إيران: انتفاضة الفقراء تهزّ النظام

عودة إلى مظاهرات ديسمبر-يناير · ربما نجحت السلطات الإيرانية في تحجيم الغضب الاجتماعي الذي هزّ البلاد في كانون الأول/ديسمبر - كانون الثاني/يناير، إلا أن أعمال الشغب أظهرت درجة ارتباك النظام. وهو ما عاد ليتأكد من جديد عبر العصيان المدني لنساء تظاهرن بخلع الحجاب تعبيرا عن رفضهن لارتدائه قسرا.

مظاهرة في مدينة مشهد

«إنّ الفساد وعدم النجاعة الاقتصادية لحكومة الولي الفقيه، مترافقين مع قمع الحريات المدنية والسياسية الشرعيّة قد أنهكوا الشعب وأثاروا المظاهرات الأهمّ في سنوات ما بعد الثورة .»

في هذا التصريح، يحمّل أبو الفضل قدياني، وهو شخصية شجاعة ومعروفة من اليسار الإسلامي وسجين سياسي سابق في ظلّ نظام الشاه وفي ظلّ الجمهوريّة الإسلاميّة، المرشد علي خامنئي مسؤولية الاضطرابات التي هزّت البلاد لعشرة أيام (نهاية كانون الأول/ديسمبر 2017- بداية كانون الثاني/يناير 2018). مؤقتاً، أنهى تدخل قوّات القمع مع انتشار حرس الثورة الاضطرابات التي شارك فيها آلاف المتظاهرين الغاضبين المنحدرين من الطبقات الشعبيّة والتي هزّت أكثر من 70 مدينة. 25 قتيلاً، وما بين أربعة آلاف وسبعة آلاف موقوف (حسب التقديرات)، هي حصيلة أيام الغضب هذه، إضافة إلى ثلاثة متظاهرين توفّوا في السجن في ظروف مريبة.

أنصار النظام الإسلامي، بمن فيهم المرشد الذي كان هدفاً مفضلاً للمتظاهرين (إذ ترددت شعارات «الموت لخامنئي» و«ليسقط الديكتاتور» في جميع المظاهرات) والرئيس «المعتدل» حسن روحاني، هنؤوا أنفسهم بالسيطرة على «مثيري الشغب» الذين وصفوهم بالأقليّة المختَرَقة من قبل معارضين للنظام في الخارج ومن قبل الولايات المتحدة والعربية السعودية وإسرائيل. رغم أنّ الرئيس روحاني كان قد أقرّ في كلمته، بعد يومين من اندلاع المظاهرات، بشرعيّة المطالب الشعبيّة التي لا تقتصر حسب رأيه على المطالبات ذات البعد الاقتصادي ولكنها تشمل أيضاً البعدين الاجتماعي والسياسي. إلّا أنّ الرئيس تراجع مرّة أخرى أمام إملاءات المرشد علي خامنئي الذي حاول تحميل مسؤوليّة الصراعات الاجتماعيّة للأجانب وذلك بوصفه المتظاهرين بالمخربين العاملين لصالح قوى خارجية.

شعور عميق بغياب العدالة

دون إنكار محاولات أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أو معارضي النظام في الخارج للاستفادة من هذا الموقف، فإنّ هذه الانتفاضة العفويّة التي شارك فيها عدد من النساء، تُعبّر عن مطلب الطبقات الشعبيّة والمتوسطة السفلى بالتغيير سواء للهياكل الاقتصادية أو الاجتماعية والسياسية للبلاد. فهذه الشرائح من الشعب التي تعرّضت بشدّة للبطالة والهشاشة والبؤس وعانت جراء انعدام أفق للمستقبل، يسكنها أيضاً إحساس عميق بالظلم مرتبط بالفساد ونهب الثروات الوطنيّة من قبل أقليّة في السلطة وقريبة من دوائر الحكم.

محمد مالجو، وهو اقتصادي إيراني كان قد تنبأ بإمكانيّة حصول انتفاضة خبز من قبل سكان المدن ذوي الوضع الهشّ (فاقدي الملجأ، النازحين من الأرياف، العاطلين عن العمل، العمّال اليوميين، الباعة الجوّالين)، يصف المظاهرات الأخيرة بأنّها انتفاضة طبقة اجتماعية وبأنّها الوحيدة منذ الثورة . إذ تتميز هذه الانتفاضة بطبيعة مختلفة عن الحركة الخضراء في عام 2009. فالأخيرة كانت ذات طبيعة سياسية، لها هيكلية، وجسدتها الطبقات الوسطى في المُدُن، كما أنّها ظهرت في المجالات المُهيكلة من الفضاء الاجتماعي، وكان على رأسها قادة ينحدرون من النظام (هم إلى الآن تحت الإقامة الجبريّة). الفاعلون في الحركة الخضراء كانوا يحوزون على رأس مال اجتماعي وسياسي، وكانوا يرفضون العنف ويطمحون إلى تحوّلات سلميّة ويسعون إلى إرساء أسس ديموقراطيّة في محاولة لتغيير النظام من الداخل عن طريق الانتخابات والمشاركة في فضاء سياسي مؤسساتي. إنّ وجود طيف واسع من الاتجاهات داخل النظام الإسلامي، وذلك منذ الثورة، بأيديولوجيات ومصالح مختلفة وحتى متباعدة، كان يُنبئ بإمكانيّة التداول السياسي وإضفاء طابع ديموقراطي على النظام. على العكس، ليس لمتظاهري 2018 ما يخسرونه، وهم يلقون باللوم على جميع مؤسسات ومسؤولي النظام، إصلاحيين ومحافظين.

اتخاذ غالبيّة الشخصيات الإصلاحيّة، وعلى رأسها محمد خاتمي، موقفاً ضدّ المتظاهرين، مترافقاً مع خيبة الأمل الكبيرة لدى الناخبين والناخبات الذين أعادوا انتخاب حسن روحاني في عام 2017 آملين في انفتاح البلاد سياسياً واقتصادياً، أغلق الباب أمام حدوث تطوّر تدريجي. ومن الممكن أن نشهد تعميماً للمطالب من أجل عدالة اجتماعيّة، وتوزيع أفضل للثروة الوطنية، وحدّ من النفوذ الاقتصادي والمالي والسياسي للهياكل الاحتكاريّة (المرتبطة بالمرشد وبالمؤسسات الدينيّة والمؤسسين أو حرس الثورة) ومن أجل الشفافية، وحماية البيئة، واحترام الحريات الفرديّة والجماعيّة، والفصل بين الدين والدولة، أو حتّى من أجل تنظيم استفتاء لتحديد طبيعة النظام الذي تريده غالبيّة الناخبين الذين يبدو أنّهم يرفضون الإسلام السياسي ويطالبون بجمهوريّة إيرانيّة وليس إسلاميّة.

أرستقراطية دينية قصيرة النظر

إنّ قصر النظر لدى الأرستقراطيّة الدينيّة التي ترفض الإقرار بوجود مشاكل اجتماعيّة وسياسية تتسبب بالاستياء الشعبي، لن يُنتج إلا تجذّر الخطابات والمطالبات والأعمال التي تجعل المجتمع مُستقطَباً بين أقليّة مرتبطة بدوائر الحكم اغتنت منذ الثورة وأغلبيّة لم تستفد من توزيع الثروة النفطية. ويمكن للتوترات المتفاقمة أن تقود إلى اختلال استقرار البلاد، وذلك في ظل سياق إقليمي ودولي أقامت فيه الولايات المتّحدة بقيادة ترامب وإسرائيل بقيادة نتنياهو والعربيّة السعوديّة بقيادة الأمير محمد بن سلمان تحالفاً ضدّ إيران.

وعلى عكس المحافظين المجمعين على إدانة المتظاهرين، أثارت الاضطرابات خلافات بين الإصلاحيين: أغلبيّة توصف بالمعتدلة اصطفت مع السلطة، وأقليّة نأت بنفسها عنها. ينتمي محمد تقي فاضل ميبدي، وهو أستاذ في المدرسة الدينيّة بقم، إلى هذه الأقليّة. فبعدما انتقد بحزم كاظم صادقي، إمام صلاة الجمعة المؤقت في طهران لوصفه المتظاهرين بالـ«قمامة»، قال ميبدي:

«أعتقد أنّ رجال الدين لا يعرفون الشعب حقيقةً ولا يفهمون مشاكله وأوجاعه. لو كان إمام صلاة الجمعة يعيش تحت خط الفقر لما كان ليتحدّث بنفس الطريقة. هذه المجموعة تتمتّع بمستوى عيش مريح جدّاً ولا ترزح تحت الضغوطات الاقتصاديّة، وهي تجهل الحياة الصعبة التي يعيشها أولئك الذين ينزلون إلى الشارع ليصرخوا بأوجاعهم». كما انتقد الزيادة المهمة في موازنة المدارس والمؤسسات الدينيّة ضمن الموازنة الجديدة للحكومة، وذلك في حين أنّ الموازنة المخصصة لتنمية البلاد قد انخفضت، ما ساهم، وفقاً إليه، في الاستياء.»

ويشرح أبو الفضل قدياني، ، ما يلي:

«من الواضح والجليّ، ورغم أنّ حاملي راية الإصلاحات يتفادون التحدث عنه، أنّ المذنب الرئيسي هو علي خامنئي. فالمؤسسات التي يتحكم فيها هذا الأخير تمتلك 60% من الاقتصاد الإيراني وتواصل نهب الثروة الوطنيّة والأملاك العامة دون محاسبة. ليحافظ على حصانته، قام بوضع الجهاز القضائي الأكثر فساداً واستكانة في تاريخ البلاد الحديث. وليحافظ على سطوته الديكتاتوريّة سحق الطبقة المنتجة في الاقتصاد ودفع الشباب المتعلّم نحو مغادرة البلاد. كما أنّ تعطّشه غير المحدود للسلطة جعل الاستقرار السياسي في البلاد أمراً مستحيلاً وجفّف منابع الاستثمار المنتِج. ورغم معارضة الشعب، فإنّه يقوم بصرف ثروة هذه الأمّة المحرومة في سوريا وغيرها من أجل الإبقاء على الديكتاتوريات الفاسدة. إنّ هذه الحصيلة الكارثيّة السوداء وهذا الحب غير المحدود للسلطة لم يتركا للشعب أي أمل في تغيّر تصرّفات وأفعال هذا الشخص. للشعب حقّ مقدّس في أن يعارض ديكتاتوريّة هذا الشخص ويطالب بحقوقه المهدورة كما ينص على ذلك الفصل 27 من الدستور. إنّ هذه المطالبات شرعيّة وإذا ما تحوّلت هذه المظاهرات إلى العنف فإنّ ذلك عائد إلى عدم احترام حقّ التظاهر من قبل القائمين على الحكم […] .»

عقوبات خانقة وفساد مستشرِ

غالباً ما يتّهم أنصار النظام الإسلامي العقوبات الدوليّة بكونها سبب جميع مشاكل الاقتصاد. وهي قد أُقرّت ضدّ إيران في كانون الأوّل/ديسمبر 2006 بسبب عدم شفافيّة برنامجها النووي ولم تُرفع إلاّ في كانون الثاني/يناير 2016 بعد الاتفاق النووي الذي أُبرم في تموز/يوليو 2015، وساهمت فعلاً في إضعاف اقتصاد البلاد. يضاف إلى ذلك الإبقاء على العقوبات الأممية التي تواصل التأثير بشدّة على المعاملات المصرفية والاستثمارات الخارجية، لاسيما الأوروبيّة، في إيران. وقد راهن روحاني كثيراً على هذه الاستثمارات التي كان يُفترض أن تأتي بتكنولوجيا حديثة وتخلق مئات آلاف فرص العمل للشباب العاطل عن العمل والحامل للشهادات. ولكن بصرف النظر عن عدائية الولايات المتحدة ونقص الدعم من أوروبا، فإنّ الاقتصاد يعاني من قطاع عام غير ناجع ومن هياكل احتكاريّة تتحكم في قطاعات كاملة من الاقتصاد مانعةً بذلك ظهور قطاع خاص حقيقي من شأنه جذب رؤوس الأموال الإيرانيّة والأجنبيّة.

في السنوات الأخيرة، قام حرس الثورة وميليشيات الباسيج وأيضاً الجيش النظامي ووزارة الدفاع الذين يستفيدون من الثروة النفطية، بتوسيع مؤسساتهم المالية والاقتصادية التي غالباً ما لا يكون لها علاقة بالنشاط العسكري، مقيمين بذلك دولة داخل الدولة. وتحصل هذه الهياكل، لاسيما مؤسسة حرس الثورة (خاتم الأنبياء)، من الحكومة، ودون أي عروض، على مناقصات مغرية في قطاعات الطاقة والاتصالات وشبكات الطرقات، وأيضاً على ورش الصناعة البحرية وبناء السدود. لم ينجح الرؤساء المتعاقبون في الحدّ من نطاق نشاط حرس الثورة. ووفقاً للرئيس الشعبوي السابق أحمدي نجاد، فإنّ «هؤلاء الإخوة المهربون» قد استفادوا من العقوبات الدولية لتوريد بضائع بصفة غير قانونيّة. فيما انتقد روحاني سيطرة الحرس مصرّحا في حزيران/يونيو الماضي، بأنّ «جزءًا من الاقتصاد كان بيد دولة دون بندقية، وقد نُقل إلى دولة لديها بندقية».

إنّ المظاهرات العفويّة التي قام بها الشباب المنحدر من الطبقات الشعبيّة، التي يُفترض أنّها من دعائم النظام، ضدّ جميع هياكل السلطة (سياسية، اقتصادية، ثقافية وإيديولوجية) قد خلّفت الخشية من انتفاضة الطبقات المحرومة ضد نظام لم يعد فيه من ثوريّ ولا شعبيّ سوى الخطاب. وعوضاً عن الانفتاح السياسي الذي قد تكون له تداعيات خارجة عن السيطرة (أعلن صادق لاريجاني، رئيس السلطة القضائيّة القريب من المرشد في 22 كانون الثاني/يناير أنّ ثمن التظاهر ضد النظام سيكون مرتفعاً) ، اختار المرشد شبه انفتاح اقتصادي. وأمر في نفس اليوم بتحقيق حول إمكانية الحد من النشاطات الاقتصادية لقوى الإكراه والتي لا تكون مرتبطة بالأنشطة العسكرية والدفاعية. قد يتمكن هذا التعهد من جذب الاستثمارات الأوروبية إلى إيران لكنّه لن يهدّئ الطبقات الشعبيّة وهؤلاء المتظاهرين الهامشيين الذين ليس لديهم ما يخسرونه والذين تحركوا للمرة الأولى على طريقتهم بمنأى عن النخبة الإصلاحية أو الطبقة المتوسطة المتعلّمة، مشكّلين بذلك مجالاً سياسياً مستقلاً.