مصر والحرب على التوكتوك

يتعرّض التوكتوك – أو “تاكسي الغلابة” – الذي بات كثير الحضور في المدن المصرية خلال السنوات الأخيرة، إلى نقد شديد من قبل الطبقة السياسية والمسئولين الإداريين على رأس المدن. ويُعتبر هذا النشاط أحد المحرّكين الأساسيين للاقتصاد الموازي، كما بات منذ سنوات ملجأً للحرفيّين، بعد التهميش الاقتصادي الذي طالهم وتداعيات سياسة الانفتاح.

تسعى الحكومة المصرية منذ أكثر من سنة –لا سيما من خلال وزارة التجارة والصناعة- إلى الحدّ من عدد التكاتك -تلك المركبات ذات الثلاث عجلات التي تلعب دور سيارة الأجرة في المدن الكبرى. وتبرّر الوزارة هذا القرار برغبتها في إحلال التوكتوك بوسيلة نقل آمنة ومركبات تعمل بـ“الطاقة النظيفة”، وبصفة خاصة الغاز الطبيعي. كما يستهدف القرار تقنين أوضاع التوكتوك المنتشر في كافة المحافظات من خلال منح التراخيص للمركبات التي تنطبق عليها الاشتراطات الفنية المعتمدة من جهات الترخيص.

فعلاً، فقد أصبح التوكتوك منذ أكثر من 15 سنة منفذاً أساسياً للاقتصاد غير المنظم في مصر، حيث يستوعب جزءاً من البطالة التي تصل نسبتها إلى 7,4%، سيما بطالة الحرفيّين الذين توجهوا إلى هذا النشاط بعد أن فقدوا الأمل في مصدر قوتهم.

كما يندرج هذا القرار ضمن خطاب أوسع في مصر يجعل من تلك المركبة الأشبه بالصرصور ظاهرة إجرامية في نظر المسئولين، تسببت في زيادة نسب الجريمة والسرقة والتنظيمات الإجرامية التي تخطف الأطفال، حتى أنها لا تُعامل كأي ظاهرة أخرى تبحث عن طريقها للتقنين والاستيعاب داخل المنظومة التشريعية. ومن أبرز الأمثلة التي تُعبّر عن تلك النظرة إلى التوكتوك طلب الإحاطة الذي قدمته النائب مها عبد الناصر لرئيس الوزراء ووزير الداخلية في يونيو/حزيران 2021، فيما يتعلق بزيادة الجرائم المرتبطة بالتوكتوك. وكأن المافيا كانت لا تستخدم السيارات والميكروباصات قبل ظهور التوكتوك! فضلاً عن المظهر الحضاري الذي يُتهم التوكتوك بتشويهه، والازدحام في الشوارع والميادين، وكأن مصر -في نظر المسئولين- لم تشهد مثله من قبل، حتى أن بعض الصحف الحكومية -كجريدة الأهرام- باتت تنشر تقاريراً ومتابعات دورية للجرائم المتعلقة بالتوكتوك. كذلك بالنسبة لتسليط الضوء على حوادث التوكتوك كأنها السبب الوحيد في حوادث الطرق.

مهنة الحرفيين تحتضر

طلع النهار، فتّح يا عليم
والجيب مافيهش ولا مليم
من في اليومين دول شاف تلطيم
زي الصنايعيه المظاليم..

في أغنية “الحلوة دي” الخالدة لسيد درويش من كلمات بديع خيري، تروي الكلمات معاناة الحرفيين (الصنايعية) في مصر. أما اليوم، فقد تفاقمت تلك المعاناة حتى أن بطل الأغنية “الأسطى عطية” يكاد يندثر هو والعديد من المهن الحرفية في مصر.

تتعدد الصناعات الحرفية، ويُعد أشهرها في مصر عمال الخزف والغزل وصناع الفخار والعاملين بالأثاث وورش الخراطة والنجارة وصناع الحرف اليدوية إلخ. وقد عملتُ بدوري طيلة فترة دراستي منذ المدرسة الابتدائية حتى الجامعة في مهنة أبي في صناعة الأثاث ودهانه، وذلك منذ 2009 حتى العام 2020، حيث شهدتُ احتضار المهنة في منطقة حِرفية قديمة تتعدد فيها الصناعات الحرفية وهي “باب الشعرية” (القاهرة)، والتي شهدت إنشاء عقارات جديدة تُستخدم كمخازن ومعارض كبرى لمحلات الملابس و“النجف” (الثريات) المستورد من الصين، أو لتستوعب جزءاً من سكان القاهرة الذين هم في نمو مستمرّ، وبهذا تفقد المنطقة كغيرها من مناطق الحرفيين سماتها كمرتكز هام للاقتصاد غير المنظم في مصر.

وقد وُلدت مشكلة الحرفيين بالأساس منذ عهد الانفتاح في عصر الرئيس أنور السادات (غداة حرب أكتوبر 1973)، حين رفُعت الحماية عن منتجات السوق المصري، واستبيح السوق لحساب المنتجات المستوردة من الخارج، بما في ذلك في مجال الكماليات و“الأكسسورات” والأثاث المنزلي، والتي كانت تُباع بسعر منخفض مقارنة بالمنتوج المصري، أو كانت مُصنّعة فلم تكن سلع الحرفيّين ذات الصناعة اليدوية البسيطة قادرة على منافستها، وهو ما يناقشه الباحث كريم مجاهد بتوسّع في الكتاب الجماعي “مُلاّك مصر، قصّة صعود الرأسمالية المصرية” (2018).

بلغت هذه السياسات النيوليبيرالية ذروة تطبيقها في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، خاصةً بعد قرار تعويم الجنيه، أي حينما رفع البنك المركزي يده عن العملة بشكل كلّي، وفكّ ارتباطها بأي عملة أخرى أو بالذهب وتركها تنخفض وترتفع وفقاً لسياسة العرض والطلب، وهو ما حطّم القدرة الشرائية للجنيه المصري أمام الدولار، وهو العملة الرسمية للسلع والمؤن المستوردة في مصر.

بتعويم الجنيه المصري، تأثرت القدرة الشرائية للمواطن المُستهلك الذي أصبح يتجه أكثر فأكثر للسلع الرخيصة المستوردة من الصين، كما تأثرت القدرة الشرائية للحرفي الذي باتت مؤونة عمله تأتي بدورها مستوردة من الخارج بالدولار، ما جعله يتجه إلى مضاعفة أسعار سلعته هو الآخر حتى يحقّق مكسبه، وهو ما جعل المواطن المصري المستهلك يهجر السوق الحرفية المصرية من الأساس. كل ذلك في ظلّ غياب نقابات حرفية ذات ثقل وقادرة على الدفاع عن وضع هؤلاء. فما كان من الحرفيّين إلا أن هاجروا إلى كنف التوكتوك.

تاكسى الغلابة

دخل التوكتوك مصر عام 2005، واحتكر تجارته عدد قليل من رجال الأعمال الذين سيطروا على عملية استيراده وتجميعه سواء من الهند أو الصين. وجد من بين أهم هذه الأطراف شركة “غبور أوتو”، بصفتها وكيل شركة “باجاج” الهندية في مصر على ما يزيد من 90% من حجم سوق التوكتوك، وتليها الشركة المصرية للصناعات الهندسية وبعض الشركات الأخرى التي تقتسم الـ10% الباقية.

أما سائق التوكتوك، فقد يكون صاحبه ومالكه الذي استطاع شراءه ويعمل عليه، أو سائق لصالح تاجر كبير يشتري عدداً من التكاتك ويوظّف عليها سائقين في إحدى المناطق الشعبية، وهنا يصبح الربح مقسوماً بين المالك والسائق. ويبلغ عدد هؤلاء 2,5 مليون حسب إحصاءات الحكومة (5,4 مليون حسب رابطة مالكي التكاتك)، لكن نسبة الحاصلين على رُخص لا تفوق 10%. ووفقاً لأستاذ الإدارة المحلية ومستشار تنمية العشوائيات حمدي عرفة، فإن هناك 730 ألفاً من طلاب التجارة والصناعة والزراعة يعملون سنوياً في التوكتوك.

في الواقع لم يوفر التوكتوك فقط مهنة لسائقه ووسيلة نقل لراكبه، بل وفّر كذلك العديد من المهن الإضافية مثل العاملين على صيانته، وأصحاب “الجاراجات” (مأوى السيارات) الذين يحمونه من السرقة مقابل مبلغ شهري ثابت يتراوح بين مائة إلى ثلاثمائة جنيه حسب المناطق، ناهيك عن آلاف المتاجر التي تخصصت في بيع الإكسسورات الخاصة بالتوكتوك من آيات قرآنية، وشعارات، وحِكم شعبية، بالإضافة للورش التي تعمل في تنجيده وبطانته الداخلية وتجديده. كما نشأت بسبب التوكتوك العديد من المغاسل التي تتخصص في تنظيفه مقابل سعر يتراوح بين عشرة وثلاثين جنيهاً.

يتجه الشباب -والأطفال في أحيان كثيرة- الباحث عن قوت يومه إلى التوكتوك فضلاً عن الحرفة لسببين رئيسيين، أولهما سهولة تعلم سياقته، والثاني هو أن أجر العمالة اليومية لم يعد مغرياً ولم يعد قادراً على مواكبة الأسعار المرتفعة وغلاء المعيشة. إذ يُقدّر الأجر اليومي للحرفي في المتوسط بمائتي جنيه مصرياً (أي ما يعادل 10,5 دولاراً أمريكياً)، يقتص منها الصنايعي ثمن مواصلاته من المنزل إلى الورشة، وثمن إفطاره (ما يعادل 4 دولارات)، في حين أن سائق التوكتوك يعمل في حي سكنه في الغالب كما أن وسيلة مواصلاته هي وسيلة عمله بحد ذاتها، ويستطيع أن يأكل في المنزل دون شراء أكل من المطاعم، وفي استطاعته أن يحقق مدخولاً يومياً بحوالي 400 جنيهاً (ما يعادل 21 دولاراً) إذا علمنا أن متوسط سعر النقلة الواحدة 5 جنيهات.

ويعد التوكتوك وسيلة مواصلات رخيصة قياساً إلى المسافة التي يقطعها، كما أنه عادة ما يصل مناطق لا تدخل إليها الميكروباصات والأتوبيسات، فقد انتشر التوكتوك على نطاق واسع في المناطق الشعبية والشوارع الضيقة التي لا يطالها النقل العمومي، فيُجبر المواطنون على إكمال طريقهم سيراً على الأقدام. وهكذا نجح التوكتوك في أن يكون بمثابة “تاكسي الغلابة”، أي تاكسي بديلاً للبسطاء.

في المناطق الفقيرة والمناطق التي تسكنها الطبقة الوسطى، لا يتعرض سائقو التوكتوك لرقابة صارمة من رجال الشرطة، فتجدهم يمرّون في شوارع القاهرة أمام الأقسام ومديريات الأمن دون أي خوف. لكن الأمر يختلف في الأحياء الفاخرة والمدن الجديدة، حيث يطارد رجال الشرطة سائقي التوكتوك بتهمة أنه يشوه المظهر الحضاري لتلك المناطق. وأبرز ما حدث في هذا السياق حادثة التوكتوك الذي تم تعليقه على باب جهاز مدينة الشروق -التي يسكنها الأغنياء- بقرار من رئيس الجهاز (أي المسئول الإداري للمدينة) حتى يكون عبرة لغيره من التكاتك التي تجرؤ على القدوم، واصفاً المركبة بأنها “وسيلة غير شرعية وغير آمنة”.

دائماً ما تحاول الحكومة احتواء هذه الظاهرة التي يستفيد منها الملايين من المواطنين من العمل عليه بينما هم خارج منظومة المرور التي تحاوطها الحكومة باستحداث العديد من القرارات سنوياً، مثل القرار الوزاري رقم 533 لسنة 2021، الذي أعلنت من خلاله نيفين جامع، وزيرة التجارة والصناعة، وقف استيراد المكونات الأساسية للتوكتوك في إطار تنفيذ خطة الدولة “الهادفة” لتطوير منظومة وسائل النقل وإتاحة مركبات آمنة للحفاظ على سلامة المواطنين.