أزمة إنسانية

الإسرائيليون لا يستهدفون الأونروا

من خلال توجيه اتهاماتها إلى الأونروا - والتي اتضّح أنها خالية من أي مصداقية -، تحاول إسرائيل “شطب” قضية اللاجئين التي - من الناحية القانونية - لم يتم التصرف فيها بعد، وذلك من أجل تكريس أكذوبة “أرضٌ بلا شعب، لشعبً بلا أرض”. وهكذا يحاول الإسرائيليون أن ينسى العالم كله كيف نشأت دولتهم.

جنود إسرائيليون أمام مبنى لوكالة الأونروا في مدينة غزة في 8 فبراير/شباط 2024.
JACK GUEZ/AFP

كان رئيس الوزراء الإسرائيلي (الذي يحكم للمرة السادسة) بنيامين نتنياهو واضحاً تماماً حين قال نصًّا في اجتماعه مع وفد من السفراء لدى الأمم المتحدة صباح الأربعاء 31 يناير/كانون ثاني 2024، إن مهمة الأونروا يجب أن تنتهي.. فهذه المنظمة لا تفعل غير أنها “تُبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية” وقد حان الوقت لكي تتفهم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أن هذا لا بد أن ينتهي.

كما كان لافتًا ومفجعًا أن تسارع دول غربية عدّة - بدأتها الولايات المتحدة بالطبع - باتخاذ ما من شأنه مساعدة إسرائيل/نتنياهو في تحقيق هدفه البعيد، المتمثل في إلغاء الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أو بالأحرى إلغاء المعنى القانوني لوجودها.

الأونروا أو الترسيخ القانوني لحق العودة

فضلاً عن محاولة إثارة الغبار حول نزاهة تقارير المنظمة الدولية وشقيقاتها عشية قرار محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني، والذي استند إلى حد كبير إلى تلك التقارير، فليس أوضح من تصريح نتنياهو العلني عاليه كشفًا (وفضحًا) لحقيقة الهدف “الاستراتيجي” للحملة الإسرائيلية الشرسة والمفاجئة على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (“الأونروا”)، بزعم مشاركة 12 من موظفيها فيما جرى في السابع من أكتوبر، أو في التعبير عن الابتهاج به. لاحظ من فضلك أنهم يتحدثون عن اثني عشر (فردًا) على الأكثر من بين أكثر من ثلاثة عشر (ألفًا) هم مجموع العاملين في المنظمة الدولية.

لا يريد نتنياهو أن “تبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية”، كما قال نصًّا في حديثه الصريح للدبلوماسيين، وهو في هذا، ليس أكثر من مُعبرٍ عن الموقف الإسرائيلي القديم والثابت، والذي يدرك ما تمثله مشكلة اللاجئين، وما يرتبط بها من “حق العودة” من تهديد يمتد في تفاصيل التاريخ وتضاريس الجغرافيا. فمجرد التذكير بقضية لاجئي 1948، من شأنه تاريخيا أن يقوّض الأساس الذي قامت عليه إسرائيل (الدولة): “أرضٌ بلا شعب، لشعبً بلا أرض”. أما ما يرتبط بها من مناقشة لمسألة “حق العودة” أيا ما كانت تفاصيل الحلول التي سبق اقتراحها إعلاميا في إطار اتفاقات أوسلو الموءودة، فمن شأنه قطعًا أن يحدث جغرافيًا وديموغرافيًا ما يغير كل المعادلات والتضاريس.

بمحو قضية اللاجئين الفلسطينيين، يريد الصهاينة تكريس أكذوبة “أرضٌ بلا شعب، لشعبً بلا أرض”. وبمحاولتهم إلغاء الأونروا، يحاول الإسرائيليون أن ينسى العالم كله كيف نشأت دولتهم بتطهير عرقي ممنهج ومنظم للفلسطينيين أصحاب الأرض، رغم أنهم أنفسهم لم ينسوا ذلك.

بين أوراقي دراسة صادرة عام 1994عن مركز للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب، أعدّها شلومو غازيت، والذي شغل لفترة منصب رئيس الاستخبارات العسكرية، كما عمل منسقًا للأنشطة في الأراضي المحتلة. الورقة البحثية التي كانت ضمن مجموعة أوراق ذات صلة أُعدت استباقًا لما (قد يتم) من مفاوضات قرّرتها أوسلو حول الحل الدائم جرى تخصيصها حصرا “لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين”.

كانت قضية اللاجئين رسميًا ضمن قضايا الحل النهائي التي كان من المفترض (حسب مقررات أوسلو) أن يبدأ التفاوض حولها في موعد أقصاه مايو/أيار 1996، وهو الأمر الذي نجحت المراوغات الإسرائيلية المعهودة في تلافيه على مدى أكثر من خمسة عقود – أي منذ 1948 (هل عرفتم لِمَ لم يتوقف نتنياهو عن القول بأن “أوسلو قد انتهت”؟).

تحضيرًا لما قد يكون (إلا أنه لم يكن أبدًا) من مفاوضات أوسلو حول الحل الدائم، ينبه شلومو جازيت المفاوض الإسرائيلي المحتمل إلى إن الخطوة الأولى لابد أن تشمل “إلغاء الأونروا” (هكذا)، ونقل المسؤولية عن المخيمات إلى الدول المضيفة. وذلك لإلغاء “المكانة القانونية/الرسمية” الخاصة باللاجئ، والذي يكتسب الفلسطينيون بموجبه “حق العودة”، بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (11 كانون الأول/ديسمبر 1948)، الذي نص في بنده الحادي عشر على “وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذي يقررون عدم العود إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، وفقاً لمبادئ القانون الدولي”. بالمناسبة، ولمن يهمه الأمر - إن كان هناك من يهمه الأمر - فقرار الجمعية العامة من الناحية القانونية الصرف مازال ساريًا، ولم يتخذ النظام الدولي أي قرار لاحق بإلغائه أو تعديله.

حتى إن لم يكن هناك في حكوماتنا (العربية) من يهمه الأمر، أو بذل الجهد اللازم لتفعيل (أو على الأقل التذكير) بالقرارات الدولية. فالحاصل أن نتنياهو، كما أسلافه لم ينس، أو يغفل عن حقيقة أن الأونروا بحكم وضعها القانوني هي التي ترسخ مكانة اللاجئين القانونية من خلال منح بطاقة اللاجئ، وإنشاء مخيمات اللاجئين كوحدات قائمة خارج مسؤولية الدول الموجودة فيها، ومتميزة عن بيئتها الطبيعية، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات قانونية.

موقف إسرائيلي تاريخي ثابت

كما سلفه نيفتالي بينيت الذي قال كلامًا مشابهًا في حوار له مع قناة CNN في الثاني من فبراير/شباط 2023، لم يكن موقف بنيامين نتنياهو من المنظمة الدولية، والذي اتضح جليًا في تصريحاته الأخيرة، غير ترديد لمواقف إسرائيلية ثابتة ومتوارثة، إذ يتذكر متابعو القضية ما كان من اقتراح أمريكي مبكر (عام 1949) يقضي بأن تسمح إسرائيل بعودة ثلث العدد الإجمالي للاجئين الفلسطينيين “على أن تتحمل الحكومة الأمريكية نفقات إعادة توطين باقي اللاجئين في الدول العربية المجاورة”، إلا أن دافيد بن غوريون، مؤسّس دولة إسرائيل ورئيس حكومتها الأول سارع برفض الاقتراح الأميركي، قبل حتى أن تبت الدول العربية المعنية بأمره. لا غرابة في الموقف الإسرائيلي الممتد من بن غوريون وحتى نتنياهو، إذ ينطوي اعتراف إسرائيل بمسألة اللاجئين على إقرار بمسؤوليتها عن نشوء المشكلة، فضلا عمّا يتفرع عنها قانوناً من “حق العودة”. كما لا غرابة بالتالي في موقف نتنياهو من الأونروا التي تمثل التجسيد القانوني للمسألة.

كان من المفترض، وقت إنشاء الأونروا أن تكون تلك المنظمة “مؤقتة” بحكم قراري إنشائها من الجمعية العامة (212 في نوفمبر/تشرين ثاني 1948، و302 في ديسمبر/كانون أول من عام 1949)، وكان من المقرر انتهاء عملها، أو حتى وجودها ذاته، حين يعود اللاجئون الفلسطينيون اللذين وجدت لرعايتهم، إلى بيوتهم ومزارعهم التي استولى عليها ميليشيات الصهاينة في 1948. وهو الأمر الذي بدلا من أن يتم، فتنتهي مشكلة اللاجئين تلك، وتنتفي بالتالي الحاجة إلى المنظمة التي أنشئت لرعايتهم (الأونروا)، زاد عددهم باستيلاء إسرائيل (الدولة) على مزيد من الأراضي في حرب 1967. ثم كان أن جاء نتنياهو، الصهيوني المراوغ، ليحاول إنهاء قضية اللاجئين تلك، لا بعودتهم إلى بيوتهم، كما هو الحل الطبيعي لمثل تلك المسألة، بل بالقضاء على المنظمة الأممية التي “تُذكر بوجودهم”. أو كما قالها نصا أمام العالم كله: هذه المنظمة لا تفعل غير أنها “تبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حية” وقد آن لها أن تنتهي.

الخلاصة، أن للحملة الإسرائيلية على الأونروا أهداف عدة، بينها هدفان بارزان:

• الهدف الآني، وأتفق بشأنه مع آفي شلايم البريطاني الإسرائيلي وأستاذ التاريخ المرموق، يرتبط بقرار محكمة العدل الدولية، واستباقًا لمداولاتها التالية، والحملة الإسرائيلية هنا تعمد إلى تشويه المنظمة، وإرهاب مسؤوليها، ودفعهم للسكوت والصمت عن الانتهاكات الإسرائيلية التي لم تتوقف، فضلا عن النيل من مصداقية تقاريرها وبياناتها التي سبق إعلانها واستندت إليها المحكمة في قرارها (المبدئي)، وعلى الأرجح، ومثلما يفعل عادة محاميو الباطل، حين تعوزهم الحجة ستكون تلك الورقة “المزيفة” هي الأهم، على الأقل دعائيا بين الدفوع التي سيتقدم بها الدفاع الإسرائيلي حين تعود المحكمة للانعقاد.

• أما الهدف الاستراتيجي، والأبعد أثرا فيتلخص في محاولة جديدة قديمة لشطب قضية اللاجئين نهائيًا، والتي مازالت من زاوية القانون الدولي قضية حية، ولم يتم التصرف فيها بعد.

وبعد،

فرغم أن نتنياهو يريد لنا أن ننسى قضية اللاجئين، بكل أبعادها القانونية والإنسانية، إلا أن موقفه من الأونروا، وتصريحه الواضح بشأنها يكشف لنا بالوضوح ذاته أنه، كغيره من حاملي لواء الصهيونية كفكرة واستراتيجية للتطبيق، لم ينس ما جاء في أوراق تأسيس المنظمة الدولية من تعريف للاجئ على أنه: “هو الشخص الذي كان يقيم بصورة اعتيادية في أرض إسرائيل (فلسطين الانتدابية) خلال فترة لا تقل عن عامين، قبل نزاع عام 1948، وفقد كلاً من منزله ومصدر رزقه، ولجأ إلى إحدى الدول التي يقدم معونة فيها جهاز تابع لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين”.

إذا عرفنا أن عدد هؤلاء حسب سجلات الأونروا يتجاوز الستة ملايين، فهل هناك تهديد “ديمغرافي” للصهيونية؟ الفكرة، والاستراتيجية (والدولة)، أكثر من أن يأتي أحدهم يومًا ما ليفتح الملف، ويأخذ القضية إلى حيث يمكن للقانون الدولي أن يعمل ويكون فاعلا؟