. ووفقا للاتحاد الأوروبي، سيتعلق الأمر بدعم خفر السواحل المصري على تقديم المساعدة للمهاجرين الغرقى، من خلال نهج “قائم على الحقوق وموجه نحو الحماية ومراع للفوارق بين الجنسين”.

انصرفوا، لا شيء يُذكر!

هي كلها مفردات خطابية لا تُقنع منظمة “منصة اللاجئين في مصر” غير الحكومية، والتي دقت ناقوس الخطر بخصوص هذه الاتفاقية قبل عام. وقد ندّدت في تصريح لموقع “أوريان 21” قائلة:

شدّدت الحكومة المصرية منذ 2016 قمعها للمهاجرين والأشخاص الذين يساعدونهم. يهاجر عدد متزايد من المصريين إلى أوروبا لأن الشباب ليس لديهم أي مستقبل هنا. وسوف تتفاقم ظاهرة القمع هذه على وجه التحديد من خلال دعم الاتحاد الأوروبي للحكومة المصرية. تقوم الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة باستغلال الهجرة كوسيلة للحصول على الدعم السياسي والمالي من أوروبا.

في مصر، يتم فعلاً اعتقال المهاجرين ومعاملتهم بوحشية عند التظاهر. وتتعرض النساء اللاجئات للاعتداء الجنسي دون أن يُعاقب مقترفو هذه الأفعال. ويتم ترحيل طالبي اللجوء إلى دول خطيرة مثل إريتريا، أو يُمنعون من دخول الأراضي المصرية. ومن جهة أخرى، يتعاون خفر السواحل المصري مع نظيره الليبي، والذي يحظى كذلك بدعم الاتحاد الأوروبي ليدفع بالمهاجرين إلى البحر أو يعتقلهم ويحتجزهم في ظروف غير إنسانية. كما أن هذا الفريق على علاقة بالميليشيات التي تُمارس هي نفسها التهريب.

كل هذه المعلومات لا تتوافق مع الوعد الأوروبي بمراقبة الحدود “على نهج قائم على الحقوق وموجه نحو الحماية ومراع للفوارق بين الجنسين”. مع العلم أن الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) كانت هي نفسها مذنبة بارتكاب عمليات صَدّ غير قانونية للمهاجرين (pushbacks)، واتُهمت بالتسامح مع سوء معاملتهم. عند الاتصال بخصوص هذا الموضوع، لم ترد على أسئلتنا وزارات الداخلية والخارجية والقوات المسلحة الفرنسية والمنظمة الدولية للهجرة وشركة سيفيبول وشركة الاستشارات الدفاعية الدولية وشركة كواش. وقام موقع “أوريان 21” أيضًا في الأوّل من يونيو/حزيران وفي إطار هذا التحقيق، بتقديم طلب إلى المديرية العامة لمفاوضات الجوار والتوسيع التابعة للمفوضية الأوروبية، باسم الحق في الحصول على المعلومات، من أجل الاطلاع على الوثائق المختلفة المتعلقة باتفاقية الهجرة بين الاتحاد الأوروبي ومصر. وقد حددت هذه الأخيرة اثني عشرة وثيقة قد تهمنا، ولكنها قررت منعنا من الوصول إلى 11 منها. أما الوثيقة الثانية عشرة، فلم تكن تتضمن أي معلومة ذات أهمية. ولتبرير ذلك، استندت المديرية العامة لمفاوضات الجوار والتوسيع التابعة للمفوضية الأوروبية إلى سلسلة من الأسباب تتراوح بين حجج متماسكة (سرية المعلومات المتعلقة بأمن الاتحاد الأوروبي وسياسته الخارجية)، إلى حجج أكثر إثارة للدهشة (حماية البيانات الشخصية - بينما كان يكفي حجب هذه البيانات - بل وحتى حماية الأسرار التجارية). تم تقديم استئناف داخلي أول في 18 يوليو/تموز، ولكن في غياب رد من طرف المديرية العامة في الآجال المحددة، لجأ “أوريان 21” إلى الوسيطة الأوروبية في نهاية سبتمبر/أيلول، والتي طلبت، دون جدوى، من المفوضية الرد علينا قبل 13 أكتوبر/تشرين الأول.

في رسالة تلقيناها في 15 نوفمبر/تشرين الثاني، أكد متحدث باسم المديرية العامة لمفاوضات الجوار والتوسيع التابعة للمفوضية الأوروبية بأنْ:

مصر تظل شريكًا موثوقًا ويمكن التنبؤ به بالنسبة إلى أوروبا، وتشكل الهجرة مجالًا رئيسيًا للتعاون. لا يستهدف المشروع المعدات فحسب، بل أيضًا التكوين لتحسين المعارف والمهارات [لدى خفر السواحل وحرس الحدود المصريين] في مجال التسيير الإنساني للحدود (...). وسيكون الاحترام الكامل لحقوق الإنسان عنصرًا أساسيًا ومندمجًا في هذا العمل بفضل مراقبة صارمة ومنتظمة لاستخدام المعدات.

باريس - القاهرة، علاقة خاصة

تندرج عملية تسليم السفن هذه ضمن تاريخ طويل من التعاون الأمني بين فرنسا والدكتاتورية العسكرية المصرية، التي وصلت إلى السلطة بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 وغداة المجزرة التي راح ضحيتها المئات من أنصار الرئيس المخلوع محمد مرسي. ومنذ ذلك الحين، ضاعفت باريس من مبيعات الأسلحة وبرامج التجسس لنظام المشير السيسي، الذي يتميز بسيطرة الجيش على الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد وانتهاكات مروعة لحقوق الإنسان.

وضع الصحفية المستقلة أريان لافريو تحت المراقبة، ثم تفتيش منزلها من طرف المديرية العامة للأمن الداخلي واحتجازها لدى الشرطة في نهاية سبتمبر/أيلول، كل هذا كان مرتبطاً بشكل خاص بما كشفته زميلتنا في موقع “ديسكلوز” الاستقصائي عن عملية “سيرلي”، وهي عملية سرية تشترك فيها المخابرات العسكرية الفرنسية والمصرية، والتي حوّلت القاهرة هدفها من مكافحة الإرهاب إلى القمع الداخلي. وتم بعد ذلك فتح تحقيق بتهمة “المساس بأسرار الدفاع الوطني” بسبب نشر وثائق سرية (مصنفة بنسبة متواضعة) من قبل موقع “ديسكلوز”.

بالتالي، تم بشكل غير مباشر تكليف فرنسا بتنفيذ اتفاقية الهجرة بين الاتحاد الأوروبي ومصر عبر سيفيبول، وهي شركة يرأسها المحافظ يان جونو، ومملوكة بشكل مشترك من قبل الدولة الفرنسية ومتعاملين خواص للأنشطة الأمنية (شركة الإلكترونيات الدفاعية Thales، وشركة Idemia المتخصصة في الهوية الرقمية، وإيرباص للدفاع والفضاء). تقوم سيفيبول بتنفيذ مشاريع التعاون الدولي التي تهدف إلى تعزيز قدرات الدول الأجنبية في المجال الأمني، خاصة في أفريقيا. ويمكن أن تتبناها فرنسا، لا سيما عبر مديرية التعاون الأمني الدولي التابعة لوزارة الداخلية. لكن الشركة تعمل أيضًا لصالح الاتحاد الأوروبي.

طلبت شركة سيفيبول دعم شركة الاستشارات الدفاعية الدولية، وهي شركة يديرها الدركي صموئيل فرينغانت، نائب ديوان سابق للرئيس نيكولا ساركوزي انتقل إلى القطاع الخاص. كانت شركة الاستشارات الدفاعية إلى وقت قريب تحت سيطرة الدولة، إلى جانب ديوان الأسلحة السابق Eurotradia، المشتبه بالفساد، وشركة Sofema، بائع معدات عسكرية فرنسية مجددة. لكن من المتوقع أن تنتقل الشركة قريبا إلى أيدي مجموعة الاستخبارات الاقتصادية الفرنسية ADIT (وكالة نشر المعلومات التكنولوجية) التابعة لفيليب كادوك، ومساهمها الرئيسي صندوق Sagard التابع لعائلة ديماريه الكندية، والتي أصبح لصندوق الثروة السيادية الإماراتي حصة في رأس مالها الآن.

توفر شركة الاستشارات الدفاعية الدولية بشكل أساسي خدمة تدريب الجيوش الأجنبية على استخدام المعدات العسكرية التي تبيعها فرنسا، خاصة في الشرق الأوسط ولاسيما في مصر. ولكن، كما هو حال سيفيبول، تتعاون الشركة بشكل متزايد مع الاتحاد الأوروبي، خاصة من خلال ما يُسمّى باطلاً “مرفق السلام الأوروبي”.

ميثاق مع الشيطان.. حول الهجرة

وعلى نطاق أوسع، تندرج هذه الشراكة مع مصر ضمن اتجاه عام متمثل في اللجوء إلى مصادر خارجية لمراقبة حدود أوروبا، والتي تجعل الاتحاد الأوروبي يبرم اتفاقيات مع البلدان الواقعة على طول طرق الهجرة، بحيث تمنع هذه الأخيرة مغادرة المهاجرين واللاجئين، وأن يقوم هؤلاء بتقديم طلبات اللجوء الخاصة بهم من أفريقيا، قبل وصولهم إلى الأراضي الأوروبية. وبعد ليبيا الرائدة في هذا المجال، وقّع الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص شراكات مع مصر وتونس - التي شجع رئيسها قيس سعيّد مؤخّرًا أعمال عنف عنصرية ضد مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء - والمغرب. تشمل هذه الاتفاقات 26 دولة إفريقية، وفقا لتحقيق أجراه الصحفي أندريه بوبوفيتشيو مع المجلة الأمريكيةIn These Times.

لا يتردد الاتحاد الأوروبي من خلال هذه الاتفاقيات في تقديم مساعدة مالية وبشرية ومادية لفاعلين لا يبالون كثيرًا باحترام الحقوق الأساسية والإدارة المالية الجيدة، وهم أحيانًا متورطون في الإتجار بالبشر. ويجد الاتحاد الأوروبي أيضًا صعوبة في تتبع استخدام مئات الملايين من اليوروهات هذه وتقييم مدى نجاعة هذه السياسات، التي أدت بالفعل إلى نتائج عكسية في شكل ابتزاز على استعمال ورقة الهجرة، كما حصل على سبيل المثال مع تركيا. مع أنه توجد مقاربات أخرى. ولكن في مواجهة الآراء العامة المعادية للهجرة على نحو متزايد، وعلى خلفية تطبيع أفكار اليمين المتطرف في السياسة وفي وسائل الإعلام، تبدو الدول الأعضاء السبعة والعشرين والمؤسسات الأوروبية حبيسة دوامة قمعية.