في ظلال غزة

تركيا وإسرائيل. علاقة ملتبسة، ولكن مستمرة

على الرغم من أن الحرب على غزة أدت إلى تصعيد كلامي بين أنقرة وتل أبيب، استمرت العلاقات بين البلدين على حالها، حيث تبقى الروابط كما أوجه التقارب بينهما قوية.

المكتب الصحفي للرئاسة التركية/وكالة فرانس برس.

كان أول رد فعل لتركيا على اندلاع الحرب على غزة حذرًا بشكل مدهش، مثلما كان رد فعلها على غزو أوكرانيا قد أدهش بقانونية طابعه، حيث أصرت على احترام سيادة كييف. وفي كلتا الحالتين، عرضت أنقرة، التي تتمتع بعلاقات قوية ومستمرة مع الطرفين المتحاربين، وساطة، كانت قد سبقت واقترحتها. وفي كلتا الحالتين أيضًا، فإن الازدواجية الظاهرة في هذا الموقف الأولي ليست فقط وليدة الظروف، بل تعود إلى الطبيعة العميقة لدبلوماسية بلد كثيراً ما أُجبر، على مدار تاريخه، على اللعب بورقات متناقضة محفوفة بالمخاطر.

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما شنّت حماس هجومها غير المتوقع، كانت تركيا وإسرائيل في خضم مصالحة جاءت بعد أكثر من عقد من العلاقات المتفاوتة، أوشكت في بعض الأحيان أن تصل إلى حد القطيعة، قبل الدخول في فترات شاقة من الترميم. القدرة على إدارة هذه الحالة المتقلبة هي أوّل ما يفاجئ. وهي نتيجة لتقاربات سياسية واستراتيجية متعددة، وعلى الخصوص، اقتصادية. فما مستقبل هذه العلاقة المعقدة في الوضع الجديد الذي تفرضه عودة مركزية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في الشرق الأوسط؟

بما أن تركيا كانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949، أي بعد وقت قصير من إنشائها، فإن هاتين الدولتين شريكتان قديمتان تعرفان بعضهما بعضا جيدًا. وعلى الرغم من بعض المناوشات الخافتة التي تسببت فيها الصراعات الإسرائيلية العربية خلال الحرب الباردة، كانت علاقاتهما المتبادلة ممتازة بعد نهاية العالم ثنائي القطب، ولم يبدُ أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في بداية الألفية من شأنه إنهاء هذا التوافق الودي. وقد استضافت أنقرة سنة 2008 مفاوضات غير رسمية تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والنظام السوري، لكنّها لم تكلّل بالنجاح.

التقارب مع حماس

ليست القضية الفلسطينية هي التي أدت إلى الخلاف التركي الإسرائيلي الذي بدأ عام 2009، بقدر ما كان الوضع الجديد الذي نشأ مع وصول حماس إلى السلطة في قطاع غزة بعد انتخابات عام 2006. وهو الحدث الذي أدى إلى التصدع التركي الإسرائيلي الذي بدأ في 2009.

عندما شنّت إسرائيل أول حملة قصف واسعة النطاق على القطاع الفلسطيني من خلال عملية “الرصاص المصبوب”، سرعان ما ردّت أنقرة الفعل. وخلال حلقة نقاش بقيت محفورة في الأذهان بمنتدى دافوس في يناير/كانون الثاني 2009، هاجم رجب طيب أردوغان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بحدة. ومنذ ذلك الوقت، نرى الحكومة التركية الجديدة تقترب من حركة حماس وتحاول جعلها مقبولة كشريك رسمي في المفاوضات. بعد عام من ذلك، أوشكت العلاقات التركية الإسرائيلية أن تصل إلى القطيعة عندما حاولت السفينة “مافي مرمرة”، وهي السفينة الرائدة في أسطول المساعدات الإنسانية الذي استأجرته منظمة إسلامية تركية، كسر الحصار على غزة. أثناء عملية اقتحام المركب، قُتل تسعة عمال إغاثة أتراك، وبدا أن العلاقات بين البلدين قد تضررت بشكل دائم.

لكن في عام 2013، وبشكل غير مسبوق تماما، وافق بنيامين نتنياهو على تقديم الاعتذارات التي كان يطالب بها أردوغان كشرط لترميم العلاقات. غير أن هذه المبادرة أُجهضت في عام 2014 بسبب حملة جديدة من الضربات على غزة تحت عنوان “الحدود الواقية”، والتي أدانها زعيم حزب العدالة والتنمية، متهما إسرائيل بأنها “تجاوزت هتلر في الهمجية”. لدرجة أنه لم يتم استعادة العلاقات الدبلوماسية على أعلى مستوى إلا في 2016 بتبادل السفراء، وبعد تقديم تعويضات لعائلات ضحايا الأسطول. لكن هذه التهدئة في العلاقات لم تدم هي الأخرى طويلاً.

في عام 2019، أثارت مسيرة العودة الكبرى لسكان غزة، والتي وُوجهت بقمع شديد وتسببت في سقوط عدد كبير جدًا من الضحايا الفلسطينيين، مواجهة كلامية أخرى بين الرئيس التركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية. وتبع ذلك تدهور جديد في مستوى العلاقات الدبلوماسية، وكان يجب الانتظار حتى عام 2022 وزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ليتبادل البلدان السفراء مرة أخرى. تم ذلك في سياق كانت تحاول فيه أنقرة تسوية خلافاتها مع العالم العربي (مصر، الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، إلخ)، وحيث بدت أنها دخلت مرحلة من التقارب الشامل مع إسرائيل، بعد اتفاقيات أبراهام.

ما هو ملفت للنظر في آخر المطاف، علاوة على هذه التقلبات وبغض النظر عن هذا الخصام الدائم، هي المرونة التي سمحت بالحفاظ على العلاقة بين الطرفين. فلا اقتحام سفينة المساعدات الإنسانية، ولا الضربات المكثفة المتزايدة على غزة، ولا التوترات اللفظية الحادة بين القادة، ولا القمع الدموي للمظاهرات الفلسطينية نجحت في تقويض العلاقات الهشة بين القوتين الإقليميتين.

مكانة الجالية اليهودية

لنفهم كيف تمكّنت العلاقات التركية الإسرائيلية من البقاء والانتعاش بانتظام، من المهم تحديد ما يساهم في هيكلتها بصفة مستدامة. تمثل متانة الروابط الاقتصادية المحور الأول لهذه الاستمرارية. ولكي نقتنع بذلك، يكفي أن نذكر أنه خلال سنوات النزاع التي ذكرناها أعلاه، ضاعفت تركيا صادراتها إلى إسرائيل ثلاث مرات، من 2.3 مليار دولار في 2011 إلى 7.03 مليار دولار في 2022. تأتي تركيا - التي تؤمن 5.2٪ من واردات اسرائيل -، في الرتبة الخامسة من كبار مورّدي تل أبيب، وهي سابع أكبر زبون لها بنسبة 2.2٪ من صادراتها، وهو ما يمثل 2.5 مليار دولار سنويًا. وتتعلق هذه التدفقات التجارية بمجالات أساسية. نجد في مقدمة الواردات الإسرائيلية من تركيا، الصلب والحديد والمنسوجات والسيارات والأسمنت، دون أن ننسى النفط الأذربيجاني الذي يمر عبر القوقاز وشرق الأناضول عبر أنبوب باكو - تبليسي - جيهان فميناء جيهان، وهو يغطي 40 % من إمدادات إسرائيل السنوية من النفط الخام. كما توفر مجموعة “زورلو” التركية 7% من الكهرباء التي تستهلكها إسرائيل. ومن جانبها، تقوم إسرائيل بشكل أساسي بتصدير المواد الكيميائية والمواد عالية التقنية إلى تركيا. وقد لعبت هذه الصادرات دوراً لا يستهان به في تحديث الإنتاج الصناعي التركي خلال السنوات الأخيرة، خاصة في مجال الدفاع.

تشكل الذاكرة عنصراً آخر في العلاقات بين البلدين، يساعد على تجاوز تقلّبات مسار العلاقات بينهما. كان اليهود إحدى “الملل”1 في الإمبراطورية العثمانية التي استقبلت، خاصة في مدنها الساحلية البارزة (سالونيك، إسطنبول، إزمير، إلخ)، اليهود السفارديم المطرودين من إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر. وعلى الرغم من الوضع غير المتكافئ الذي كانوا يعيشونه منذ بدايات الجمهورية، كما أبرزته حلقات عدة من معاداة السامية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، فهم يكوّنون إحدى آخر الجاليات اليهودية في العالم الإسلامي، في بلد لا يتنكر لهم، كما أظهر ذلك مؤخّراً نجاح المسلسل التركي “كولوب” (Kulüp)، والذي يرتكز على ملاحظة دقيقة لخصوصياتهم اللغوية والثقافية. ساهم هذا الماضي وهذا الجو في تدفق السياح الإسرائيليين إلى تركيا، والذين واصلوا زيارة هذا البلد رغم الأزمات المتعاقبة، حيث كانوا من أوائل الزوار الأجانب قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023.

مصالح استراتيجية

أخيراً، ومهما كانت الطبيعة النزاعية السائدة في علاقاتهما، لا ينبغي التقليل من أهمية المصالح الاستراتيجية المشتركة بين البلدين. فتركيا، التي لا تزال حليفًا للغرب بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تضم عددًا من القواعد المهمة: قيادة القوات البرية للجناح الجنوبي للحلف في إزمير، ورادار الدفاع الصاروخي الباليستي في كوريسيك، الموجّه بشكل أساسي نحو إيران، وقاعدة إنجرليك الجوية التي يمكن أن تستوعب الطائرات التي تنقل المعدات العسكرية إلى إسرائيل. وفي فبراير/شباط 2024، انضمت أنقرة إلى مبادرة درع السماء الأوروبية، بناءً على مبادرة أطلقتها ألمانيا في 2023 ودعمتها 17 دولة. هذا المشروع، الذي رفضته فرنسا، سيستخدم، من بين أمور أخرى، الصاروخ الإسرائيلي طويل المدى 3 Arrow.

علاوة على ذلك، فإن كلا الدولتين تعيشان نزاعاً دائماً مع سوريا. ففي أعقاب سلسلة من التدخلات العسكرية التي نفذتها منذ 2016، سيطرت أنقرة على شرائط حدودية من الأراضي السورية والتي باتت تديرها وتجهزها منذ ذلك الحين، حتى وإن نفت عن نفسها أي أطماع وحدوية، وادّعت أن هدفها الأساسي يتمثل في منع تواجد ميليشيات وحدات حماية الشعب الكردي المرتبطة بحزب العمال الكردستاني. أما إسرائيل، فيقوم جيشها بانتظام، في سياق الصراعات المستمرة، بضرب مواقع النظام السوري وحلفائه (حزب الله اللبناني) في المنطقة، وإذا لزم الأمر، بموافقة روسيا.

على الرغم من أن المسؤولين في البلدين أعربوا عن خلافات ملحوظة بشأن تدخل كل منهما في القوقاز، إلا أنه لوحظ تقارب استراتيجي أيضًا في عام 2020، خلال حرب ناغورني قره باغ الثانية، حيث قدم كلاهما دعمًا عسكريًا ثمينا لأذربيجان، مما سمح لها في نهاية المطاف بإعادة إحكام سيطرتها على الجيب الأرمني.

ظلّ فلسطين

على الرغم من تيارات التقارب هذه، تبقى العلاقات بين البلدين متأثرة بانتظام، منذ نحو خمسة عشر عاماً، بخلافاتهما الدائمة حول القضية الفلسطينية، وبشكل خاص حول الوضع السائد في غزة. فبعد اقتحام سفينة “مافي مرمرة” في يونيو/حزيران 2010، جمّدت أنقرة 16 اتفاقية أسلحة مع إسرائيل. وهو قرار يجب أن يُنظر إليه أيضًا على أنه تكريس للقوة العسكرية التركية الناتجة عن هذا التعاون، والذي برز مع إنشاء نظام هيكلة الصناعات الدفاعية التركية التي تغذّت بالنموذج الإسرائيلي، أو من خلال إنتاج أسلحة متطورة مثل الطائرات المسيّرة، والتي كانت في الأصل تأتي من إسرائيل.

في الآونة الأخيرة، في يناير/كانون الثاني 2024، استبعدت تركيا إسرائيل من قائمة البلدان التي يتم التصدير إليها. يمنع هذا القرار الشركات التركية من تلقي المساعدات العامة للتصدير إلى تل أبيب، ما يبرز مجال المناورة الذي تتمتع به تركيا الآن داخل سوق تصدير كبيرة، لكنها لا تمسّ فعلاً بالعلاقات التجارية الثنائية. ففي نهاية نفس الشهر (يناير/كانون الثاني) 2024، أظهرت إحصائيات وزارة النقل التركية أن أكثر من 700 سفينة تركية وصلت إلى الموانئ الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بمعدل 8 سفن يوميًا. تتعلّق الشحنات المنقولة بمنتجات أساسية لآلة الحرب الإسرائيلية (فولاذ، نفط، منسوجات، الخ)، وتشمل شركات قريبة في كثير من الأحيان من دوائر السلطة في تركيا، “مما يظهر النفاق والخطاب المزدوج للقادة”، وفقًا للصحفي التركي المستقل متين سيهان.

تشدّد الموقف التركي بعد بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة وما رافقه من سقوط الكثير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، سمح للنظام بالبقاء في تناغم مع مشاعر المواطنين الأتراك. وهذا أمر مهم بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، خاصة وأنه من المقرّر إجراء انتخابات بلدية في 31 مارس/آذار 2024، والتي يأمل أردوغان أن يستعيد بفضلها مدينتي أنقرة واسطنبول الرمزيتين، واللتين خسرهما حزبه سنة 2019. ومع ذلك، من غير المرجح أن يؤدي هذا التصلّب إلى المساس بالعلاقات الاقتصادية القائمة بين البلدين، أو حتى إلى قطع رسمي للعلاقات الدبلوماسية. بدلاً من ذلك، ستحاول أنقرة، معتمدة على خبرتها في إدارة الأزمات التي اكتسبتها على مدى العقدين الماضيين، العمل على احتواء تطور علاقاتها التجارية مع إسرائيل، وتعويضها بإحياء علاقاتها مع دول الخليج (المملكة العربية السعودية والإمارات على وجه الخصوص)، وكذلك مع مصر.

قد يتيح تجاوز الموعد الانتخابي الربيعي لأردوغان فرصة العودة إلى موقف أكثر دبلوماسي، مستعملاً حجة خدمة القضية الفلسطينية إلى جانب القوى الإقليمية الأخرى المنخرطة بكثافة منذ بداية الأزمة (قطر ومصر والإمارات العربية المتحدة). لن يكون مثل هذا الموقف، في نهاية المطاف، بعيداً عن مشاعر الرأي العام، الملتبسة هي الأخرى، حيث ظلّ الأتراك حذرين منذ البداية، وغير مؤيّدين في غالبيتهم لفكرة قطع العلاقات التجارية. لذلك، فمن المرجح أن يعتمد النظام على مجموعة من المصالح والمشاعر المتضاربة للحفاظ على العلاقة الملتبسة التي ظلّت قائمة مع إسرائيل لفترة طويلة.

1طائفة دينية تتمتع بحماية قانونية زمن الإمبراطورية العثمانية.