في جنوب اليمن، مرتزقة أمريكيون يقتلون لحساب الإمارات

بينما تتجه أنظار العالم نحو الحوثيين في البحر الأحمر، بثت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في 23 يناير/كانون الثاني 2024 فيلماً وثائقياً سلّط ضوءاً وهاجاً على تصرفات دولة الإمارات العربية المتحدة في جنوب اليمن. التحقيق من توقيع نوال المقحفي، ويعرض تفاصيل تورط مرتزقة أمريكيين وشركة إسرائيلية في اغتيال شخصيات سياسية ودينية في عدن منذ عام 2015.

لفترة طويلة، ظلت تصفية شخصيات من حزب الإصلاح، الفرع اليمني لجماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن قيادات سلفية وصحفيين، بُعداً مجهولاً من أبعاد الاستراتيجية الإماراتية في اليمن. وفي نظر المراقبين الخارجيين، فإن السلسلة الطويلة للاغتيالات التي اُرتكبت في محافظات جنوب البلاد، خاصة بين عامي 2016 و2018، كانت تبدو غالباً كقضية هامشية في الصراع. وكان يُنظر لهذه الاغتيالات باعتبارها شكلاً (مقبولاً ضمنيًا) من أشكال القتال ضد الجهاديين، وهي سياسة اُعتبرت ضرورية وناجعة بعد تحرير عدن من نفوذ الحوثيين خلال صيف عام 2015. وفي كل الأحوال، ظلت هذه السياسة تحت المراقبة الفاحصة.

في هذا السياق، قامت سلطات عدن، الموالية للإماراتيين، بتمرير الاغتيالات التي استهدفت عشرات الأشخاص على أنها بكل بساطة تصفية حسابات بين الإسلاميين. وأشارت بأصابع الاتهام على وجه الخصوص إلى مسؤولية الجهاديين أو حتى الحوثيين عن ذلك، كما كان الحال في واقعة اغتيال الشخصية السلفية الصاعدة عبد الرحمن العدني الذي قُتِل في فبراير/شباط 2016. وفي حالات أخرى، أعلنوا أن عمليات التصفية خارج نطاق القضاء التي قاموا بها استهدفت أعضاء في تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية.

قتل المعارضين

بيد أنه في مدينة عدن والمناطق المحيطة بها، لم يكن التورط الإماراتي في الاغتيالات سراً يُخفى على أحد، التي كان لها في الواقع أهداف مختلفة تماماً. فقد اُستهدف مدنيون كانوا ينأون بأنفسهم عن الجهاديين، ولم يكن لديهم أي التزام آخر غير النشاط السياسي أو المرتبط بالمساجد، بل كان ما يجمع بينهم كافةً هو انتقاد الإمارات العربية المتحدة. طويلةٌ هي قائمة ضحايا هذه الحرب السرية، فقد قُتل ما لا يقل عن مائة شخص بين عامي 2016 و2018 في هجمات أدت إلى انعدام الأمن في المدينة الساحلية الكبيرة، وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. وفي حين كان ينبغي أن تكون عدن خلال هذه الفترة واجهة ليمن مسالم خالٍ من الحوثيين، فقد ظلت المدينة في حالة من عدم الاستقرار والبؤس. ومنذ ذلك الحين، استطاعت أن تجسد في عيون العديد من اليمنيين عدم كفاءة البدائل الممكنة للمتمردين القادمين من الشمال.

ومن بين هؤلاء الضحايا، نجد عادل الشهري، وهو سلفي كان بدأ التقارب مع حزب الإصلاح وانتقد تنظيم القاعدة. وشخصية معروفة، مثل راوي سمحان العريقي، الذي كانت له نفس المواصفات الشخصية. ولم تُكشف أبداً ملابسات جرائم القتل التي طالتهم. وثمة جريمة قتل أخرى، وهي مقتل محسن الصراري، نجل الناشطة في مجال حقوق الإنسان هدى الصراري، في عام 2019، فهذه الجريمة تُبين بشكلٍ جلي كيف أن هذه الحرب السرية لم يكن لها علاقة تُذكر بمكافحة الجهاديين. علاوةً على ذلك، اُستهدف العشرات من الناشطين أو المسؤولين المحليين في حزب الإصلاح، بما في ذلك أنصاف مايو، عضو البرلمان اليمني الذي نجا من هجوم بسيارة مفخخة، كما جرى استهداف صحفيون يعملون في وسائل إعلام قريبة من هذا الحزب.

في البدء، بثت قناة الجزيرة في برنامجها الوثائقي الاستقصائي “الصندوق الأسود” وثائقيا بعنوان “ما الدور الذي تبحث عنه الإمارات في اليمن؟”، وذلك في عام 2018، أي في ذروة التوتر بين قطر وجيرانها، اتهمت فيه الإمارات العربية المتحدة بتمويل سلسلة من الاغتيالات لمحاربة معارضيها، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين في جنوب اليمن. وقد كشف هذا الوثائقي أن هذه الاستراتيجية قد رافقتها العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، لا سيما التعذيب الممنهج في العديد من المراكز السرية المنتشرة في المناطق الخاضعة للسيطرة الإماراتية.

شهادات مباشرة للقتلة

وبعد ست سنوات، يقدم الفيلم الوثائقي الذي لا هوادة فيه لنوال المقحفي (American mercenaries hired by UAE to kill in Yemen) تأكيداً للاتهامات الموجهة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة. تتمتع هذه الصحفية من أصل يمني بخبرة متينة، وحصلت على ثلاث من جوائز الإيمي Emi Awards تكريماً لعملها حول الإتجار بالجنس في العراق وحول أزمة كوفيد في اليمن. وفي فيلمها الوثائقي الذي يحمل عنوان “الحرب في اليمن: الاغتيالات السياسية الممولة من قبل الإمارات”، تتيح المقحفي الاستماع مباشرة لرواية مواطنين أمريكيين، وهم جنود سابقون، شاركوا بشكل مباشر في برنامج الاغتيالات. يؤكد هؤلاء في مداخلاتهم أنهم شاركوا في القتال ضد الجهاديين، وهم على يقين من أنهم لم يقوموا إلا بفعل الخير، وأطاعوا الأوامر القادمة من أبو ظبي دون أن ينبسوا ببنتِ شفة.

طوال الفيلم الوثائقي، ينكشف القناع عن شبكات مروعة؛ حيث جرى التعاقد مع المرتزقة عبر الشركة الأمنية “مجموعة عمليات”سبير"Spear Operations Group التي يديرها الإسرائيلي المجري أبراهام جولان، وذلك بفضل اتصالاته مع الفلسطيني محمد دحلان الذي بات مستشاراً لمحمد بن زايد، حاكم الإمارات.

يعرض التحقيق الذي قامت به الصحفية عدداً من المقابلات والوثائق الداعمة، واستفاد من العمل الشاق الذي قامت به منظمة “ريبريف” Reprieve والحقوقي براء شيبان. كما تضمن معلومات سابقة كانت قد نشرتها وسيلة الإعلام الأمريكية “بوزفيد” Buzzfeed في عام 2018. وتثبت هذه المعطيات في مجملها كيف أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال ربط هويات معظم الضحايا بالحركات الإسلامية المسلحة. وحتى لو كان الأمر كذلك، فإن عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء تظل انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان، ويتم تنفيذها خارج أي إطار قانوني. ويوضح الفيلم الوثائقي كيف أن هؤلاء ليسوا بأي حال من الأحوال “ضحايا جانبيين” وأن الأمر يتعلق باستراتيجية متعمدة لتصفية معارضي الإمارات، حتى من خلال المرور عبر التحالف مع عدد من الجهاديين المعادين لجماعة الإخوان المسلمين. وجاء الوثائقي على ذكر أسماء وتفاصيل محددة، علاوةً على تزامنات غريبة، مثل تلك التي وقعت بين اغتيال أحمد الإدريسي، زعيم من الحراك الجنوبي، المعروف بأنه رفض تسليم ميناء عدن الذي كان تحت سيطرته، ونقل إدارته إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. فقضايا السياسة والاستغلال متشابكة بشكل وثيق.

فيلم وثائقي لأغراض سياسية؟

ومما لا يثير الدهشة أن الفيلم الوثائقي قد أثار ضجة كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي اليمنية. حيث تُظهر طبيعة الخطابات تشظي الفضاء السياسي، كما تفصح أيضًا عن سوء نية العديد من المثقفين والصحفيين وصناع القرار في اليمن، الذين ما انفكوا في التموضع وفقًا لمصالح رعاتهم الإقليميين. وفي هذا الصدد، جاءت ردود الفعل على المعلومات التي قدمتها هيئة الإذاعة البريطانية لتشكل مؤشراً جيداً لحالة النقاش العام بعد ما يقرب من عقد من الحرب.

وأمام الفضائح التي كشفتها نوال المقحفي، ذهب المدافعون عن الإمارات بكل تسطيح إلى ربط الصحفية بتحالف وهمي مع الحوثيين بسبب افتراض أصولها الهاشمية (سلالة النبي)، التي خمنوا أنها تربط بينها وبين قيادات الحركة المتمردة. وأرادوا بأن يكون انتقادهم للفيلم الوثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية كجزء من الحركة الفكرية لإعادة تعريف الهوية اليمنية التي تهدف إلى استبعاد الهاشميين من السردية الوطنية. وفي الوقت نفسه، يشير المدافعون عن الإمارات إلى التورط المفترض لجماعة الإخوان المسلمين في كشف هذه الحقائق، مما يوضح كيف أن الاستقطاب الإقليمي حول العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين لا يزال يؤثر على هيكلة القضايا والمواقف.

وعلى عكس كل التوقعات، نجد أيضًا من بين الانتقادات بعض الناشطين المؤيدين للحوثيين الذين، ومع تعزيز شعبيتهم التي اكتسبوها بفضل التزامهم لصالح غزة، يحاولون في الوقت الراهن تفادي إغضاب الإمارات. وأشاروا بالتالي إلى الطبيعة الانتهازية لبث هذا الوثائقي. فمن وجهة نظرهم، يشكل هذا الفيلم محاولة من المملكة المتحدة للضغط على دولة الإمارات العربية المتحدة التي ترفض الانضمام إلى التحالف العسكري الذي شكلته الولايات المتحدة لوقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. ويبدو أن هذا الانتقاد لا يراعي سوى القليل من الكفاءة المهنية لهيئة التحرير في البي بي سي والتوقيت الزمني لمثل هذا التحقيق الذي بدأ قبل عدة سنوات.

دفاعاً عن حقوق الإنسان

مما لا شك فيه أن الفيلم الوثائقي قد يؤكد صحة الشعور بالسخط السائد على نطاق واسع لدى الجمهور اليمني تجاه الاستراتيجية الإماراتية. فمن السودان إلى ليبيا ومروراً باليمن، كانت السياسة الخارجية للإمارات، المدعومة بشكل خاص من فرنسا، مثيرة للاضطرابات والعنف وعدم الاستقرار منذ الانتفاضات العربية عام 2011. ومن خلال سعيها لإقامة قاعدة عسكرية وإمارة صغيرة تسيطر عليها في جزيرة سقطرى، ومن خلال دعم الحراك الجنوبي ضد الحكومة المعترف بها من قبل المجتمع الدولي، اتبعت “أسبرطة الصغيرة” دبلوماسية إشكالية ما برحت موضع جدل في أهدافِها وفي وسائِلها أيضاً. وبالتالي، فإن حالة التفكك في اليمن يعود مردها إلى حدٍ كبير إلى القرارات المتخذة في أبو ظبي، كما تُعزى دون شك إلى غطرسة القادة السعوديين.

وفي رد فعل على بث الفيلم الوثائقي، أوضح علي البخيتي، المؤيد السابق للحوثيين والذي أصبح من أشد المنتقدين لهم، كيف ساهمت استراتيجية تصفية الشخصيات السياسية والدينية في عدن بشكل مباشر في فشل التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية. وفي الواقع، فقد أدت هذه الاستراتيجية إلى انقسام عميق في المعسكر المناهض للحوثيين وولّدت حالة من عدم الثقة تجاه الجهات الإقليمية الفاعلة. وبعد يومين من بث الفيلم الوثائقي، نظم البخيتي مساحة (غرفة دردشة) على موقع X (تويتر سابقًا) لمناقشة الوثائقي وتابع البث المباشر أكثر من 15 ألف شخص.

وبالتوازي، عبرت ردود الفعل إزاء الفيلم الوثائقي عن الرغبة أيضًا في رفع قضية الاغتيالات خارج نطاق القانون إلى المحاكم. فبالنسبة للعديد من النشطاء- الذين تعرض بعضهم للسجن والتعذيب على يد قوات الأمن الإماراتية- فإن الشواهد المقدَمة توفر مادةً للملاحقة القضائية الدولية. وبهذا الصدد ينطوي العمل الذي قامت به منظمة ريبريف وهدى الصراري على أهمية كبيرة. وتسليط الضوء عليه من قِبل نوال المقحفي يشكل خطوة أساسية.