الوِلايات المتَّحدة الأميركيّة في رِمال الشرقِ الأوسَط المُتحرِّكة

هل من استراتيجيّةٍ جيوسياسيّة إقليميّة جديدة؟ · في نهايةِ الأمر، لن تحولَ الضغوطاتُ الإسرائيليَّة دون توقيعِ الولايات المتَّحدة على الاتِّفاق المتعلِّق بالنّوَوي الإيراني. ولكن، هل سيؤدّي ذلكَ إلى تغييرٍ في المعادَلة الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط؟ هل يُنذِر ذلك بتقارُبٍ بين إيران وواشنطن؟ وهل تؤدّي الحربُ ضدَّ تنظيم الدولة الإسلامية إلى اضطِرابٍ في التحالُفات المُبرَمة في المِنطَقة؟

وزير الخارجية الأميركي ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، فيينا (قصر كوبرغ)
وزارة الخارجية الأميركية، 2تموز/ يوليو 2015

يُجمِعُ مؤازِرو الاتِّفاق ومُعارِضوه أنَّ توقيعَه بينَ مجموعة الـ 5+ 1 وإيران يتجاوَزُ إطارَ إنتاج وانتِشارِ الطاقة النووية التي تبقى إطاراً ضيقاً رغمَ حساسيّة المسألة. يكرِّس الاتِّفاق قبولَ الولايات المتَّحدة بمكانةِ إيران في الشرق الأوسط ويُنهي وَهمَ الهيمنة الأميركية المُطلَقة على المِنطقة، وهو توَهُّم سائدٌ منذُ حرب الخليج عام 1990-1991 ، وتجذَّرَ مع سياسة جورج بوش الإمبرياليّة بعد أحداثِ 11 سبتمبر. فبعد أن تخلَّصَت القوّة العسكرية الأميركية من “إمبراطورية الشرّ” السوفياتية، سعت إلى الإجهاز على “الدُّول الغوغائية” (Etats voyous)، من أفغانِستان إلى إيران مُروراً بالعراق وسوريا لتفرضَ أخيراً “نظاماً ليبرالياً” ومنفذاً “حرّاً” إلى البترول.

أضحى هذا الهدفُ بعيداً عن منالِ واشنطن، بعد الفشلِ العسكري في العراق وأفغانستان حيث يرتبِطُ مُستقبلُ النظام ببقاءِ قوّة كبيرة من الجيش الأميركي على الأرض. وتعبَ الرأي العام الأميركي من ذلك “الشرق المعقَّد”، بحكمِ الأزمة الاقتصاديّةِ وانعدامِ النتائج الملموسةِ على أرض الواقع، ويعكسُ انتخابُ أوباما هذه الخيبة.

وكما يلاحظُ أبراهام فولّير، وهو ضابطٌ في وكالةِ المخابرات المركزية الأميركية، وأحدُ أفضلِ المطّلعين على شؤونِ المنطقة ، فالولايات المتحدة “تعترِف أخيراً، بعد ما تكبَّدته من خسائر في العراق وأفغانستان والصومال ، أنّ سيّاستَها المُعتمِدةَ على نمطِ الهيمَنة التقليديّة لم تتغيّر”. وذلكَ في حين “أنَّ إيران هي على الأرجحِ الدولةُ الأهم بعد مصر إبّان حكم عبد الناصر التي اعتمَدت سياسةً صريحةً وواضِحةً تتحدّى فيها القُدرةَ الأميركيّة على التصرُّفِ من دونِ محاسبةٍ في الشرق الأوسط”1.

من هنا، باتَ الموضوعُ بالنسبة للولايات المتحدة هو التكيُّفُ مع حدودِ سلطتٍها ومع الفوضى الإقليميّة، وذلك من خلالِ تطويرِ استراتيجيّة أكثرَ حذاقةٍ تجاهَ إيران. تعتمِد تلك الاستراتيجية على دمجِ إيران في اللعبةِ الإقليميّة وفي الحربِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية، وهو عدوُّ إيران اللدودُ الذي عَجزَت الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية عن النيل منه، كما عجزت عن الغرض نفسِه “الهجومات المضادة” للجيش العراقي . وإن كان لا بدَّ من إثبات، فقضيَّةُ “الشعبة 30”، المكوَّنة من “ثوّار مُعتَدِلين” سوريّين قامَت واشنطن بتدريبِهم، تشكِّل الإثباتَ الأكثرَ دلالةً على الحرج الأميركي. إذ كانَ من المُفترض بدايةً أن تضمَّ تلكَ الشعبةُ 5000 نفراً، تمَّ اختيارُ وتدريبُ 54 فقط منهم بعدَ حملةِ انتقاءٍ ( بكلفةٍ قدرُها 41 مليون دولار). سرعانَ ما اعتَقلَت النصرة، وهي فرعٌ للقاعدة، العديدَ من قادتِهم. تمَّ إطلاقُ سراحِهم بعدَ أن وجَّهوا التحيّة لدورِ إخوانِهم في النصرة في صراعِهم ضدَّ النظام2. نفهَمُ من ذلك أنَّ الشرقَ الأوسط أصبحَ بحراً من الرمال المُتحرِّكة يصعبُ فيه التمييز بين الحليف والعدوّ، وتُحاوِل الولاياتُ المُتَّحِدة ألّا تَغرَق فيه.

يَعتمِد نجاحُ الاستراتيجيّة الأميركيّة على قُدرةِ أوباما على أقناع الكونغرس بالموافَقة على الاتِّفاق النووي مع إيران. وقد وضعَ بنيامين نتنياهو كلَّ قِواهُ في المعركة، وجنّد لهذا الغرضِ كلَّ أنصارِه الأميركيّين الذين جعَلوا من أمنِ إسرائيل المُفترضِ ركيزةَ التزامهم السياسي في الولايات المتّحدة. فشلَ نتنياهو، وأمَّن الرئيس الأميركي عدداً وافياً من أصواتِ الأعيان لتَجاوزِ اعتراضاتِ المُنتَخبين الجمهوريّين. بيدَ أنّ الدعمَ الأميركي لإسرائيل مُستمرٌّ رُغم َالتوتُّر المَلموسِ بين الزعيميْن ، وإنْ باتَ من المتوقَّع أن تتركَ المواجَهةُ آثاراً في قلبِ الجالية اليهوديّة الأميركية نفسها. فعلى أرضِ الواقعِ الشرق أوسطي، وباستِثناءِ الملفِّ الفلسطيني، أصبَحَت إسرائيلُ فاعِلاً جانبيَّاً في سوريا والعراق، ومصدَرَ إزعاجٍ لا أكثرَ بالنسبةِ للبيت الأبيض: الأهمُّ هو الحؤول دون أية مجازفة إسرائيلية، تماماً كما كان الحال إبّان الحربِ ضدَّ العراق في 1990-1991.

طَمأنةُ دولِ الخليج

منذُ التوقيعِ على الاتِّفاق مع إيران، وأوباما يحاولُ جهدَه أَن يُطمئن دولَ الخليج : لن يكونَ هُناكَ انقلابٌ في التحالفات. فورقةُ أميركا الأساسيّة هي السيطرةُ على المِنطقة والبترول، خاصةً على المملكة العربية السعودية، ، وإن ( أو بالأحرى لا سيما) غذّى ذلك البترول آسيا بالمرتبة الأولى. وقد ذكّر الرئيسُ الأميركي نُظراءَه في شبهِ الجزيرة العربية أنَّ المحورَ الأسيوي لم يَنتجْ عنه أي فضٍّ للارتِباطات مع دول الخليج، حيثُ تحتفِظ الولايات المتحدة بـ 25000 عسكري، وبقواعِدَ في البحرين وقطر، وبـتسهيلاتٍ في كلِّ الدول. كما أنّه من المُفترَض أن يرتفعَ الأسطولُ الأميركيُّ في المِنطقة من 30 إلى 40 بارجةٍ في غضونِ نهاية العقد. وتؤمِّن الولاياتُ المتّحِدة التفوُّقَ التكنولوجي لدولِ مجلسِ التعاوُن على إيران، إذ إنَّ المملكة العربيّة السعودية وحدَها كرّست 80 مليار دولاراً لتغطِيةِ نفقاتِها العسكرية، مقابلَ 15 مليار لإيران. وكما أنَّ الاتِّفاقَ حولَ النوَوي الإيراني يتضمَن بنوداً يمدِّد حَظْر بيعِ أو تَحويلِ أسلحة ثقيلةٍ لذلك البلد لمدة 5 سنوات3 .

وقد أكَّد اللقاءُ الذي تمَّ في 3 آب/ أغسطس 2015 بين جون كيري وممثلين عن مجلسِ التعاون أنَّ قمّةً قد انعقدت بين قادةِ مجلسِ التعاون الخليجي والرئيسِ الأميركي في أيار/ مايو 2015، تمَّ خلالَها الاتِّفاقُ على تعهُّدات بالمساعدةِ العسكريّة وضمانات أمنيّةٍ والتِزاماتٍ بوحدةِ الأرضِ لدولِ الخليج وقد دعمَت دولُ الخليجِ الاتفاقَ رغمَ تحفُّظاتِها، وأكّدَ وزيرُ الخارجيّةِ السعودي في 23 تموز/ يوليو أنَّ من شأنِ ذلك الاتِّفاق أن يُجنِّب إيران الحصولَ على القُنبلةِ النووية. ومن شأنِ زيارةِ الملك سلمان إلى واشنطن في 4 أيلول/ سبتمبر الجاري أنْ تُرَسِّخَ مصالحةً لا تخلو من الغبار.

حلفاءٌ غيرُ طيِّعين

ليسَت الرياض حليفاً سهلاً. قد تبادرُ المملكةُ إلى قراراتٍ أحاديّةٍ تُزعِج الولايات المتحدة، كالتدخُّلِ في اليمن الذي اضطُرَّت الولاياتُ المتَّحِدة لدعمِه دونَ أن تنجحَ في تحْجيمِه، في حينِ تُعترِف أن تدخُّلَ إيران إلى جانبِ الحوثيّين يبقى محدوداً. من ناحيةٍ ثانية، تنظرُ واشنطن بقلقٍ إلى الاستراتيجيّة السعودية الهادِفة إلى تشكيل “جبهةٍ سنِّيَّة” تمْتدُّ من الإخوان المُسلِمين إلى بعضِ الفضائل السوريّة المُرتبِطة بالقاعدة – خاصَّةً جبهةِ النصرة ، وردَّة فعلِها المُتلَكِّئ تجاهَ القاعدة في شبه الجزيرة العربية (َAQPA) التي يرفرِفُ علَمُها اليومَ في بعضِ أحياءِ عدن. قراراتُ تقلِقُ إيران وتُثيرُ الشكوكُ حولَ قدرةِ الولايات المتَّحِدة على تَكوينِ جبهةٍ مُوحّدة ضدَّ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميّة والـ“إرهاب”.

وتشكِّل تركيا برئاسةِ رجب طيب أردوغان حليفاً استراتيجياًّ آخر للولايات المتَّحِدة في المِنطقة. فتركيا بلدٌ عضوٌ في حلفِ الشمال الأطلسي (OTAN)، جيشُه من أقوى جيوشِ الحلف، وكانَ من المُتوقَّع أن تنخرِط في مرحلة أبكرَ بكثيرٍ ضدَّ الدولةِ الإسلامية. ومع ذلكَ لم تحصَل الولاياتُ المتَّحِدة على إذنٍ باستخدامِ القواعدَ الجوِّيَّة التركيّة إلا بعدَ أشهر منَ المفاوَضات والضغوطات. و لا تزالُ التوتُّرات مَوجودة. إذ إن كاترين آشتون أعلَنت في 20 آب الماضي أنّه على تركيا بذلُ جهودٍ أكبرَ في محاربةِ تنظيم الدولة4. هل اتَّفَقت الدَولَتان على إنشاءِ مِنطقة أمنيّة في سوريا؟ أيَّةُ قوى ستؤمِّن حمايةَ هذه المنطقة؟ تتضارَبُ التصريحات في هذا الشأن.

ذلك أنّ أوْلوِيّات أنقرة لا تتقاطَعُ وأولويّات واشنطن. فالطيران التركي استهدفَ مواقعَ حزبِ العمال الكردستاني، على مقربةٍ من المواقع الأميركية، وأُعلِمَت واشنطنَ بذلك عشر دقائق قبل بدايةالعملية5. ومن المحتملَ أن تؤدّي القطيعةُ بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني ليس فقط إلى زعزعةِ الوضعِ في تركيا، بل وأيضاً إلى إلحاقِ الضررِ بالعلاقاتِ على الأرضِ بين القوى الكرديّة السورية (المُرتبِطة بحزب العمال الكردستاني، وإن رَفضِت واشنطن الاعتراف بذلك) من جهةٍ، والقوى الأميركية من جهة أخرى. فهل سيؤدّي شجبُ أردوغان من قِبلِ تنظيمِ الدولة والنداءُ الذي أطلقَه هذا الأخيرُ إلى “فتحِ إسطنبول”6 إلى توطيدِ خيارِ تركيا في “حربها ضد الإرهاب”؟

أن تبقى “القوّة التي لا غنى عنها”

تشكِّل إيران خطراً من نوعٍ آخرَ على الولايات المتَّحِدة، حيث أنَّها القوَّةُ التي تقاوِمُ النظام القائم، وتدعمُ الفلسطينيين، وتلعبُ دوراً مُهمَّاً في العراق، وسوريا ولبنان، ودوراً أقلَّ أهميةً في اليمن. من المؤكَّد أنَّ الولاياتِ المتَّحِدة لم تقرِّر العزوفَ عن محاولةِ احتِواءِ قوةِ إيران الجديدة، وذلك دونَ إبعادِ نقاطِ “الالتِقاء”، لا سيَّما في النضال ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية والقاعدة، وإن انقسَمت الإدارة الأميركية حولَ تحديدِ أيَّةِ مجموعةٍ بينهما ستُعتَبَر هدفاً أوْلَوٍيّاً7.

من المفروضِ أن تكونَ سوريا أوّل حقلِ تجاربَ لتلك الفلسفة. هذا ما شرَحَه ُعددٌ من كبارِ المسؤولين في الإدارةِ الأميركية، وهذا أملُ وزير الخارجية جون كيري8. وقد جرى في هذا الصددِ عددٌ من اللقاءات بين مسؤولين أميركيين، روس، إيرانيين، وسوريين. لا بل إنَّ علي مملوك مديرُ جهاز الاستخبارات السورية، توجَّه إلى المملكة العربية السعودية، حسب ما وردَ في جريدة الأخبار اليسارية اللبنانية. وصوَّت مجلسُ الأمن الدولي بالإجماع على قرارٍ ينادي بحلٍّ سياسي في سوريا ويقترحُ مخطَّطاً مفصَّلاً. ولكن، هل سيكونُ ذلك القرارُ كافياً لدفعِ آليةٍ للحلّ؟ هل منَ الممكِنِ فكُّ خيوطِ الصراع المُتشابِكة في العراق، وسوريا، واليمن ولينان؟ كيفَ يُمكنُ التوفيق بين مصالحِ المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والبقاء في الوقتِ نفسِه “القوة التي لا غنى عنها”: ذلك هو مربطُ الفرسِ بالنسبة للولايات المتحدة. في هذه الفترة المواتية للأنبياء ستحتاج إلى أكثر من معجزة للوصول إلى هدفها.

ترجمة هناء جابر

1« Can Washington meet Iran’s Deepest Challenge—to USHegemony in the Middle East ? », blog Graham E. Fuller, 21 juillet 2015.

2Nabih Bulos, « US-trained Syria rebels do a deal with al-Qaeda-linked group », The Telegraph,16 août 2015.

3Vali Nasr, « Why did Iran sign on a deal that will weaken its régional hold », The Washington Post, 31 juillet 2015.

4« US defense chief urges Turkey to ‘do more’ against ISIL», Turkish Daily News, 21 août 2015.

5Lucas Tomlinson, Jennifer Griffin, «Turkey’s strikes on Kurds could drag US into new front, military sources fear», Fox News, 10 août 2015.

6« ISIL calls for ‘conquest of Istanbul,’ slams Erdoğan »,Turkish Daily News, 18 août 2015.

7Eric Schmitt, « ISIS or Al Qaeda ? American Officials Split Over Top Terror Threat », The New York Times, 4 août 2015.

8Gardiner Harris,« Deeper Mideast Aspirations Seen in Nuclear Deal With Iran », New York Times, 31 juillet 2015.