هل باتت المعجزة التركية سراباً؟

قد كانت تركيا خلال عشر سنوات ونيف بمثابة مثال يُحتذى في نظر العديد من الناس في الغرب. نظام معتدل، بلد عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، يحترم أصوات الناخبين، يرتكز الى اقتصادٍ يضجُّ بالحيوية، باختصار : نموذج يضرب به المثل لدى جيرانه الغارقين بالأزمة النفطية بل والمتخبطين في الحرب الأهلية. أما اليوم، وقبل أسابيع قليلة من موعد الاستفتاء الشعبي العام حول الدستور في نيسان /أبريل 2017 تبدو تركيا في حالة يُرثى لها، فهي ضحية أزمة رباعية الأبعاد: أمنية وسياسية ودبلوماسية وخاصة إقتصادية، وهنا يكمن التهديد الأكبر لرجب طيب أردوغان.

لقد أدّت الجمعية الوطنية الكبرى يوم ال21 من يناير/ كانون الثاني آخر مراسم الدفن للمعجزة التركية. فلقد وافق البرلمان لدى القراءة الثانية على مشروع الرئيس رجب طيب أردوغان بإجراء استفتاء حول تعديل الدستور تعديلاً بليغاً، وذلك بفضل التحالف الظرفي غير المتوقع بين “حزب العدالة والتنمية” (إسلامَوي محافظ) الحاكم وحزب “العمل القومي” الصغير (يميني قومي متطرف). حيث حاز المشروع على 339 صوت، أي بما يفوق ب 9 أصوات الأغلبية المطلوبة، والتي تقدر بثلاثة أخماس الأعضاء، لِيُطْرَح على الاستفتاء الشعبي العام في 16 نيسان /أبريل القادم.

ويتضمن المشروع 18 مادة، من شأنها تحويل السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية، في حين كانت في السابق بين أيدي رئيس الوزراء، مما سيتيح له تعيين وإقصاء الوزراء، والتدخل في سير العدالة. وسوف تتم بموجبه الانتخابات التشريعية في نفس الموعد مع الانتخابات الرئاسية، أي كل خمس سنوات بدل أربع كما هي الحال الآن، وسوف يصبح عدد النواب 600 أي يزداد عددهم 50 عضواً جديداً. ولقد جاء على لسان رئيس الوزراء بن علي يلديريم، إثر عملية الاقتراع، تأكيد مفعم بالثقة حين قال :“ستتخذ أمتنا القرار الأَصْوَب، دون أدنى شك في ذلك”. بذلك تكون تركيا قد أتمّت المرحلة الأخيرة من عملية تغيير النظام التي بدأت بشكل خفيّ منذ صيف 2015، ثم احتدمت جراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تموز/ يوليو 2016 وحملة القمع الواسعة التي تَلتها، ولا سيما ضد الصحافة المستقلة. ونتيجة ترهيب الحكومة للمعارضة الموالية لأفكار كمال أتاتورك، ومطاردتها للمناضلين الأكراد، وقصفها لجهاديي منظمة الدولة الإسلامية، لم يعد لدى أي طرف أي قوة سياسية لمعارضة المشروع. إلا أن الخطر الحقيقي المحدق بسلطة أردوغان الشخصية حتى عام 2029 هو وضع البلاد الاقتصادي.

سندات مالية “فاسدة”

في 27 يناير/كانون الثاني خفضت “فيتش”، إحدى الوكالات الثلاث الكبرى لتقدير الجدارة الائتمانية، تصنيف تركيا. وباتت تعتبر سنداتها “فاسدة” مما يفقدها الفرصة في طرح القروض بأسعار فائدة معقولة في الأسواق المالية. ولقد كانت استنتاجات “فيتش” حاسمة: ففي 2016 تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الى 2،1 % في حين كان هذا المعدل بين 5 و6 %منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002؛ ولقد انخفضت الصادرات بنسبة 1 % والإيرادات من المنتوجات الصناعية بما يقارب 5 % والعائدات السياحية بنسبة 36% في الفصل الثالث من السنة. أما العملة الوطنية، الليرة التركية، فهي في انهيار مُريع بحيث أصبح الدولار يساوي أربع ليرات تركية، في حين كانت الليرة تعادل الدولار خلال العقد الأول كله تقريباً من القرن العشرين. وراح الأجانب ممن يملكون سندات مالية تركية يسارعون ببيعها (- 3،4 مليار دولار في الفصل الثالث من السنة) وبات الدين الخارجي القابل للتسديد على المدى القريب (12 شهراً كأقصى تعديل) يفوق الاحتياطي الرسمي من العملات الصعبة (مائة مقابل 98 مليار دولار) بما يجعل مانحي القروض يخشون خسارات فادحة لأصولهم المالية في المستقبل.

ولقد أكّد البنك المركزي في نشرته الاقتصادية الدورية في شباط/فبراير 2017: “لقد نالت محاولة الانقلاب من معنويات المستهلكين، و أثرت سلباً على مناخ الاقتصاد”. ولا شك أن الحَجْر الذي فُرِضَ على أموال ألف شركة، لا يعلم أحد ما سيكون مصيرها في المستقبل، قد أثار قلق المالكين. فأصحاب الشركات هذه متّهمون بتمويل أعمال تجارية لا حصر لها تابعة لفتح الله غول، وهو الشخصية التي تجمع بين المُبشِّر الديني والزعيم الروحي المتسلط (“الغورو”)، يتربع على رأس شبكة واسعة متشعبة داخل المؤسسات، وهو متهم بتدبير محاولة الانقلاب في شهر تموز/يوليو الماضي بعد أن كان لفترة طويلة الحليف السياسي الأساسي لحزب العدالة والتنمية.

الدولة تسرِّع الوتيرة والبنك المركزي يكبح الجماح

وفي مواجهة هذه الأزمة، يجد النظام صعوبة في الدفاع عن نفسه بشكل مُنظّم. يُقرّ أحد محافظي البنك المركزي التركي السابقين بأن “الفريق الحاكم منقسم على نفسه”: فالبعض يريد مكافحة التضخم (8 إلى 9 %) بادئ ذي بدء، في حين يريد البعض الآخر التركيز على تحفيز معدل النمو. ولقد منع أردوغان لفترة طويلة البنك المركزي من رفع أسعار الفائدة على القروض، وذلك بحجة نظرية قديمة لديه، وهي في غاية الغرابة، تدّعي بأن ارتفاع أسعار الفائدة هو المسؤول عن حالة التضخم في البلد! وبالتالي كان لا بد من انتظار 29 يناير/ كانون الثاني حتى يتم رفع سعر فائدة البنك المركزي للائتمان “يوماً بعد يوم” من 7،75 % إلى 12 % ، في حين أنه كان من المتوقع تحديد سعر الفائدة ب10%. كما وتم رفع سعر الفائدة على شهادات الإيداع لأجل أسبوع واحد من 4،5% إلى 10% وسعر الإقراض لأجل يوم واحد من 3،5% إلى 8 % . ولقد أراد محافظ البنك، مراد شتينكايا، بعد عشرة أشهر فقط من استلامه مهامه، تحمل مسؤولية قراره هذا، إلا أن الحكومة سارعت بعدها بيومين فقط الى موازنة قراره بخفضها الرسوم على القيمة المضافة المفروضة على الآلات المنزلية إلى 8% كما خفّضت من الضريبة على العقارات حتى شهر أيلول/سبتمبر 2017 . ونرى هنا أهمية موعد الاقتراع في شهر نيسان / أبريل القادم: فالدولة تسرع الوتيرة في حين يحاول البنك المركزي وضع الكابح. "ولقد تصاعد معدل البطالة (12،1% في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني) والاستثمار في حالة ركود (- 0،6 %) خلافاً للاستهلاك العام الذي تميز بالحيوية (+ 23،8% ) وذلك ليس بالأمر المفاجئ نظراً للسياسة المالية التوسعية المنتهجة، كما يلاحظ سيلفان بيلفونتين، أحد خبراء الاقتصاد في بنك باريس باريبا.

استقطاب “المال الساخن”

تحتاج تركيا هذه السنة إلى 35 مليار دولار لتمويل العجز الجاري وإلى 155 مليار إضافي لتسديد القيمة الأصلية لديونها الخارجية. وهو مبلغ لا يستهان به، ولا سيما أن وصول دونالد ترامب قد دفع الدولار إلى الارتفاع (+ 17 % مقابل الليرة) وأن ديون الشركات التركية بالدولار أكثر من ديونها بالليرة التركية. أما الاستثمارات الخارجية المباشرة فباتت تتهرب من بلدٍ يعتبر معرّضاً للإرهاب (30 عملية إرهابية في ظرف سنة واحدة فقط) بلدٍ يقاتل جنوده في بلدين مجاورين، سوريا والعراق. ولم تعد القروض الخارجية من الأمور الممكنة بعد التصنيف الصارم الذي وضعته وكالات تقييم الجدارة الائتمانية. وقد يكون كبير أرباب العمل في القطاع السياحي هو الشخص الوحيد الذي ما زال يحاول تصديق مقولة إن “الروس سوف ينقذون السياحة التركية”.

يبقى أن تحاول تركيا استقطاب ما يدعى بال“مال الساخن”، أي رؤوس الأموال التي تقوم بعمليات المضاربة والمستعدة للمجازفة شريطة أن تكون أسعار الفائدة 8 إلى 9 أضعاف ما هي عليه في ألمانيا الاتحادية أو فرنسا. ويسجل سيلفان بيلفونتين ملاحظة أخرى:" كدليلٍ على التوتر الذي انتاب السلطات فلقد أمر الرئيس أردوغان مالكي الأصول بالعملات الأجنبية بتحويلها إلى ليرات تركية، في التفاتة وطنية مشهودة. وإن كانت بعض المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة قد لبّت النداء، إلا أن الإيداعات باليورو والدولار قد تكثفت في حقيقة الأمر. وسرت شائعات حول فرض رقابة على رؤوس الأموال، كذبتها الحكومة إدراكاً منها للأثر الفادح لمثل هذه التدابير على المَحافظ الاستثمارية، التي لا بد منها لسلامة ميزان المدفوعات واستدامته.

إعصار دونالد ترامب

هل يمكن للبنوك التركية أن تنجح في مواجهة الأزمة؟ بالرغم من أرباحهم المقبولة، يجد زبائن البنوك، ولا سيما منهم أصحاب المهن، صعوبة كبرى في تسديد قروضهم بالدولار، كما أن تفاقم القروض المشبوهة أمرٌ بات شبه حتمي. وتعتبر “فيتش” أن المجتمع المصرفي متين بما فيه الكفاية لتحمل صدمة “معتدلة”. ولكن ماذا لو حصلت عاصفة ولو ارتفع كل من الدولار وسعر فائدة الاحتياطي الفدرالي الأميركي في آنٍ معاً؟ صحيح أن تركيا ليست في أسوأ حال بين البلدان ذات الاقتصاد المتطور، ولا هي الأكثر عرضة للتأثر ب“إعصار ترامب” الاقتصادي، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحجم الضئيل من الصادرات التركية إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي يبدو أنها شنت حرباً تجارية بكل معنى الكلمة على موردي السلع إليها، وإذا ما أخذنا في الحسبان تواجد جاليتها أساساً في أوروبا والعدد القليل من الشركات الأميركية على أراضيها والتي تسمح لها واشنطن باستعادة أرباحها الى الوطن دون أي غرامات.

ومع ذلك لا يمكن استبعاد صدمة شبيهة بالأزمة المالية التي حدثت عام 2001 والتي أدت وقتها إلى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. ولقد أسرّ أحد تجار السجاد في البازار، أي السوق الرئيسي في استانبول، إلى مراسل صحيفة كريستشن ساينس مونيتور قائلاً “في الأمس أصبحت ثرياً بفضل أردوغان، أما اليوم فهو يحكم عليّ بالإفلاس”، وكان هذا التاجر قد أضطر لغلق أربعة محلات تجارية من أصل سبعة يملكها. ولو عمّ هذا الشعور الشعب كله فثمة مفاجأة غير سارة تنتظر أردوغان في شهر نيسان/أبريل القادم.