أزمة

الاقتصاد المصري نحو المجهول

بتخليه عن اثنتين من الصلاحيات الأساسية للدولة في المجال الاقتصادي، يُحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي قطيعة مع تاريخ بلاده ويقوم بمخاطرة هائلة. لا نعرف بعد ما إذا كانت تلك الإصلاحات ستدخل حقًا حيز التنفيذ، ولكن يمكننا أن نعلن بالفعل من هو الخاسر الأكبر، وهم غالبية المواطنين.

Flickr

في يوم الأربعاء 6 مارس/آذار، حسمت مصر أخيرًا قرارها الذي صب في مصلحة رجال الأعمال الجشعين وسوق الأوراق المالية، حيث اتخذ النظام العسكري قرارين تاريخيين من شأنهما التأثير بعمق على أداء الاقتصاد الوطني إذا تم تطبيقهما على المدى الطويل. إن الإصلاح الذي تم إحداثه في سوق الصرف الأجنبي هو الأبرز، فحتى ذلك التاريخ، كان البنك المركزي الذي يخضع بالكامل لسلطة الدولة يتحكم في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار أو اليورو، ولكن من الآن فصاعدًا ستتحدد قيمته بناءً على العرض والطلب على العملات الأجنبية. إذا كان هناك نقص في العملات الأجنبية كما هو الحال منذ أكثر من عامين بسبب الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، فإن أسعارها بالجنيه المصري ترتفع وتزداد ندرتها. فمنذ عام 2022، قام البنك المركزي المصري بتخفيض سعر العملة الوطنية أربع مرات بنسبٍ كبيرة، حيث قفزت من 17 جنيهًا إلى أكثر من 30 جنيهًا مصريًا للدولار الواحد، وفي السوق السوداء وصل سعر الدولار إلى أكثر من 70 جنيهًا. أما في الفترة المقبلة، فستتحدد قيمة العملة الوطنية في مقابل العملات الأجنبية بصفة يومية.

تنازلات الدولة

يتعلق الإصلاح الثاني بالأسواق المالية. فالمدخرات الوطنية يتم تعويضها بأسعار فائدة لا تواكب ارتفاع الأسعار، لكن هذا “القمع المالي” الذي أثار استياء أقلية ميسورة الحال تملك وحدها القدرة على الادخار يجب أن ينتهي قريبًا، ومن هنا جاءت موجة التكهنات التي تحققت على الفور. فلفترة زمنية غير معلومة المدى ستتجاوز أسعار الفائدة معدلات التضخم وستتغير يوميًا من خلال المقارنة بين العروض وطلبات الائتمان. وفي 6 مارس/آذار، تم تقليص الفجوة بين المنحنيين بفضل الارتفاع الفلكي في أسعار الفائدة من +6% إلى ما بين 24 و30%.

بهذا الحدث السياسي الجلل تكون السلطات المصرية قد أرخت قبضتها عن أداتين اقتصاديتين رئيسيتين وهما سعر الصرف وسعر الفائدة، وهي القبضة التي استمرت منذ خمسينيات القرن الماضي إثر تولي الرئيس جمال عبد الناصر الحكم. تلك الطفرة لم تتم بجهود حكومية خالصة كما زعم رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمره الصحفي المنعقد بالإسكندرية في 7 مارس/آذار، ولكن تحت ضغط صندوق النقد الدولي المستمر. حيث كثّفت مديرته كريستالينا جورجييفا، وهي خبيرة اقتصادية بلغارية بدأت مسيرتها في الحقبة السوفييتية، من زياراتها للقاهرة معربةً عن رفضها القاطع لزيادة المساعدات المالية البالغة 3 مليارات دولار على ثلاث سنوات دون الوصول لاتفاق على سعر الصرف، وهو مبلغ زهيد، بل وأقرب إلى الإهانة بالنسبة لأكبر بلدٍ عربي على الإطلاق من حيث عدد السكان.

ولكن في 6 مارس/آذار، تجاوز دعم صندوق النقد الدولي 9 مليارات دولار، مع التزام البنك الدولي والاتحاد الأوروبي بتقديم خمسة عشر مليار أخرى. وتضاف إلى تلك المساعدات صفقة عقارية غامضة تموّلها رؤوس أموال إماراتية ستدر أكثر من 35 مليار دولار، منها 5 مليارات تُدفع على الفور. وتعوّل الحكومة كذلك على عودة المهاجرين إلى القنوات الشرعية لتحويل أموالهم بعد أن اتجهوا بكثافة إلى السوق السوداء في الفترة السابقة (بلغت التحويلات حوالي ثلاثين مليار دولار في عام واحد).

الضحايا الرئيسيون: الفقراء

هل تستطيع تلك التدفقات المفاجئة أن تحقق للاقتصاد الذي تعرض لصدمة غير مسبوقة استقراره؟ لقد وصل سعر الدولار الواحد إلى 50 جنيهًا مصريًا وبلغت أسعار الفائدة 30%، وهو ما كان له بالغ الأثر على الحياة اليومية لأكثر من 106 مليون مصري. ومع تجاوز التضخم السنوي معدل 35% بالفعل، فإن الأسعار والنشاط الاقتصادي هما المتضرر الأول. بالنسبة للفقراء الذين يقدر عددهم بما لا يقل عن 60% من السكان، يشكل تدبير الطعام تحديًا، أما بالنسبة للشركات سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، فإن أسعار الخامات المستخدمة في التصنيع، والتي يتم استيراد معظمها وشراؤها بالعملة الأجنبية، تجعل الوصول إليها شبه مستحيل. وقد عدلت وكالة موديز، وهي إحدى الوكالتين الرئيسيتين للتصنيف الائتماني في الولايات المتحدة الأمريكية، نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية وأعربت عن تفاؤلها بالاستثمارات الأجنبية في مصر، لكن هذا لن يغير شيئًا في الوقت الراهن.

وسوف تلعب توقعات مختلف اللاعبين الاقتصاديين دورًا رئيسيًا، فإذا توقعوا دخول الأسعار المحلية وأسعار العملات في الحلقة المفرغة نفسها مجددًا، فلن يكون سعر 50 جنيهًا للدولار أكثر من مجرد ذكرى، خاصةً أنه وصل بالفعل إلى 72 جنيهًا في بداية العام. وإذا لم تصل المساعدات الموعودة أو تأخرت، والتي غالبًا ما ترتبط بمشاريع صناعية أو مشاريع البنية التحتية، فقد يتعرض الاستقرار للخطر أو يتأجل.

وهناك مأزق آخر، ألا وهو وضع المالية العامة اليائس. إن عبء الدين، أي دفع الفوائد المستحقة على ديون الدولة، يلتهم ثلثي إيرادات الميزانية، ويتبقى ثلث صغير لمساعدة الفئات الأكثر حرمانًا على عدم الموت جوعًا ودفع أجور (هزيلة) للملايين من موظفي الخدمة المدنية، بالإضافة إلى تدريب عدد كبير من الشباب وتلبية احتياجات جيش باهظة التكاليف. إن إعادة هيكلة الديون، كما حدث في التسعينيات في أعقاب حرب الخليج الأولى، ليست على جدول أعمال الدولة، والدبلوماسية الدولية غير قادرة على الوصول إلى حل لهذه الأزمة التي تؤثر تقريبًا على جميع الدول الناشئة غير النفطية. في حالة الفشل في ذلك، هل ستجد مصر طريقها للعودة إلى الأسواق المالية العالمية كما فعلت بين عامي 2013 و2021؟ هذا أمر مستبعد، وسيجعل من الضروري اللجوء إلى طباعة النقود وإعادة إطلاق عملية البحث عن الدولار قبل العودة إلى إصلاحات السادس من مارس/آذار.

استحالة “نزع الطابع العسكري” عن الاقتصاد

وأخيرا، يبقى الجزء الأصعب، ألا وهو تعديل الأداء الاقتصادي العام ليتوافق مع الأداء الليبرالي الحالي الذي يحكم سوق النقد الأجنبي والمال. يتطلب ذلك "نزع الطابع العسكري" عن الاقتصاد الذي يحكِم الجنرالات قبضتهم عليه منذ أكثر من عشر سنوات. فحصولهم على المساعدات المالية والقروض غير المسددة والامتيازات المطلقة وعدم خضوعهم للنظام الضريبي وتدخلهم في الاستثمارات، كلها عوامل قادت الاقتصاد إلى طريق مسدود. لقد تم استخدام القروض الضخمة (تتراوح بين 160 و300 مليار دولار حسب التقديرات) بشكل رئيسي في صب الخرسانة. حيث بلغت تكلفة بناء العاصمة الإدارية الجديدة وحدها، والتي ليس لها اسم أو نشاط حتى الآن، أكثر من 60 مليار دولار، كما تم بناء خمس مدن جديدة أخرى في الصحراء، ويتم التخطيط لبناء عشرات المدن الأخرى. هذه الاستثمارات الضخمة لا تسفر عن أي مكاسب سوى لرجال الأعمال من أصحاب الزي العسكري الذين وضعوا أيديهم عليها. أما الاستثمارات المنتجة فقد تمت التضحية بها، ولم يجرؤ على اقتحام مجال النفط والغاز أو السياحة سوى بعض الأجانب. لقد غابت الطبقة البرجوازية التي كانت نشطة للغاية في عهد الرئيس حسني مبارك عن الساحة بشكل واضح، مما أدى إلى زيادة الاختلال في التوازن الاقتصادي الخاضع للنفوذ العسكري.

وعد الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزرائه بعودة تدفق الدولارات وانخفاض الأسعار بفضل الإجراءات التي اتخذتها “الدولة”، لكن الشكوك ما زالت قائمة، فتلك الإجراءات قد لا تفيد الاقتصاد أو المصريين.