“تزهير الصحراء” - كيف اعتمد الاستعمار الصهيوني على زراعة الأشجار؟

في نوفمبر 2016 وقع حريق في الغابات المحيطة بحيفا كان الأكبر في تاريخ إسرائيل. وكما يحدث في أغلب الأحوال كلما اندلع حريق في إحدى الغابات، لمّحت السلطات الإسرائيلية سريعا إلى فرضية العمل الإرهابي. فوصل الأمر إلى أن تحدث الليكود (حزب نتنياهو) عما أسماه “انتفاضة النيران”. وجاء رد فعل محمود عباس بقول: “تستغل الحكومة الإسرائيلية الحريق لاتهام الفلسطينيين [...] إنها أشجارنا وأراضي أجدادنا التي تحترق”. وإذا كانت الغابات الإسرائيلية تشكل بؤرة توتر فهذا يعود إلى أن التشجير لعب دورا خفيا لكن مهمّا في إطار الصراع على الأرض.

زراعة أشجار ناحية عسقلان
أرشيف الحركة الصهيونية، القدس، مصوّر غير معروف، 1950

عن أي غابات نتحدث؟ يصف الكُتاب الأوروبيون الذين زاروا فلسطين في القرنين التاسع عشر والعشرين مناظر طبيعية ذات جمال برّي خلاب. لكن بعضهم ـ ومنهم مارك توين في كتاب الأبرياء في الخارج يتحدث عن طبيعة فقيرة ومناظر شوهاء جرداء، على الأقل، مقارنة بتلك المذكورة في الكتاب المقدس.

في نهاية القرن التاسع عشر كان المشهد الفلسطيني تحت حكم الامبراطورية العثمانية يتكون من قفار وصحراوات. ونتيجة للمناخ الجاف القاحل، ولأهمية النشاط الرعوي في الاقتصاد، وللتشريعات التي فرضتها “السلطنة” ملزمةً الفلاحين بضريبة على كل شجرة، بدت الأراضي قليلة الشجر تلالا “جرداء”، إلا من بعض شجيرات الفاكهة، وخاصة الزيتون. وفي النهاية، أتت الحرب العالمية الأولى على ما تبقى من أشجار، حيث استعملها الجيش العثماني وقودًا للتدفئة أو في مد خطوط السكة الحديدية. غير أن روايات أخرى سجّلت خلال مرحلة الانتداب البريطاني تشير إلى وجود أكثر من مشهد في الصورة. ففي كتاب “أرض الحب والنار” (1927) يقارن الكاتب جوزيف كيسيل بين المشهد العربي والمشهد اليهودي، متحدثا عن شعب يبدو، نوعا ما، خاملا وبائسا مقابل شعب عامل.

بالفعل كان لليهود تصور مختلف عما يجب أن يكون منظر “الأرض المقدسة”. فمنذ ظهور الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا الشرقية استقر وافدون جدد في فلسطين. قامت الجماعة الجديدة بزرع أشجارا في مواقع نظّمتها وأشرفت عليها هيئة خاصة أنشئت في 1901 تسمى بالعبرية “قِرِن قيامة ليسرائيل” أو ما يسمى بالعربية “الصندوق القومي اليهودي”. وكان قد تم إنشاء هذه الهيئة التي يمكن ترجمة اسمها حرفيا من العبرية بـ “مؤسسة قيام إسرائيل” كفرع تنفيذي للحركة الصهيونية في فلسطين تموّله منح التجمعات اليهودية عبر العالم.

رمز ديني

لماذا تبادر مؤسسة كهذه إلى غرس الأشجار؟ للإجابة على هذا السؤال تقدَّم في الغالب حجة دينية ترتبط بالصلة المقدسة بين الشعب اليهودي والشجرة. كما يتعلق الأمر أيضا بتصور خاص للمناظر الطبيعية يرتكز على أساطير توراتية. فالكتاب المقدس يتحدث في وصفه لتلك الأرض عن غابات غنية بحوالي اثني عشر نوعا من الأشجار تم تحديدها اليوم على أنها: الصنوبر والصندل والفستق والبلوط والأرز والطرفاء والسرو والصفصاف والعرعر والحور والطلح. أما على الصعيد الرسمي، فيفسّر الأمر على أنه استصلاح للأراضي المقدسة التي يفترضون أن الشعب الفلسطيني قد تركها للتدهور. هذا هو التصور الذي تبناه تيار “الصهيونية الخضراء” الذي يمثله السياسي هارون دافيد غوردون. دعت “الصهيونية الخضراء” إلى الحياة في تناغم مع أرض إسرائيل، ووضع الصلة الروحانية بالأرض كأولوية تسبق التفكير في بناء سلطة سياسية يهودية، حتى وإن لم يكن ممكنا تجاهل النبرة الوطنية والعسكرية لهذا الخطاب. وتعد غوردونيا، حركة الشباب التي أنشأها الرجل سنة 1925 هي الأم لعدة حركات شبابية، أشهرها حركة “هَنوعر هَعوفد وهَلومد” أي “الشباب العامل والمتعلم” والتي تضمّ مائة ألف شاب ينشطون تحت شعار “للعمل، للدفاع، وللسلام: ورقة الشجرة والمطر”. فمعرفة الأرض ضرورية للصهاينة “الجيدين” حيث تسمح بامتلاكها والدفاع عنها.

في النهاية، يجب الإشارة إلى أن النصوص المقدسة التي تصف الغابات التوراتية لا تفسر توجّه مشروع الصندوق القومي اليهودي للتشجير نحو أنواع معينة من الأشجار مثل الكينا1 أولا ثم الصنوبر. ففي نهاية سنة 1920 كان شجر الكينا يشكل 80% من الأشجار التي زرعها الصندوق القومي اليهودي. أما الصنوبر، الذي لم يذكر في الكتاب المقدس إلا مرة واحدة فقط فيشكل 98% من الشجيرات المغروسة سنة 1936؛ ويمثل الصنوبر اليوم ثلث عدد الأشجار في الغابات الإسرائيلية.

وضع اليد على الأراضي عبر تشجيرها

يندرج زرع الغابات ضمن برنامج تمّ وضعه بشكل منهجي ليضرب عصفورين بحجر: وضع اليد على الأراضي ثم المطالبة بملكيتها. وشروط الملكية يحدّدها قانون العقارات العثماني لسنة 1858 ـ والذي مثل قاعدة لتشريعات الانتداب البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي. وهذه الشروط هي أنه يجب زراعة الأرض ثلاث سنوات متتالية كي تتسنى المطالبة بامتلاكها. وهكذا فإن زراعة الأرض تمكن الصندوق القومي اليهودي من ضمان وضع يده على الأراضي التي يشتريها. وابتداء من سنة 1880 كان شجر الكينا الكمالدولي هو الذي استعمل في المزارع الأولى في الأراضي الرطبة التي باعها مُلاكها العرب بأثمان زهيدة. وهو شجر يسمح بتجفيف وامتصاص المستنقعات الواقعة في المناطق الساحلية كما هو الحال مثلا بمنطقة الخضيرة. ونتيجة لنموه السريع وقدرته الكبيرة على التكيف مع التربة أصبح استعماله عاما ومرتبطا بصفة وطيدة بالجهود الصهيونية الأولى. ويطلق الفلسطينيون عليه أحيانا اسم “شجرة اليهود”.

انطلق أول مشروع كبير للصندوق القومي اليهودي سنة 1908 بعد شراء 220 هكتارا بالقرب من قرية “اللد” العربية. وتقرر أن يقام حقل زيتون عليها تكريما لتيودور هرتزل مؤسس الصهيونية. قام بزراعة الحقل عمال عرب يعيشون في المنطقة كونهم يشكلون يدا عاملة رخيصة. غير أن ذلك أثار غضب الطائفة اليهودية التي أصرت على أهمية توظيف “اليد العاملة اليهودية” في أرض يعتبرونها أرضهم، فتم نزع شجيرات الزيتون الصغيرة. ولأنهم كانوا يريدون أن تكون غابة هرتزل متوافقة مع تصوّراتهم الخاصة، ولأنهم يعتبرون أن الزيتون شجر فلسطيني، قام العمال اليهود بزرع الصنوبر بدلا منه وهو شجر قليل التكلفة، عالي المقاومة.

وهكذا انطلقت على الأرض حرب الشجرة اليهودية ضد الشجرة العربية. فها هو ايلي ملش زوغورودسكي، كبير المهندسين الزراعيين لدى الصندوق القومي اليهودي، يعلق على زراعته 200 هكتار، سنة 1914، بالقرب من كفر داليب على حافة الطريق الرابط بين الساحل وبين مدينة القدس: “لقد اخترت مكانا في معرض أنظار كافة المارة، لكي يرى الجيران والمسافرون العابرون أن اليهود يطالبون بأرضهم”. وهكذا انتظمت الأشجار في “ميليشيا” تضمن لليهود حضورا راسخا على الأرض يسمح لهم بالمطالبة بتملكها.

مدّ جذور شعب باقتلاع جذور آخر

بعد الحرب العالمية الأولى تكثف مشروع التشجير. فالبريطانيون الذين كانوا رسميا مع إنشاء موطن لليهود في فلسطين منذ تصريح بلفور في سنة 1917، دعموا مشاريع مزارع الصندوق القومي اليهودي. كما أوصوا بزرع الأشجار قصد محاربة انجراف التربة، ولتثبيت الكثبان الرملية ومساعدة التسلل الهيدرولوجي، وأيضا للاستجابة للطلب على الخشب الذي كان يحتاجه اقتصادهم المزدهر. وهكذا تكاثفت جهود البريطانيين واليهود في عملية التشجير. فقام الصندوق القومي اليهودي، وبصفة منهجية، بإنشاء مشاتل ومزارع بالاعتماد على الهِبات القادمة من الشتات. وفي تقرير كتبه جوزيف وايتز، مدير الصندوق القومي اليهودي، سنة 1923 قدّر تكلفة التشجير بالهكتار محدّدا تكلفة ما سمّاه عدة مرات “الاستيطان”.

وقد تركزت جهود التشجير في الخليل وعلى السهول الساحلية وفي مدن تتمتع بقيمة رمزية مثل القدس حيث زرعت أشجار في الأحياء الجديدة وحول المصالح العمومية وفي المواقع الدينية والتاريخية. هكذا، وعبر بدء التشجير بمواقع مركزية، ثم تمدّد هذه المواقع وتقاربها بما يضع رُقَعا متواصلة تحت سيطرة يهودية، تم توظيف هذه العملية ضمن استراتيجية التوسع في تملّك الأراضي. فبعد حرب 1948 أصبحت هذه الأراضي المشجرة بصفة حتمية تحت الحكم الإسرائيلي.

وفي أعقاب إنشاء دولة إسرائيل قُدم التشجير كأحد ركائز الأمة الجديدة. ففي خطاب افتتاحي للكنيست الثاني سنة 1951، طلب دافيد بن غوريون (رئيس الحكومة آنذاك) من الشعب أن يتحد من أجل “تزهير الصحراء” معلنا حملة دعائية حقيقية تقوم على مشاريع المزارع. قال بن غوريون: “علينا أن نزرع مئات الآلاف من الأشجار على مساحة 5 ملايين دونم أي ربع مساحة الدولة. علينا أن نغطي بالغابات كل جبال البلاد ومنحدراتها وكل الهضاب والأراضي الصخرية غير المناسبة للزراعة وكثبان الساحل والأراضي الجرداء بالنقب [...] ليس هذا إلا بداية إصلاح للمهانة التي تعرضت لها الأجيال والمهانة التي تعرض لها الوطن والمهانة التي تعرضت لها الأرض. علينا أن نجند لذلك كل القوة المهنية للبلاد.” بالنسبة لبن غوريون يتمتع مشروع التشجير بميزة مضاعفة. فهو يخلق العديد من فرص العمل ويخلق رباطا بين الوافد الجديد وبين الأرض. وحسب رأيه فإن “زرع الأشجار هو الطريقة الوحيدة لمساعدة اليهود على تنمية علاقة وجدانية قوية مع الأرض”. هكذا يلعب التشجير دورا كبيرا في عملية تصنيع هوية وطنية وخلق إحساس بالانتماء. فهو وسيلة من ينضمّ إلى حقول الزراعة أن يكتسب مكانة “السكان الأصليين” عبر المساهمة في بناء البلاد وترك بصمته على الأرض. وقد استمر اللجوء إلى هذا النوع من الدعاية حتى نهاية القرن العشرين (مثلما حدث عندما وجّهت دعوات لتشجيع هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي السابق نحو إسرائيل). في النهاية، فإن ما يصفه بن غوريون في خطابه هو تغيير جذري فعلي في صورة الأرض.

“غابات أوروبية من أجل”منظر يهودي

منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية قام الصندوق القومي اليهودي بزرع 223 مليون شجرة، ربعها في السنوات العشر الأولى. وهي بصفة أساسية أشجار دائمة الاخضرار لم تكن من الأنواع المنتشرة في فلسطين من قبل. فالعمال وأغلب مهندسي الغابات لدى الهيئة قادمون من أوروبا الشرقية، وتصورهم عن الغابات وشكلها واستعمالاتها موروث من خبراتهم السابقة. وبالتالي كانت الغابات الصنوبرية التي أقامها الصندوق القومي اليهودي أشبه بغابات شمال أوروبا.

بإحلال أنفسهم في فلسطين قام اليهود بفرض نظرة خاصة بهم عن المناظر الطبيعية. فبناء الدولة يرتكز في آخر المطاف على خلق مشهد “يهودي” لا ينفّر الوافدين الجدد. وهكذا غطت غابات كبيرة تدريجيا التلال القاحلة. وقد تم تدشين “يعر هاقدوشيم” أي غابة الشهداء سنة 1951، حيث زرعت 6 ملايين شجرة تخليدا لذكرى ضحايا إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. فالهوية القومية اليهودية تأسست حول الشجرة. وتجذير شعب بهذه الصورة يتطلب أيضا اقتلاع جذور شعب آخر ومحو مناظره. ففضلا عن سلب الأراضي والإفقار أضيف عنصر تغيير منظر الأرض الذي اقتَلع جزءا من هوية الفلسطينيين.

ويُذكّر مشروع التشجير للصندوق القومي اليهودي بتاريخ آخر. فقد كتب فرانسوا تروتيي، مدير رابطة التشجير بالجزائر، سنة 1869 في كتاب “تشجير الصحراء والاستيطان” : “إن الاستيطان في الداخل لن يكون ممكنا إلا بعد زراعة الأشجار”. فمن الجزائر المسماة أيضا “بلاد العطش” جاءت نصوص رحلات تحمل خطابا يتهم السكان الأصليين بالإهمال في إدارة أراضيهم. وقد استعمل هذا الخطاب لإضفاء شرعية على التدخل الاستعماري وتحويل واستغلال الأراضي المحتلة. وتُبرز الدراسة التي أجرتها ديانا ك. ديفيس في كتابها “الأساطير البيئية للاحتلال الفرنسي للمنطقة المغاربية”2 أن رابطة التشجير في تلك الأحيان هي التي كانت وراء إصدار قانون جديد للغابات كان ينص على تقييد الرعي، أو حتى منعه عندما يعتبر “مفرطا”، ويشجع على إعادة التشجير عبر تجنيد الأهالي في مشاريعه الزراعية. ثم جاء قانون الغابات الشامل لسنة 1903 ليسمح بنزع الملكية بهدف إعادة تشجير أراضٍ اعتبرت ذات منفعة عامة. وعند نهاية المرحلة الاستعمارية وبالرغم من هذه الآلة التشريعية لم تكن سوى نسبة ضئيلة من الأراضي هي التي تم تشجيرها فعلا.

ووفقا لديانا ك. ديفيس فإن إقامة مساحات يمنع فيها الرعي أو الحرق كان هدفها الحد من الممارسات الزراعية التقليدية. وعلى المدى البعيد تثبيت السكان الرحل. فالغزو والسيطرة على الأرض وطرد السكان الأصليين والدعم القادم من عاصمة فرنسا القوية كانت في الأخير هي المكونات المرتبطة بإقامة المستوطنين، ليكون التشجير سلاحا في خدمة الاستعمار.

ترجم هذه المقال عن الفرنسية حميد العربي

1الكافور في مصر أو قلم طوز في العراق أو الكاليتوس والكاليبتوس في المغرب العربي

2Diana K. DAVIS, Les mythes environnementaux de la colonisation française au Maghreb, Éditions Champ Vallon, Paris, 2012, 332 p