مصر-إسرائيل-سوريا

كيف وضعت حرب أكتوبر 1973 العالم على شفير الهاوية النووية

كان الهدف من وراء قرار عبور قناة السويس في السادس من أكتوبر/تشرين الثاني عام 1973 وخوض معركة جديدة مع إسرائيل بمعاونة سوريا، إنهاء الوضع القائم منذ حرب يونيو/حزيران 1967. لكن أنور السادات كان يضمر في نفسه هدفًا آخر، ألا وهو إشراك الولايات المتحدة الأمريكية في المعادلة وإنهاء تبعية القاهرة لموسكو. نجح الرهان جزئيًا، لكنه وضع المنطقة على شفا صراع نووي.

اجتماع هيئة الأركان العامة المصرية بقيادة الرئيس أنور السادات في 6 أكتوبر 1973.
Wikimedia Commons/القوات المسلحة المصرية.

يتألّف “الصراع العربي الإسرائيلي” أو بعبارة أخرى الحروب بين إسرائيل والدول العربية، من حلقات قصيرة بالغة العنف قد تمتدّ من أسبوعٍ إلى بضعة أسابيع، تليها فترات طويلة من الكمون مع احتمالية اندلاع مواجهات أقل حدة. وقد شهد مطلع ستينيات القرن الماضي نشأة الحركة القومية في إطار ما عُرِف بـ“الحرب الباردة العربية” بين الدول “التقدمية” والدول “المحافظة”، استُخدِمت فيها القضية الفلسطينية كورقة للتوافق والمزايدة في آن واحد. حيث رفعت القمة العربية التي عقدت في القاهرة في يناير/ كانون الثاني عام 1964 شعار “تحرير فلسطين” - وكانت الأولى من نوعها.

كانت حرب يونيو/حزيران 1967 نتاج عملية معقدة من القرارات المتهوّرة والحسابات الخاطئة من جانب كافة الفاعلين الإقليميين. رفعت القمة العربية المنعقدة في 29 أغسطس/آب 1967 شعارًا جديدًا بعنوان “أزيلوا آثار العدوان”، أي استعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في يونيو/حزيران 1967 (أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة والجولان في سوريا وسيناء في مصر). أبدت كل من مصر والأردن استعدادًا لقبول الحل السياسي الذي تضمن وقف القتال دون الاعتراف بدولة إسرائيل، وتنحية القضية الفلسطينية جانبًا دون البوح بذلك. لكن مع اندلاع الثورة الفلسطينية وانتقال الفدائيين إلى الأردن ثم انتخاب ياسر عرفات رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير/شباط 1969، استعادت فلسطين مكانها على الساحة الدبلوماسية. وقد أدى تعارض أهداف بعض الدول مع تحرير فلسطين إلى المواجهات الدامية التي وقعت في سبتمبر/أيلول عام 1970 في الأردن، وعرفت باسم أيلول الأسود1.

إرث عبد الناصر

ترك الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي توفي في 28 سبتمبر/أيلول عام 1970، لخليفته أنور السادات سلسلة كاملة من الخيارات. من بينها الحل الذي تم طرحه في الخرطوم، لكن إسرائيل كانت راغبة في معاهدة سلام وضم أراض بينما لم تكن الولايات المتحدة جاهزة لذلك، خلافًا لموقفها عام 1957 عندما أجبرت إسرائيل على إجلاء قواتها2. كان هناك أيضًا الخيار العسكري: “ما أخِذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، وهو ما كان يتطلب إعادة التسليح بمساعدة الاتحاد السوفيتي. كان هناك أكثر من 20 ألف “مستشار” سوفيتي في مصر، بعضهم في مواقع قتالية، خاصةً في سلاح الطيران والدفاع المضاد للطائرات، بيد أن موسكو لم تشأ أن تكون طرفًا في حرب عربية جديدة ضد إسرائيل اعتبرتها خاسرة سلفًا. لكن الوجود السوفيتي في القاهرة كان أداةً لمساومة الولايات المتحدة الأمريكية.

شكّل هذا الأمر قلقًا بالغًا لإدارة ريتشارد نيكسون، وأدى إلى ظهور مدرستين فكريتين متعارضتين. الأولى هي مدرسة الخارجية الأمريكية، التي رأت أن التطبيق الكامل للقرار 2243 سيؤدّي إلى تقليص الوجود السوفيتي في المنطقة بشكلٍ كبير، والثانية هي مدرسة هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي، الذي رأى أنه كلما طال أمد حالة الـ“لا سلم ولا حرب”، كلّما أدرك العرب أن الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على حل الصراع. هكذا سيتعيّن على العرب إظهار “اعتدالهم”، أي العودة إلى أحضان النظام الغربي. لكن المشكلة التي كانت تكمن في استراتيجية كيسنجر هي عجزه عن وضع تصوّرٍ لتلك التسوية، حيث أن هويته كيهودي ألماني ناجٍ من المحرقة جعلته منحازًا بشدة إلى إسرائيل بينما تقف القضية الفلسطينية كحجر عثرة أمام حل الصراع. كما أن “الواقعية” بالنسبة له، أي المصالح الأمريكية المباشرة بطريقة أو بأخرى، تعلو على الأخلاق والخسائر البشرية التي يمكن أن تسببها سياسته، كما أظهر دعمه لانقلاب تشيلي في 11 سبتمبر/أيلول 1973، أو دعمه للجيش الباكستاني في عام 1971 برغم المجازر التي ارتكبها في بنغلاديش الناشئة.

تتمثل قوة الجيش الإسرائيلي الحقيقية في سلاحه الجوي، ولم يكن العسكريون العرب يجرؤون على مواجهته جوًّا في ظلّ الظروف متساوية. كان يجب إذًا تجريده من قوّته بواسطة نظام يجمع بين منصّات إطلاق صواريخ “سام” والمدفعية الجوية، والذي قد تثبت فعاليته لعدة كيلومترات لكن نقله من مكان إلى آخر يستغرق وقتًا طويلاً، حيث تمتد ساحة المعركة المصرية إلى منطقة قناة السويس بأسرها ويمكن أن تصل في أفضل الأحوال حتى خط الممرات في سيناء الذي لا يبعد عنها كثيرًا. أما بالنسبة إلى السوريين، فتمثل مرتفعات الجولان ميدان المعركة الأساسي. وقد خطّط الجيش المصري للعملية “غرانيت 2” التي تنتقل بموجبها القوات حتى الممرات، ثم تنتشر في كامل سيناء بعد فترة من التوقّف.

التأهب السياسي

كان عبد الناصر يعوّل على تبني الجبهات العربية موقفًا مشتركًا لتشتيت القوات الإسرائيلية، لكن ولاء نظام البعث السوري كان على أقل تقدير مشكوكًا فيه. كما أخرجت أحداث أيلول الأسود الجبهة الأردنية من الحسابات، وهو ما يوحي بأن الرئيس المصري لم يكن ليقوم بهجوم عسكري في خريف 1970 على عكس ما يروّج له أنصاره. لكن الانقلاب السوري الأخير في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 والذي تسلم بموجبه حافظ الأسد مقاليد السلطة غيّر المعادلة، حيث أسفرت “حركة التصحيح” التي أطلقها عن نشأة سلطة براغماتية، تَبِعها تقارب سريع بين مصر وسوريا.

بعد إقصاء الناصريين من السلطة، أصبح السادات يتمتع بقدرٍ أكبر من حرية الحركة، فأطلق مشاريع سلام تطبَّق على مراحل متتالية، لكنها تشترط جميعًا انسحاب القوات الإسرائيلية الكامل، ما أدى إلى عزوف إسرائيل عن التفاوض. أما إدارة نيكسون التي كانت منغمسة آنذاك في حرب فيتنام، فأبدت اهتمامها بتلك المشروعات لكنها لم ترغب في فرضها على إسرائيل، نظرًا لأن العام 1972 كان عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية ولم يكن من الوارد استعداء “الأصدقاء في إسرائيل”، حتى أنها أعربت عن رغبتها في رحيل المستشارين السوفييت عن مصر.

كما أخذ السادات يتحدث علنًا عن استئناف الأعمال العدائية العسكرية، الأمر الذي لم يؤخذ على محمل الجد من قبل المسؤولين الإسرائيليين الذين كانوا يصرّحون بازدرائهم لقدرات العرب الفكرية والاستراتيجية، ولا سيّما في مجالي الطيران والمدرعات. وقد شرح السوفييت لشركائهم العرب ضرورة توافر ثلاثة شروط لشن الحرب، ألا وهي: الأسلحة والتدريب والرغبة في القتال، وأنهم كانوا يفتقرون إلى العنصر الأخير. فرغم دعايتهم الدؤوبة للقرار 242، لم تكن لدى السوفييت رغبة في خوض صراعٍ مسلح جديد.

حاول السادات أن يشرح لهم أن بلاده لن تحتمل قرار “تجميد” الحرب، وفي يوليو/تموز 1972، فاجأ العالم بطرد معظم المستشارين السوفييت الموجودين في مصر، معتبرًا أن تدريب جيشه قد وصل إلى نهايته وأن الروس لن يتمكنوا من منعه من الانخراط في صراع جديد. ولإنقاذ الموقف، اضطر السوفييت إلى الرضوخ وتسليم المصريين الأسلحة الإضافية التي طلبوها.

شهد عاما 1972 و1973 سلسلةً من العمليات الإرهابية4 (اختطاف طائرات والهجوم على دورة الألعاب الأوليمبية في ميونيخ في سبتمبر/أيلول 1972) وعمليات مكافحة الإرهاب التي غطّت عن غير عمد على الاستعدادات العسكرية العربية. في تلك الأثناء وضع الجنرالات المصريون خطة “العملية بدر” التي كانت أكثر محدودية من عملية “غرانيت 2”، والتي تمثلت في عبور القوات قناة السويس مع تقدّمها بعمق 15 إلى 20 كيلومترًا وصولاً إلى الممرات الجبلية بعد معركة استنزاف. وقد تم التنسيق عسكريًا مع سوريا بدعم من المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، لم يذكر المصريون للسوريين سوى تقدمهم حتى خط الممرات، واتفق الطرفان على شن هجوم عسكري متزامن. تم تدريب الجيش المصري بشكلٍ خاص على عبور القناة من خلال سلسلة من المناورات الكبرى التي زادت من صفارات الإنذارات في الجانب الإسرائيلي. كما بُثَّت سلسلة من “المعلومات المضللة”، من بينها إشاعة أن الجيوش العربية مستعدة للقتال، والتي تم الاستهانة بها اعتقادًا بأنها كذبة أخرى من أكاذيب العرب بغرض استعراض القوة. كما تمّت مضاعفة التحذيرات الزائفة وأمدّ أشرف مروان، صهر عبد الناصر الذي يُعتقد أنه كان عميلاً مزدوجًا، الإسرائيليين بمعلومات خاطئة رغم قابليتها للتحقق.

مباغتة إسرائيل

كان هناك حرص على سرية المعلومات، حيث لم يطّلع على الوضع كاملاً سوى 15 شخصًا من مصر وسوريا. زادت المملكة العربية السعودية من قيمة مساعداتها المالية للقاهرة، وأُطلِق العد التنازلي اعتبارًا من 22 سبتمبر/أيلول. جرى تركيز القوات بدعوى إقامة تدريبات الخريف، وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول، أدرك السوفييت أن الحرب وشيكة وقاموا بإجلاء مواطنيهم من مصر وسوريا اعتبارًا من اليوم التالي. لم يدرك المسؤولون الإسرائيليون حقيقة الوضع إلا قبل ساعات قليلة من بدء القتال، فلم يأخذوا في الاعتبار حقيقة أنها كانت حربًا ذات أهداف محدّدة، ولم يفهموا مغزى العمليات العسكرية بالنسبة إلى العرب، ألا وهو إنهاء الوضع الراهن وإنشاء سياق سياسي جديد. أما على الصعيد العربي، فكان الهدف واضحًا، لكن الترتيبات السياسية غير واضحة المعالم، حيث إن استعادة الأراضي المفقودة كانت تتطلب أيضًا الاعتراف بإسرائيل، وهو ما لم ينووا القيام به.

وفي يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، في الساعة الثانية ظهرًا، فتحت المدفعية المصرية النار على امتداد قناة السويس، وقام المصريون بهجومهم في كامل الممر المائي، وانتشر الجيش الثاني في قطاع القناة والجيش الثالث في قطاع البحيرات. كُلّل عبور القناة بنجاحٍ ساحق، وأدرج في قائمة أعظم الأعمال البطولية في القرن العشرين. وبعد 24 ساعة من بدء العمليات، تمكّن 100 ألف رجل وألف دبابة و13 ألف مدرعة من العبور إلى الجانب الآخر. كان رد الفعل العسكري الإسرائيلي فوضويًا، وكانت الخسائر فادحة بسبب عدم وجود غطاء جوي.

كانت جبهة الجولان أكثر ما يشغل الإسرائيليين، فنجاح السوريين في إحراز تقدم كان يمثل تهديدًا مباشرًا للأراضي الإسرائيلية. بعد اشتباكاتٍ عنيفة، تم إيقاف تقدم القوات السورية، وفي مساء يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى عكس ما حدث على الجبهة الجنوبية، نجحت القيادة الإسرائيلية في موضعة وحداتها بفعالية، واعتمدت على مهارات الجنود القتالية لإتمام المهمة. وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول، تم صد السوريين وإعادتهم إلى مواقعهم الأصلية. في المجمل، أظهرت القوات السورية بسالةً حقيقية، لكن العقيدة العسكرية الجامدة منعتها من الخروج على التعليمات الصارمة التي تلقتها مسبقًا من القيادات. وبسبب بعد المسافة لوجود صحراء سيناء، تمكن الإسرائيليون من إيقاف تقدم المصريين وتركيز جهودهم على الجبهة الشمالية.

معاقبة سوريا

قررت إسرائيل التنكيل بسوريا عن طريق شن هجومٍ “جوي نفسي” على اقتصاد البلاد، مما تسبب في مقتل عدد كبير من المدنيين. لكن دمشق لم تهتز، إذ كانت تركن إلى مساعدة العرب لها في جهود إعادة البناء. أرسل العراق إمدادات عسكرية إلى سوريا، لكن تدخل القوات العراقية كان فوضويًا بعض الشيء نظرًا لعدم وجود اتفاق مسبق.

شلّت قضية ووترغيت (1972-1974) حركة نيكسون، وكان كيسنجر هو صاحب القرار الفعلي، إذ كان يجمع بين منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية. اعتقد كيسنجر في البداية أن إسرائيل ستحقّق انتصارًا سريعًا، واستغرق الأمر بعض الوقت لفهم الارتباك الذي سيطر على المسؤولين الإسرائيليين. أما القيادة السوفيتية التي كانت تتوقع هزيمة العرب سريعًا، فكان عليها أن تحافظ على التهدئة مع الولايات المتحدة وأن تفي في الوقت نفسه بواجباتها تجاه حلفائها، لذا أمدّت سوريا بالأسلحة جوًّا.

كانت إشكالية إسرائيل الرئيسية تتمثل في نفاذ المعدات، لا سيما الطائرات والمدرعات، وإلا كانت ستحقق انتصارًا بطعم الهزيمة إذا استمرت الأمور على تلك الوتيرة. تعهّد الأمريكيون بتقديم المساعدة المطلوبة، فوجدت إسرائيل أرضًا صلبة لشن هجومها على سوريا. اندلعت مواجهات عنيفة وبدت دمشق مهدَّدة، لكنها استطاعت إيقاف تقدم القوات الإسرائيلية في 14 أكتوبر/تشرين الأول بمساعدة القوات العراقية والمغربية، وتبع ذلك حرب مواقع. أجبِرَت الأردن بضغط من الرأي العام على إرسال تعزيزات إلى سوريا بموافقةٍ ضمنية من إسرائيل والولايات المتحدة. وحشدت سوريا قواتها استعدادًا للهجوم المضاد الكبير المقرَّر شنّه في 25 أكتوبر/تشرين الأول، إذ استطاعت الصمود وإعادة تنظيم قواتها بفضل وصول التعزيزات العربية. في الأثناء، كانت القوات الإسرائيلية مستنزفة القوى، وميزان القوى يتغير في غير صالحها.

للحد من الضغط الذي تتعرض إليه سوريا، شن المصريون هجومًا دون غطاء جوي في اتجاه الممرات، وبدأت في 14 أكتوبر/تشرين الأول أكبر معركة دبابات شهدها القرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تم نشر ألفي مدرعة، منها 1200 دبابة، على جبهة بطول 140 كيلومترًا. نجح المصريون في التقدم بعمق 15 كيلومترًا في عدة قطاعات، لكنهم كانوا مشتتي القوى كحال خصومهم في بداية الحرب. استفاد الإسرائيليون هذه المرة من مواقعهم الدفاعية ومن الدعم الجوي، ونجحت قوات المشاة الميكانيكية في حماية المدرعات بفعالية. وفي الساعة 3 بعد الظهر، تم صد الهجوم المصري، وفي نهاية اليوم أمرت القيادة القوات بالعودة إلى مواقع البداية. فقد المصريون 250 دبابة خلال هذه المعركة (أي ما يعادل جميع خسائرهم منذ بداية الحرب)، مقابل أربعين دبابة في الجانب الإسرائيلي.

بعد تردد، دشّنت الولايات المتحدة جسرًا جويًّا ضخمًا لدعم إسرائيل. بدأ سوق النفط العالمي يتأثر بالقصف الإسرائيلي على سوريا، والذي دمّر خطوط إمداد النفط السعودي والعراقي إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول، تم رفع أسعار النفط بضغط من الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. وفي 20 أكتوبر/تشرين الأول، قرر المنتجون العرب فرض حظر على صادرات النفط إلى الولايات المتحدة وهولندا. من جانبهما، مارست إيران وفنزويلا لعبة رفع الأسعار بشكل منهجي، وبعد بضعة أسابيع، قفز سعر النفط إلى أربعة أضعاف. بعد معركة 14 أكتوبر/تشرين الأول في سيناء، أصبح الإسرائيليون في موقع قوة، حيث بدأ الجسر الجوي الأمريكي إمداد إسرائيل بالأسلحة، وبدأ احتياطي المدرعات المصري ينفذ بشكل كبير، كما حال الأمريكيون دون تدخل عسكري سوفيتي. وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول، نجح الجيش الإسرائيلي في عبور قناة السويس، وأنشأ بعد معركة شرسة رأس جسر لعزل الجيش الثاني المصري عن الجيش الثالث. لم يدرك السادات عواقب محاصرة الجيش الثالث، ورفض سحبه من الضفة الآسيوية لأسباب سياسية.

معضلة الاتحاد السوفييتي

رأى السوفييت أن الوقت قد حان للتدخل السياسي، وقاموا بتوجيه الدعوة إلى كيسنجر الذي وصل إلى موسكو في 20 أكتوبر/تشرين وحاول كسب الوقت. وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول بدأت المفاوضات الحقيقية. أجبر تدهور الوضع العسكري السادات على إخطار الروس بأنه بحاجة ماسة إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار، وأبلغ الأسد أن المصريين يقاتلون ضد الولايات المتحدة وليس إسرائيل بسبب الجسر الجوي، وأن النصر أصبح مستحيلًا.

انتهت المناقشات بالتصويت، تحت وصاية واشنطن وموسكو، على قرار مجلس الأمن رقم 338، والذي دعا إلى وقف إطلاق النار الفوري وتطبيق القرار 242 الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1967. وافقت مصر على الفور، بينما حاولت إسرائيل الإسراع بتطويق الجيش المصري الثالث بالاستيلاء على مدينة السويس، وهو ما منع سوريا من هجومها المضاد الكبير الذي كانت تعتزم القيام به.

نشأت في أعقاب ذلك أزمة كبرى تُعزى في المقام الأول إلى الغياب الكامل للإشراف على وقف إطلاق النار، فلم يكن الاتحاد السوفييتي يرغب في هزيمة العرب بينما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى نصر إسرائيلي محدود. علاوةً على ذلك، كانت مكانة مصر على المحك، وقد استغل السادات تلك الورقة ببراعة. حيث أجبر الاتحاد السوفياتي على منحه مساعدات بعد أن هددها ضمنًا بالانضمام إلى المعسكر الغربي، وفي الوقت نفسه، أبلغ الغربيين بوضوح أنه ينوي فعليًّا القيام بذلك. لم يرَ السادات أي بادرة من الأمريكيين، لذا اضطر إلى طلب التدخل السوفييتي. وفي ليلة 24-25 أكتوبر (بسبب اختلاف التوقيت كان لا يزال يوم 24 في واشنطن وكان يوم 25 في موسكو)، أرسل زعيم الكرملين ليونيد بريجنيف إلى نيكسون رسالة عاجلة للغاية لدرجة أنها نُقِلت عبر الهاتف، اقترح فيها إرسال قوات عسكرية سوفيتية وأمريكية لضمان، ليس فقط تطبيق وقف إطلاق النار وإنما فرض سلام شامل.

إنذار موسكو الكاذب

فُسِّرت رسالة بريجنيف على الفور في واشنطن على أنها إنذار نهائي، لكننا بتنا نعلم اليوم أنها لم تكن نية موسكو الفعلية. في اجتماع عقد يومي 23 و24 أكتوبر/تشرين الأول، قرر المكتب السياسي فحسب إرسال 250 مراقبًا سوفيتيًا كحدٍّ أقصى بما يعادل عدد المراقبين الأمريكيين. وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول، في الساعة 11:41 صباحًا بالتوقيت المحلي، وبعد ساعة من المباحثات، اتخذت واشنطن قرارًا برفع حالة الاستعداد العسكري الأمريكي إلى المستوى الثالث (ديفكون 3)، مما يعني رفع حالة التأهب التي تشمل تعبئة جميع أجهزة الردع النووية، وهو ما لم يكن يتناسب تمامًا مع التحديات الراهنة.

وفي صباح يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، تلقّى العالم بصدمة خبر إعلان حالة التأهب النووي العالمي بسبب الصراع الدائر في الشرق الأوسط. أعرب الحلفاء الأوروبيون عن غضبهم من استبعادهم من قرارات بتلك الأهمية، وقد دافع كيسنجر عن موقفه متذرّعًا بأن الوضع الطارئ هو ما اضطره إلى ذلك واعترف في الوقت نفسه بأن التشاور لم يكن ليؤثر على الخيارات الأمريكية. تبع ذلك سلسلة من البيانات العامة شديدة اللهجة، اتهم فيها الأوروبيون الولايات المتحدة بإخفاء سياستها في الشرق الأوسط، بينما ألمح الأمريكيون إلى جبن الأوروبيين بسبب اعتمادهم على النفط العربي. وقد سيطرت حالة عدم التصديق على القيادة السوفييتية أكثر من غيرها على الأرجح لعجزها عن فهم طبيعة التهديد الذي قد تمثله موسكو للولايات المتحدة لتتخذ إجراء كهذا. ولعل التفسير المنطقي الوحيد الذي تم التوصل إليه في الكرملين هو أنها مناورة سياسية داخلية تهدف إلى تبييض وجه نيكسون وإظهاره بمظهر الرئيس الحازم أثناء تورّطه في قضية “ووترغيت”.

في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1973، دخل قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وتولّت الدبلوماسية زمام الأمور، وهو ما أفضى إلى اتفاقيات فك الاشتباك. وقد قبل العرب وساطة كيسنجر، صاحب سياسة “الخطوة بخطوة”، لعدم رغبتهم في التعامل مع إسرائيل مباشرةً، وهو ما مكن إسرائيل من استعادة قوتها وعدم تقديم سوى قليل من التنازلات.

1في الفترة من 17 إلى 27 سبتمبر/أيلول 1970، ارتكب الجيش الأردني مجزرة بحق ملايين اللاجئين والمقاتلين في مخيمات الفلسطينيين بالمملكة الأردنية الهاشمية، وقد غادرت منظمة التحرير الفلسطينية الأردن إلى لبنان في العام التالي.

2في مارس/آذار 1957، انسحبت إسرائيل من سيناء وقطاع غزة اللتان كانت تحتلهما منذ أزمة قناة السويس (أكتوبر/تشرين الأول-نوفمبر/تشرين الثاني 1956).

3في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1967، تبنى مجلس الأمن القرار 242 الذي طالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في مقابل الحصول على اعتراف كل دول الشرق الأدنى.

4نفذت تلك العمليات بشكل أساسي منظمة “أيلول الأسود” التي أسستها حركة فتح، وكذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.