تركيا: سياسة خارجية تفتقد إلى الاتّساق

في السنوات الأخيرة اتسمت السياسة الخارجية التركية بالتحولات والتقلبات في علاقة أنقرة بحلفائها. يطلق البعض على هذا السياسة “العثمانية الجديدة”، وهو مفهوم يخلو من أي اتّساق قد يساعد في فهم الاستراتيجيات التركية القائمة.

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والرئيس السنغالي ماكي سال - داكار، 1 مارس 2018.
mfa.gov.tr

منذ الاستفتاء على الدستور في 2010 وبداية حرب الأشقاء بين رجل النظام القوي، رجب طيب أردوغان، وحركة غولن في 2013، غلبت سمة عدم الاكتراث على السياسة الداخلية التركية، وأدت إلى خطاب سياسي في قمة البرغماتية الميكافيلية. ما ينطبق على السياسية الخارجية أيضاً. حيث بلغ شططها وتقلبات الأوضاع والتحالفات فيها سرعة مدوّخة. لكن، إن كان قد تم الترويج بنجاح لغياب الخط السياسي داخلياً على كونه واقعية ـ دون التخلي عن خطاب الضحية ـ فإن عقلنة الإخفاقات الدبلوماسية الذريعة تبدو أكثر صعوبة.

تفاوت بين الطموح والإمكانات

على إثر الحركات الاحتجاجية في الشرق الأوسط التي بدأت عام 2011، أخذ حلم قيادة المنطقة يداعب أنقرة، فلوحت بورقة السنية السياسية لتقيم في كل مكان أنظمة قريبة من حركة الإخوان المسلمين. لذا كان على الدبلوماسية التركية القيام بانتقال مؤلم: وهو التخلي عن السياسية التقليدية الداعمة للغرب وتبني خطاب مضاد للغرب ومعادي للسامية وإسلامي في آن واحد. لقد تبينت استحالة تحقيق هذا الحلم لجهل الدبلوماسية التركية بالمنطقة، وفوق ذلك، للتفاوت الهائل بين طموحات تركيا وإمكانياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والمالية.

لقد سمح الإسلام السياسي التركي بالتوفيق بين الدين والقيم الليبرالية، حين كان الغرب يبحث عن حلفاء محتملين، بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكسر الثنائية الشكلية لـ“صراع الحضارات” التي تقدم العالم الإسلامي كعدو للعالم الغربي. ابتعدت الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية شيئاً فشيئاً عن هذا وعد السلام الشامل المخلص هذا، فسلكت نهجاً نزاعياً خلافياً، وذلك لأسباب انتخابية أولاً ـ حيث أن الخطاب العدواني أنجع في تركيا من الخطاب السلمي ـ ولأسباب أيديولوجية، غايتها إسلام سياسي بقيادة تركيا. وهكذا، بعد أن تبنت تركيا عن طيب خاطر مبادئ الديمقراطيات الليبيرالية الغربية من 2002 حتى 2010 تقريباً. بدأ العقد الجديد بتحول مدهش، سببه الأساسي هو استلام أحمد داوود أوغلو لوزارة الخارجية، الذي أثار جدلاً كبيراً. ثم اندلعت الحركات الاحتجاجية في الشرق الأوسط لتبعد السياسات الخارجية التركية عن المحور الأوروبي بشكل حتمي ونهائي. فلم تحكم تحركاتها سياسة متسقة تجاه منطقة أو أخرى، بل الضياع والتقلّبات المستمرة وفق ما تفرضه تحالفات إقليمية وعالمية.

وعلى هذا النحو، تقربت تركيا من روسيا بهدف الانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون،1 ثم اعتبرتها عدواً، حين أصبحت الأخيرة بعد بضعة أشهر الحليفة الأساسية للنظام السوري، ومن ثم أصبحت من جديد خصماً إقليمياً. ويمكن ملاحظة مسارات مشابهة عند النظر إلى علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيران وإسرائيل.

خلف هذه التقلبات، يتجلى بوضوح غياب العمق النظري والتجريبي للعثمانية الجديدة. فهذه الإيديولوجية الحديثة منسوجة من التناقضات، لأنها تستخدم خطاب الضحية والمراجعة التاريخية في آن واحد. إن الإفراط في تتريك والإفراط في أسلمة التاريخ العثماني لتحفيز شعب مر بانكسارات هوياتية عويصة، أوجبا على النظام القائم إعلان كامل منطقة الشرق الأوسط، وإن تعذر فسوريا على الأقل، منطقة داخلية مستحقة وشرعية. لقد كان في البداية الحليف الرئيسي لنظام بشار الأسد قبل أن يعده العدو الذي يجب القضاء عليه. ولتحقيق هذا، دعم بشكل مباشر أو غير مباشر تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية المتقارب معه أولاً في الهوية السنية في وجه دمشق ذات المذهب العلوي ـ وبالتالي الهرطقي ـ والذي تجمعه به ثانياً مصالح مالية مشتركة، خاصة فيما يتعلق بإرسال النفط من المنطقة.

ومن ثم، ما إن أصبح تنظيم الدولة الإسلامية شبحاً خارجاً عن سيطرة الغرب الفزِع ـ وسيطرة تركيا ـ كان على أنقرة تغيير موقفها ومساعدة التحالف على إضعاف التنظيم (بالقدر اللازم فحسب). إلا أن نهاية سيطرة التنظيم في المنطقة عنى احتمال تشكيل منطقة حدودية تحت سيطرة الأكراد. لذا كان على أنقرة تغيير هدفها من جديد، والتدخل عسكرياً في عفرين، في شمال غرب سوريا، لتمنع الاندماج بين عفرين وكوباني، وهي مأوى آخر للأكراد في الشمال الشرقي، لتدرأ بهذا مخاطرة كبرى، أي المواجهة المباشرة مع الجيش الأمريكي الموجود بشكل رئيسي في منبج (التي تقع بين المدينتين). في الوقت الحالي، تهدد السياسة التركية الخارجية المتذبذبة حالياً بزيادة خلخلة الاستقرار في المنطقة. ولكن بالمقابل، أثبت هذا الخطاب الداعي إلى الحرب نجاعته في داخل تركيا، التي تهب فيها ريح قومية متطرفة دفعت حزب العدالة والتنمية إلى التحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، على الأقل إلى حين الانتخابات الرئاسية في 2019.

يبقى الاتحاد الأوروبي الغائب الأكبر في هذه المعادلات المتحركة. بعد أن عوّقته الأزمات الهيكلية (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي) والسياسية (التصاعد السريع للشعبوية)، أصبح رهينة النظام التركي الذي يهدده ب“إفلات” النازحين السوريين الموجودين في أراضيه والذين يفوق عددهم الثلاثة مليون، بالإضافة إلى الجهاديين الذين قد يعرضوا المدن الأوروبية للخطر. ابتزاز مجحف نجح وسينجح دوماُ. فلا الاتحاد الأوروبي ولا المجلس الأوروبي الذي يضم تركيا منذ عام 1949 يجرؤان على تحريك إصبع فيما يخص السياسة الخارجية التركية أو الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان داخل تركيا.

فشل في آسيا الوسطى

إن دخول هذا الجحيم والبرود في العلاقات مع الغرب بشكل عام (خاصة مع الولايات المتحدة وألمانيا وكافة الاتحاد الأوربي، وإنما أيضاً، وبالتالي، مع المجلس الأوروبي) دفعت القصر الأبيض إلى البحث عن حلفاء جدد.2 من المحتمل أن تكون روسيا واحداً منهم، ولكن العلاقات مع هذه القوى العظمى متأرجحة ويعوزها الاستقرار الضروري لاعتبارها شريكاً مستديماً. أما آسيا الوسطى، التي يرتبط بها القوميون الأتراك بعلاقة تخيلية ناجمة عن تقارب هوياتي مفترض، فقد اندفعت منذ زمن طويل إلى أحضان روسيا، رافضة نزعة “الأخ الأكبر” التي عبرت عنها تركيا بغرور وتعالٍ.

تبقى إذن المناطق التي أهملها هذا الغرب المذموم مراراً وتكراراً في أروقة أنقرة وأعمدة الصحف التركية وجوامع الأناضول. على سبيل المثال، تقوم الدبلوماسية التركية بتسخير مشاعر الضغينة التي تحملها أفريقيا تجاه الغرب، لكونها ما تزال تراه مستعمراً. ما تجلَّى واضحاً خلال جولة طيب رجب أردوغان الأخيرة في أفريقيا، التي زار فيها الرئيس التركي الجزائر وموريتانيا والسنغال ومالي، في رحلة استغرقت أربعة أيام (من 26 شباط/فبراير إلى 2 آذار/ مارس).3

ومن هذا غرضان: أولهما نسج علاقات هوياتية عبر التشديد على مدى استغلال أفريقيا من قبل أوروبا (وليس من قبل الأتراك، متجاهلاً بذلك ذكر الحقبة التي سيطر فيها العثمانيون على سواحل البحر الأبيض المتوسط) لا لتزجية العلاقات التجارية فحسب، بل لجذب دعم البلدان الأفريقية في مجلس الأمم المتحدة أيضاً، حيث تدعو تركيا إلى تغيير في نظام مجلس الأمن.4

أما الغرض الثاني فيبدو أقل نبلاً: الاستمرار في تفكيك شبكة أتباع حركة غولن، التي تعتمد على مدارس ورجال أعمال. فبعد أن كانوا الأداة الرئيسية لحزب العدالة والتنمية طيلة العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أضحوا العدو الأول الذي يجب القضاء عليه منذ بداية حرب الأشقاء بين الحزب وحركة فتح الله غولن في بداية العقد التالي. تقلّبٌ، هنا أيضاً.

1منظمة شنغهاي للتعاون هي منظمة دولية إقليمية آسيوية، أسست في شنغهاي في 14 و15 حزيران/يونيو 2011. تضم روسيا والصين وكازخستان وقيرغيزتان وطاجيكستان وأوزباكستان، بالإضافة إلى الهند وباكستان مؤخراً. وهي تبني شيئاً فشيئاً تعاوناً اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، مكونة شكلاً من التقارب الجيوسياسي. وتركياً “شريك حوار” في هذه المنظمة، ولكنها ليست عضواً فيها.

2القصر الهائل الذي أمر الرئيس اردوغان ببنائه في أنقرة، أطلق عليه اسم “أكسراي” في إشارة مزدوجة، بداية إلى اسم الحزب الملقب من قبل مؤيديه ب“أك بارتي” أي الحزب الأبيض (وليس أكابي، الاسم الذي ينتقده أردوغان)، وثانياً إلى الاسم الذي يطلقه الأتراك على البيت الأبيض “بياز سراي” حيث أن بياز و أك مفردتان مترادفتان.

3استخدم أردوغان هذا الموضوع منذ 2017، خاصة في تنزانيا، حين صرح :“قولوا لي، بحق الله، ألم تفسد أفريقيا هذه لسنوات وسنوات؟”

4يشدد أردوغان على أن هناك 196 بلداً ممثلاً في الأمم المتحدة، ولكن خمسة بلدان فقط تقرر مصير العالم وكلها مسيحية ( تصريح أدلى به عام 2016 خلال اجتماع بلديات الأحياء) معتبراً، بالتالي، الصين بلداً مسيحياً.