المَديونيّة، المدخل الى استعمار مصر

على غرارِ ما حدثَ في تونس، شكَّلَت المديونيَّةُ المصريَّةُ في نهايةِ القرنِ التاسعِ عشَر سلاحاً حاسِماً للتدخُّل المباشرِ للقوى الأوروبيّة. وأدَّت إلى وضعِ مصرَ تحتَ الوصايةِ ثمَّ إلى احتلالِها من قِبلِ بريطانيا عامَ 1882.

محمد علي باشا، والي مصر
Bibliotheca Alexandrina, Memory of Modern Egypt Digital Archive.

كانَت مصر لا تزالُ تحتَ الحكمِ العثمانيِّ حين باشرَت، في النصفِ الأوَّل من القرنِ التاسع عشر، ببذلِ جهودٍ هائلةِ لتحديثِ البلاد وتطويرِ الصناعة. وقد لخَّصَ جورج قرم المسألةَ كما يلي: “بطبيعةِ الحال، قامَ محمَّد علي في مصرَ بأهمّ مبادرة، إذ أنشأَ مصانعَ تابعةً للدولة، واضعاً بذلك أسُساً لرأسماليَّة الدولة، التي تُذكِّر بدونِ شكٍّ بتجربةِ الميجي اليابانيّة (1)”. استمرَّ هذا الجهدُ الصناعيُّ طوالَ النصف الأوّل من القرنِ التاسعِ عشرَ دونَ اللجوءِ إلى القروضِ الخارجية. أُعطِيَت الأولويَّةُ لاستِنهاضِ المواردِ الداخليَّة. في 1839-1840، وعلى إثرِ حملةٍ عسكريَّةٍ مشترَكةٍ بقيادةِ المملكةِ المتَّحِدةِ وفرنسا، تلاها بعد ذلكَ هجومٌ ثانٍ قامَت به المملكةُ المتَّحِدةُ والمملكةُ النمساويّةُ-المجريَّةُ، اضطرَّ محمَّد عليّ والي مصر إلى التخلّي عن سوريا وفلسطين اللتَينِ كانَتا موضعَ اهتِمامٍ عالٍ لدى بريطانيا وفرنسا.

في النصفِ الثاني من القرنِ التاسِع عشر، تغيَّرت الأمورُ جذريّاً. اعتَمد خلفاءُ محمَّد علي نهجَ التبادلَ الحرَّ تحتَ ضغطِ المملكةِ المتَّحدة، وبدأوا بتفكيكِ احتِكاراتِ الدولة، واتَّجهوا بلهفٍ نحوَ القروضِ الخارجيّة. كانَ ذلك بدايةَ النهاية، ودخلَت مصر في حقبةِ المديونيّة. فتمَّ تسليمُ البنى التحتِيّة المصريَّةِ للقِوى الأوروبيّة، ولمصرفيّين أوروبيّين ومقاوِلين عَديمي الضمير.

في فترةِ 1850-1876، قامَ مَصرِفيّو لندن وباريس ومراكزَ مصرفيَّةٍ أخرى بالبحثِ عن فرصٍ لاستِثمارِ رؤوسِ أموالِهم، في مصرَ وسائرِ أقطارِ الإمبراطوريّةِ العثمانيّةِ وفي أماكنَ أخرى. في مرحلةٍ أولى، بدأ النموذجُ المبنيُّ على التبادلِ الحرَّ سائراً على خيرِ ما يرام. إلّا أنَّ عواملَ خارجيَّةً لا تستطيعُ السلطاتُ المصريَّةُ التحكُّمَ بها كانَت سببَ ذلك النجاحِ الظاهريِّ، كالحربِ الأهليَّةِ في أميركا الشماليَّةِ التي أدَّت إلى انخِفاضِ الصادِرات الأميركيّةِ من القطنيّاتِ، وكانَت حينَها الأولى في العالم. أدّى ذلك إلى ارتِفاعٍ كبيرٍ في سعرِ القطنِ في السوقِ العالميّ. وارتفعَت عائداتُ الصادراتِ المصريَّةِ من القطنِ بشكلٍ خياليٍّ. ممَّا دفعَ اسماعيل باشا إلى قُبولِ قروضٍ بمبالغَ طائلةٍ من البنوكِ(الفرنسيَّةِ والبريطانيَّةِ خاصَّة). في نهايةِ الحربِ الأهليَّةِ في شمالِ أميركا، استعادَت الصادراتُ الأميركيًّةُ مَجراها وانهارَ سعرُ القطن.

إلا أنَّ مصرَ كانت تعتمدُ على العائداتِ بالعملةِ الأجنبيّة الذي كانت تَجنيها من بيعِ القطن، لا سيَّما لمصانعِ الأقمشةِ البريطانيّة لتسديدِ ديونِها.

ثلاثين عاماً من قروض يستحيل تسديدُها

في عامِ 1876، بلغَت المديونِيّةُ المصريَّة 68.5 ملايين ليرة استرليني (مقابلَ 3 ملايين عامَ 1863). وبلغَت خدمةُ الدينِ ثلثَيْ مدخولِ الدولةِ ونصفَ مردودِ الصادرات. وقلَّت المبالغُ التي تدخلُ خزنةَ الدولة، في حين واصلَت البنوكُ بالمطالبةِ وبقبضِ مبالغَ طائلة. فلنأخذ قرضَ عام 1862 على سبيلِ المثال: تُصدِرُ البنوك سنداتٍ مصريَّةٍ بقيمةٍ إسميَّةٍ قدرُها 3.3 مليون ليرة، وتبيعُها بـ 83% من قيمتِها الإسمية. تَقبضُ مصرُ 2.5 مليون ليرة، وتُقتطَعُ منها عمولةُ البنوك. يتوجَّبُ على مصرَ تسديدُ مبلغِ 8 ملايين تقريباً، وذلك على مدى 30 سنة، إن أخذنا بعينِ الاعتِبار استِهلاكَ رأسِ المالِ ودفعِ الفوائد.

مثلٌ آخر، وهو قرضُ عامِ 1873: تُصدِرُ البنوكُ الأوروبيَّةُ مُستنَداتٍ بقيمةٍ إسميَّةٍ قدرُها 32 ليرة استرليني، وتَبيعُ هذه المستَنداتِ مع حسمِ 30% من قيمةِ شرائها. وعليه، لا تستلِمُ مصرُ سوى 20 مليون تقريباً. يرتفِعُ المبلغُ المتوجَّب تسديدُه إلى 77 مليون ليرة استرليني (الفائدةُ الفعليّة 11% ، علاوةً عن استِهلاكِ رأسِ المال).

وعليه، يتثاقلُ الدينُ وتتزايدُ الفوائدُ المطلوبةُ بشكلٍ غير مُحتَمل. فالشروطُ المصرفيَّةُ التي تفرضُها البنوكُ تَجعلُ التسديدَ مستحيلاً. ممَّا يجعلُ مصرَ مضطرَّةً دائماً إلى الاستِدانةِ لتسدِيدِ ما عليها من مدفوعاتٍ وخدمةِ ديونِها السابقة.

وفي عامِ 1875، كانت مصرُ على وشكِ الإفلاس، فتخلّت عن حصَّتِها في قناةِ السويس التي تمَّ افتتاحُها عام 1869. أما المبلغُ الذي تمَّت جِبايتُه حين باعَت مصرُ إلى بريطانيا 176602 أسهمَ “سويس” التي كانت تَملكُها، أي ما يعادلُ نصفَ رأسمالِ شركةِ السويس، فساهمَ في نهايةِ تشرين الثاني/ نوفمبر بدفعِ قسطَيْ دينِ شهرَيْ كانون الأول/ ديسمبر 1875 وكانون الثاني/ يناير 1876، اللذَين كانا مُرتَفِعين جداً.

في النهاية، ورغمَ الجهودِ اليائسةِ التي بذلَتها مصرُ لتسديدِ مديونيَّتِها، إلا أنَّها اضطرَّت لتعليقِ الدفعِ عامَ 1876. يجدرُ بالذكرِ أنَّ دولَ الإمبراطوريَّةِ العثمانيَّةِ والبيرو(وكانَ اقتصادُ البيرو حينَها من الأهمِّ في أميركا الجنوبيَّة) والأوروغواي، كانَت قد أعلَنت إفلاسَها في العامِ نفسِه. وكان الأزمةُ البنكيَّةُ التي اندلعَت عام 1873 في نيويورك وفرانكفورت وبرلين وفيينا، وأثَّرَت شيئاً فشيئاً على لندن، قد لجمَت الجهوزِيَّة لإقراضِ الدولِ المُحيطةِ التي كانت بحاجةٍ دائمةٍ للاستِدانة ، من أجلِ تسديدِ ديونِها السابقة.

اتِّفاقِيّاتٌ ضمنيّةٌ بين لندن وباريس وبرلين

اتَّفقت باريس ولندن، رغمَ المنافسةِ بين العاصمتَين، على وضعِ مصرَ تحتَ وصايتِهما من خلالِ صندوقِ الدين، ودورُه التحكُّمُ بجزءٍ من الضرائب تحتَ إدارةِ بريطانيا وفرنسا. وتوافقَ إنشاءُ الصندوقِ مع إعادةِ هيكلةِ الدينِ المصريّ، وهذا ما أرضى البنوك، إذ إنَّ إعادة الهيكلةِ تلك لا تتضمَّنُ أيَّ حسمٍ للأصولِ المالية. وتمَّ تحديدُ سقفِ الفائدةِ عالِياً بنسبةِ 7% وتحديدُ مدَّةِ التسديدِ إلىِ 65 سنة.

هكذا تمَّ تأمينُ مداخيلَ مريحةٍ للموفِّرين الأوروبيّين، تَضمَنُها فرنسا، والمملكةُ المتَّحدة، وعائداتِ الدولةِ المصريّةِ التي يقتِطع صندوقُ الدين جزءاً منها.

كانت بريطانيا حينَها أهمُّ قوَّةٍ أوروبيّة ودوليَّة، وهدفُها السيطرة على شرقِ البحرِ المتوسِّط. وقد ازدادت أهمِّيَّة المتوسِّطِ بحكمِ افتِتاحِ قناة السويس، ممّا يؤمِّن لبريطانيا طريقاً مباشراً إلى الهند وآسيا. كما أنَّ بريطانيا تودُّ تهميشَ فرنسا التي تمارسُ سلطةً فعليَّةً في مصرَ من خلالِ البنوكِ وقناةِ السويس الذي تمّ إنشاؤها بأموالِ بورصةِ باريس. وكي تضمن بريطانيا موافقةَ فرنسا على التنازلِ لصالحِ بريطانيا، رأَت أن تلبّي بدايةً مصالحَ المصرفيّين الفرنسيّين المُرتَبطين جدّاً بسلطاتِ بلدِهم السياسيّة، وتعرضَ تعويضَهم في بلدٍ آخرَ من بلادِ البحر المتوسط. هنا يدخلُ اتِّفاقٌ ضمنيٌّ بين لندن وباريس: مصرُ من حصَّةِ بريطانيا، وتونس من حصَّةِ فرنسا. لم يكن الجدولُ الزمَنيُّ لتقسيمِ النفوذِ هذا محدَّداً بين 1876 و1878، إنّما تلك كانت الوُجهَةُ الواضِحة.

تحتَ السيطرةِ البريطانيّة

لم يُحسَم مستقبلُ مصرَ وتونس بين بريطانيا وفرنسا وحَسب. فلألمانيا كلمةٌ تقولُها، وقد توحَّدَت وبدأ نجمُها يصعدُ إلى جانبِ المملكةِ المتَّحِدة. صرَّحَ المستَشارُ الألمانيُّ أتو فون بيسمارك Otto Von Bismark في عدَّة مناسباتٍ خلالَ نقاشاتٍ دبلوماسيّةٍ سرِّيَّة، أنّه لا يرى ضَيراً أن تسيطرَ لندن على مصرَ وفرنسا على تونس، إن تُرِك لها مجالُ التحرُّكِ في مناطقَ أخرى في العالم. بمَعنى آخر، يُشيرُ مصيرُ تونس ومصر إلى تقاسمِ إفريقيا بين القوى الغربيَّة والذي سيتمُّ الاتِّفاقُ عليه في مؤتمرٍ آخرَ في برلين عام 1885 (2).

في الحالةِ المصريّة والتونسيّة، شكَّلَ الديْنُ سلاحَاً قوياًّ استعملَته القوى الأوروبيَّةُ لتأمينِ هيمنتِها، إذ توصَّلَت إلى تركيعِ بلدين كانا يَتمتَّعان باستقلاليّةٍ فِعليّة . فصندوقُ الدين العام يفرضُ على مصرَ تدابيرَ تقشُّفٍ لم تحظَ بشعبيّة وأدّت إلى عصيانٍ عسكريّ، ودافعَ الجنرال أحمد عُرَبي عن مواقفَ وطنيّة مناهضىة لإملاءاتِ القوى الأوروبية. أخذت بريطانيا وفرنسا ذلكَ ذريعةً لإرسالِ فرقةٍ عسكريَّةٍ إلى الإسكندريّة عام 1882. دخلَت بريطانيا في حربٍ ضدَّ الجيشِ المصري، وفرضَت على البلدِ احتلالاً دائماً وحوّلتهُ إلى محمِيّة. وأضحَت التنمِيَةُ في مصرَ تحتَ رحمةِ المصالحِ البريطانية. وكما كتبَت روزا لوكسمبورغ عام 1913، “فالاقتِصادُ المصريُّ ابتلعَ معظمَه رأسُ المالِ الأوروبيّ. في النهايةِ، تحوّلت مساحاتٌ شاسعةٌ من الأراضي، قوّةٌ هائلةٌ من اليدِ العاملة، وكمِّيَّةٌ من المنتَجاتِ المحوّلةِ للدولةِ على شكلِ ضرائبَ، إلى رأسمالٍ أوروبيٍّ تمَّ تكديسُه (3)”.

لم يُلغَ صندوقُ الدينِ العامِّ إلّا في تمّوز عام 1940. مدَّدَ الاتِّفاقُ الموقَّعُ بين مصرَ والمملكةِ المتَّحِدة عام 1940 الهيمنةَ الماليَّةَ والاستعماريَّة، وحصَلت لندن على المثابرةِ في تسديدِ ديْنٍ أصبحَ أبدِيّاً. تغيّرَ الوضعُ عامَ 1952 مع انقلابِ جمال عبد الناصر وإنهاءِ الحكمِ الملكيِّ وتأميمِ قناةِ السويس، في 26 تمّوز عام 1956، وعلى مدى خمسةِ عشر عاما، استطاعَت مصرُ النهوضَ في محاولةٍ لتنميَةِ اقتِصادٍ مستقلٍّ نسبِيَّاً.

(1) Georges Corm, « L’endettement des pays en voie de développement : origine et mécanisme » in Sanchez Arnau, J.-C. coord. Dette et développement (mécanismes et conséquences de l’endettement du Tiers-monde, Publisud, 1982 ; p. 39.

(2) Henri Wesseling, Le partage de l’Afrique - 1880-1914, Denoël (Folio Histoire, 2002), 1996.

(3) Rosa Luxemburg, L’Accumulation du capital, Maspero, vol. II, 1969 ; p. 104.