إلى أين تتجه أسواق النفط؟

بعد أقل من ستة أشهر من توقيعهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 على اتفاق رفع أسعار النفط الخام إلى 58 دولارًا للبرميل، اضطر أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك) للإقرار بأن العرض ما زال يفوق الطلب. ففي مطلع شهر مارس /آذار 2007، وفي غضون أسبوع واحد فقط، فرضت تلك الحقيقة المريرة نفسها بقوة على أرض الواقع؛ إذ انخفضت أسعار النفط بنسبة 8%، وهبط أكبر مؤشرين، ويست تكساس الوسيط وبرنت، إلى أقل من 50 دولار للبرميل قبل أن يرتفع من جديد بشكل طفيف في بداية شهر نيسان /أبريل. وسيكون لأعضاء أوبيك موعد قادم في شهر مايو أيار للنظر مجدداً بالموضوع.

في أول رد فعل علني، اقترحت الكويت تمديد الاتفاق الذي أُبرم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 لمدة ستة أشهر وهو الاتفاق الذي ينص على تخفيض الإنتاج النفطي بمقدار 1،8 مليون برميل يوميًا ابتداءً من يناير 2017، بحصص موزعة بين دول منظمة الأوبك وروسيا وكازاخستان وتركمانستان. ثم جاء تصريح وزير الطاقة السعودي الجديد خالد الفالح ليؤكد أن السعودية لا تعتزم خفض إنتاجها لمجرد تعويض إخلال بعض المنتجين بالتزامهم، وهو ما كان بمثابة تحذير لفلاديمير بوتين الذي لا زال يتلكأ ببرنامج التخفيض الذي وعد بتطبيقه العام الماضي، والذي لم ينفذ منه سوى 37%. أما الحكومات الأخرى المشاركة فقد آثرت الصمت لحين توصل كبار الأطراف في القطاع إلى اتفاق واضح في هذا الشأن.

هناك ثلاثة مخاطر تتهدد استمرار الاتفاق، بل وتهدد الخطة الجديدة التي تنوي منظمة الأوبك مناقشتها في فيينا في مايو/آيار المقبل، والتي تقضي بخفض الإنتاج بمعدل 0،8 مليون برميل يوميًا بدءًا من يوليو 2017. وتتمثل تلك المخاطر الثلاثة في عدم انضباط أعضاء الأوبك، والغموض الروسي والهجمة الأمريكية.

أعضاء الأوبك: كلٌ على ليلاه

في المعتاد، لا يبدي أعضاء الأوبك التزامًا كبيرًا إزاء الاتفاقات التي تعقدها المنظمة باسمهم، فتلك الأخيرة ليست “كارتلًا” أو اتحادًا للمنتجين من القطاع الخاص على غرار “الأخوات السبع”1 التي كانت تسيطر على سوق النفط قبل الصدمة النفطية الأولى عام 1973، بل منظمة حكومية تخضع أيضاً للحسابات السياسية.

فبالرغم من نشاط متمردي دلتا النيجر في نيجيريا والصراع الدائر حول الموانىء النفطية بين قوات الجنرال خليفة حفتر والميليشيا المحلية التي تمولها طرابلس، فلقد رفعت الدولتان من إنتاجهما النفطي بشكل ملحوظ. وفي الوقت نفسه، واصلت كل من إيران والعراق انتاجاً مرتفعاً من النفط واكتسبت مزيداً من الأسواق خاصةً في غرب أوروبا، لا سيما بفضل تخفيض سعر مبيع الخام بنسبة 3%. كل ذلك يأتي على حساب السعودية التي خسرت العديد من أسواقها في شرق وغرب السويس (بمعدل 800 ألف برميل يوميًا منذ أكتوبر 2016). في يونيو/ حزيران 2014، رفض وزير الطاقة السعودي السابق أي تخفيض للإنتاج رغبةً منه في حماية حصص بلاده في السوق، بصفتها المصدِّر الأول للنفط الخام في العالم، وتحقيق “ضربة” للمنافس الإقليمي أي إيران وكذلك للمنتجين الأمريكيين للنفط غير التقليدي (النفط الصخري والغاز المصاحب) بفعل هبوط الأسعار الناجم عن تخفيض الإنتاج.

إلا أن السعودية قامت منذ ذلك الحين بإعادة النظر في خططها، وتبنّت استراتيجية جديدة بعنوان “رؤية 2030” تقضي بجعل ال 20 مليون من المواطنين السعوديين يدخلون سوق العمل ويشاركون في عجلة الاقتصاد وبالتحضير لحقبة ما بعد النفط. وتفترض رؤية المملكة القيام باستثمارات جسيمة وخصخصة شركة آرامكو، ولو جزئيًا، ورحيل خمسة ملايين عامل أجنبي، عنوةً أو طواعية. ولا بد من الأموال لتحقيق هذا الهدف كما أنه لم يعد في وسع السعودية الصبر طويلاً إلى حين سقوط منافسيها، في حين أن خفض الإنتاج يكلف خزينة المملكة أقل مما قد يكلفها انهيار الأسعار كما حصل بين عامي 2014 و 201. ثم أن معاودة الإنتاج بمستويات يونيو/حزيران 2014، من شأنه أن يضع الرياض في وضع حرج تجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي التقاه ولي العهد محمد بن سلمان مؤخرًا.

أما “الدول الخمس الأكثر ضعفاً” من أعضاء الأوبك (الجزائر والعراق وليبيا وفنزويلا ونيجيريا) بحسب وصف صندوق النقد الدولي، فهي تفتقر إلى الأموال اللازمة للاستثمار، وتواجه منذ عدة سنوات مستويات متواضعة نسبياً في الإنتاج بينما لا يسمح لها استهلاكها الداخلي المتزايد والمترتب على الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده بتصدير الفوائض من إنتاجها النفطي. لذا فهي تصوِّت في اجتماعات الأوبك المنعقدة في فيينا في صالح تخفيض الإنتاج... من قبل الآخرين.

غموض روسي وحملة أمريكية

تمارس روسيا لعبةً مبهمة. إذ أن التخفيض الذي أعلنت عنه ينطلق من مستويات مرتفعة، فروسيا وحدها تصدر أكثر مما كان يصدر الاتحاد السوفيتي برمته، وهي لا تخفي طموحها في أن تحل محل المملكة العربية السعودية كأكبر مصدر للنفط الخام في العالم. كما أن الكرملين، الذي رأى روسيا تتعافى قليلاً من الكساد الذي عانت منه إثر الأزمة الاقتصادية عام 2014 ومن الحظر الذي فرضته عليه الدول الغربية، قد اتخذ التدابير الكفيلة بتمكينه من التروي ومراقبة الأوضاع بخلاف السعودية؛ فقد أعد موازنة بناءً على فرضية برميل النفط بسعر 40 دولارًا حتى عام 2019، وكل دولار إضافي يودع في صندوق احتياطي أنشئ تحسُّبًا لما قد يطرأ من أزمات.

أما على الصعيد الأمريكي، فقد صمد منتجو النفط الصخري صموداً لا يستهان به. حيث أدت الزيادة الهائلة في مخزونات النفط الخام بالولايات المتحدة في مطلع شهر مارس/آذار (بمعدل 8،21 مليون برميل، تضاف إلى احتياطي 528،29 مليون برميل)، على عكس ما كان متوقعاً من انخفاض الإنتاج، إلى انخفاض الأسعار. وبفضل جهود إنتاجية مذهلة، تمكن منتجو النفط، خاصةً في تكساس واكلاهوما، من عبور أزمة 2014 إلى2016 والحفاظ على إنتاجهم، عكس التوقعات السعودية. وقد عاونتهم في ذلك البنوك من خلال تمديد القروض، كما دعمهم كل من الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بشكل متكتم والبنك المركزي وخزينة الدولة. ويشجع الرئيس الجديد دونالد ترامب توسع قطاع النفط بشكل عام داخل الولايات المتحدة نفسها، وينوي في سبيل ذلك إزالة كافة العراقيل التي وضعها باراك أوباما بهدف حماية البيئة. وتعتزم شركة “إكسون” - التي كان يرأسها حتى ديسمبر/كانون الأول 2016 وزير الخارجية الجديد ريكس تيلرسون – و شركتا “شل” و “شيفرون” استثمار 10 مليارات دولار في النفط الصخري الذي كان حتى اليوم حكرًا على المستثمرين الصغار والمتوسطين، وهي على ثقةٍ من الربح الذي سيدره عليها، حتى وإن كان أدنى من 50 دولارًا للبرميل الواحد.

بشكل عام، عمدت كبريات الشركات النفطية الأمريكية إلى تقليص استثماراتها حول العالم نتيجةً للأزمة، بيد أن جهود الإنتاج المتنامية قد عادت عليهم بالأرباح، كما تم تخفيض الخطة الزمنية لتنمية حقول النفط لتصير عامين فقط بدل ثلاثة إلى أربعة أعوام، بالإضافة إلى خفض تكاليف الإنتاج. وقد أعلنت شركة توتال أن معدل كلفة إنتاج البرميل قد انخفض من تسعة إلى خمسة دولارات، أي بنسبة 44%. يضاف إلى ذلك اكتشافات هامة في الاسكا وشرق البحر الأبيض المتوسط.

احتمال ضعيف بردة معاكسة

كل هذه الوقائع تجعل من غير المحتمل ما أعلنته الوكالة الدولية للطاقة (منظمة مغايرة للأوبك تتألف من البلدان المستهلكة للنفط أسسها هنري كيسنجر عام 1973) من ردة معاكسة سوف تحصل لاحقاً، في مطلع العقد المقبل، خروجاً من نفق التذبذب بين 50 و 60 دولارًا للبرميل في السوق. فالطلب العالمي على النفط يرتفع بصورة أبطأ من ذي قبل، والاقتصاد العالمي يراوح مكانه، وقد أعربت كريستين لاغارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، عشية اجتماع مجموعة العشرين في بادن بادن بألمانيا، عن أملها في أن يسترد الاقتصاد العالمي عافيته قريبًا بعد نقاهة طويلة دامت منذ عام 2008. إلا أنها لم تكرر ذلك التصريح، فالنتائج التي أسفر عنها المؤتمر لم تكن مشجعة. ولقد انخفضت وتيرة النمو الاقتصادي في الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، كما يشهد اليوم مجال النقل، والذي يعد آخر الأسواق المتبقية للنفط بجانب التدفئة، تطور السيارات الكهربائية والهجينة (هناك 100 الف سيارة من هذا النوع في فرنسا منذ الآن)، وهو ما سيحد من الطلب على النفط، بالرغم من تشكيك منتجي النفط في هذا الأمر. كما أن التقنيات الجديدة الهادفة لتحصين المنازل من البرد في نصف الكرة الشمالي ستنحو المنحى نفسه وتقلل من الطلب على الوقود.

في ظل تلك الأجواء المحبطة التي تحيط بأعضاء الأوبك، تمثل المضاربات في سوق النفط المنفذ الوحيد. فمنذ 8 مارس/آذار، شرع “المتاجرون” في المضاربة في سوق العقود الآجلة، محققين مكاسب من الفارق بين السعر الفوري والسعر الآجل. ويفوق هامش الربح الذي يحققونه شهريًا للبرميل الواحد (65 سنتًا أمريكيًا) تكلفة التخزين (41 سنتًا)، وهو ما يدفعهم إلى مضاعفة عمليات المضاربة.

“ضبط أسعار النفط سيكون قاسياً على الدول الخمس الأضعف”

بسبب عوامل عدة، منها “السقف” الذي فرضه الأمريكيون على إنتاج الآخرين حيث باتوا قادرين على تطوير أنشطتهم الإنتاجية، حتى في ظل أسعار منخفضة، و كذلك عدم انضباط أعضاء الأوبك والطموحات الروسية الكبرى، ستظل أسعار النفط تتراوح بين 50 و 60 دولارًا للبرميل لفترة قد تمتد إلى عدة سنوات ما لم يجدّ جديد، في ظل ارتياح عام – ظاهر كان أم خفي – بين كبار الفاعلين في القطاع. وهو ما لا يروق لمسؤولي تلك الدول المنتجة التي تعاني كبوةً اقتصادية مثل نيجريا وليبيا وأنجولا والجزائر، وبالطبع فنزويلا، الأسوأ وضعًا على الإطلاق بسبب الأزمة المالية الطاحنة التي تمر بها.

“وﺑﺎﻟﻧﺳﺑﺔ ﻟﻠﺑﻠدان اﻷﺷد ﺗﺿررًا ﻣن اﻧﺧﻔﺎض أﺳﻌﺎر اﻟﺳﻠﻊ اﻷوﻟﻳﺔ، فقد أحدث تحسن أوضاع السوق النفطية ﻣؤﺧرًا ﺑﻌض اﻻﻧﻔراج، وﻟﻛن ضبط الأسعار ﻳﻌﺗﺑر ﻣطﻠﺑًﺎ ﻋﺎﺟﻼً ﻻﺳﺗﻌﺎدة اﻻﺳﺗﻘرار اﻻﻗﺗﺻﺎدي اﻟﻛﻠﻲ. وﻳﻧطوي ﻫذا الأمر ﻋﻠﻰ اﻟﺳﻣﺎح ﻟﺳﻌر اﻟﺻرف ﺑﺎﻟﺗﻛﻳف ﻓﻲ اﻟﺑﻠدان اﻟﺗﻲ ﻻ ﺗﻌﺗﻣد ﺳﻌر ﺻرف ثابت وبانتهاج ﺳﻳﺎﺳﺔ ﻧﻘدﻳﺔ صارمة ﺣﻳﺛﻣﺎ دﻋت اﻟﺣﺎﺟﺔ لذلك، من أجل درء خطر تسارع وتيرة التضخم، وﺿﻣﺎن ألا تنعكس سياسات الترشيد المالية الحكومية سلباً على عجلة التنمية، قدر اﻹﻣﻛﺎن”، كما جاء في عدد 17 يناير/كانون الثاني من “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادر عن صندوق النقد الدولي. ولكن منذ ذلك التاريخ، فإن استقرارالسوق النفطية قد ولّى ومن المرجح أن يكون الضبط القادم للأسعار أكثر قساوةً، وليس فقط بالنسبة ل “الدول الخمس الأكثر ضعفاً”.

1اتفاق سري عقدته كبرى شركات النفط عام 1928 يقضي بالسيطرة على حقول النفط ونقله وتوزيعه وفقًا لأسعار متفق عليها مسبقًا