تركيا والولايات المتحدة الأميركية : حلف ثابت رغم الاختلافات

قرار الرئيس ترامب الأخير بالسماح لتركيا بفترة ستة أشهر دون تطبيق العقوبات على إيران يدل على تحسن العلاقات بين واشنطن وأنقرة. ما زالت هذه العلاقات متينة بالرغم من تأرجحها، فهي تتخطى الخلافات بارتكازها الى مصالح يدركها تماماً كلا البلدين

الثاني من أكتوبر 2017- دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان في الأمم المتحدة
Shealah Craighead/البيت الأبيض

أثبتت الأسابيع الأخيرة، مجدداً، أنّ العلاقات التركية الأميركية لا تتبع سيراً هادئاً. فقد تداخلت عملياً عدّة ملفات، وتسببت بتوترات شديدة، لكن دون أن يذهب أي من الطرفين بعيداً ويقرر القطيعة. بدايةً، لنأخذ حالة القس أندرو برونسون. أوقِف هذا الكنسي الإنجيلي في تركيا، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2016، بذريعة التواطؤ مع حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن، الموصوفتين من قبل السلطات التركية بأنهما منظمتان إرهابيتان. هذا النوع من الإتهامات الواهية والتي لا تكتسي أي معنى سياسي، هي للأسف شائعة حالياً في تركيا، لاسيما عقب محاولة تموز/يوليو 2016 الانقلابية. بصورة تدريجية، رفعت مسألة برونسون مستوى التوتر بين واشنطن وأنقرة، خاصةً بعد رفض القضاء التركي منحه حرية التحرّك في شهر تموز/يوليو 2018. أندرو برونسون، وهو ضحية مفاوضات تتجاوزه ربما، وموضع مساومات عدة، تحوّل إلى أحد رموز العلاقات المتدهورة بين الدولتين. من جهته، وظّف دونالد ترامب الخلاف بوضوح لغايات سياسية داخلية في ظل اقتراب الإنتخابات النصفية. نحن نعرف، في الواقع، أهمية التيارات الإنجيلية بين ناخبيه، وهي أهميّة مضاعفة في هذه الحالة لأنّ مايك بنس عضو في الأبرشية الإنجيلية نفسها التي ينتمي إليها القس برونسون. تصاعَدَ الخلاف بشدة حين قررت إدارة ترامب، من باب الإنتقام، مضاعفة الضرائب على واردات الفولاذ والألمنيوم التركية، رافعة إياها تباعاً إلى نسبتي 50% و20%.

اقتصاد شديد التبعية للدولار

هذا القرار بلور الاضطرابات الإقتصادية التي تعاني منها تركيا منذ عدة أشهر، والتي لم تنفجر فجأةً. حقق الاقتصاد التركي نسبة نمو مبهرة ــ 7.2% في 2017 ــ لكنه يشهد مع ذلك صعوبات بنيوية. إذ تصل توقعات النمو راهناً إلى 3.8% في 2018 و3% في 2019، وقد فقدت العملة التركية 40% من قيمتها أمام الدولار الأميركي منذ كانون الثاني/يناير 2018 ووصل التضخم حالياً إلى أكثر من 20%. أما الأزمة المالية، مهما كانت عنيفة، فهي ظرفية، ولكن يمكن تفسيرها بأسباب عدة من بينها سياسة الدولار القوي المعتمدة من قبل واشنطن، والتي باتت عدة بلدان تعاني من تبعاتها: البرازيل، جنوب أفريقيا، روسيا، اليابان، المكسيك، كندا، كوريا الجنوبية، الصين، إلخ. فتركيا لا تشكّل حالة استثنائية بين الضحايا الجانبيين للقرارات الإقتصادية الأميركية. كما أنّ طبيعة وكبرياء رئيسي الدولتين ساهمت نوعاً ما في تسميم الخلافات، وقد كانت الشتائم حاضرة خلال الصيف، حيث كان أردوغان قد أشهر في تلك المناسبة سردية المؤامرة المدبرة ضد تركيا، سردية اعتادها. ولكن، في نهاية المطاف، يبقى الإقتصاد التركي كثير الاعتماد على الدولار حتى يسد عجز حساباته الجارية ويسدد ديون قطاعه الخاص بما لا يسمح باستمرار الشدّ والجذب طويلاً.

لأجل ذلك، أُجرِيت مفاوضات بتكتم، وسمحت بتسوية ملف القس برانسون في 12 تشرين الأول/أكتوبر. وكان قد حُكِم عليه بداية بـ37 شهراً سجناً، ثمّ أُخليَ سبيله فوراً بالنظر إلى مدة التوقيف التي كان قد قضاها. كما يبدو أنّ شهود الإدعاء تراجعوا عن مقرراتهم، ما يعطي صورة رديئة عمّا آلت إليه العدالة في تركيا. من جهة ثانية، يشير الإفراج عن القس إلى إرادة للتهدئة تجلت أيضاً في ملف آخر.

السيطرة على الشمال السوري

في الواقع، إنّ الخلافات بين أنقرة وواشنطن عميقة بخصوص المسألة الكردية، لا سيما في إنعكاسها السوري. فالدعم الأميركي المادي واللوجستي لحزب الاتحاد الديموقراطي، ولوحدات حماية الشعب التابعة له، وهما طرفان تعتبرهما أنقرة الوجه السوري لحزب العمال الكردستاني، موضوع خلافات عميقة منذ سنوات. وبالنظر إلى البعد الحيوي الذي توليه أنقرة للملف الكردي، ندرك الرهان الذي يمثّله هذا الأخير بنظرها. عقب وضع اليد على عفرين، في آذار/مارس 2018، لم يتردد أردوغان في أن يعلن بوضوح أنّ قواته ستلاحق مقاتلي وحدات حماية الشعب حتى منبج، بل حتى الحدود السورية–العراقية. مع ذلك، كانت قوات أميركية خاصة ترابط في منبج دعماً لوحدات حماية الشعب، ما كان يمكن أن يولّد مواجهات بين جنود أميركيين وأتراك. فكانت حالة المواجهة المحتملة بين مكونين عسكريين، ينتميان إلى حلف شمال الأطلسي ــ ناتو، جديرة بإيجاد حل سريع. نتيجة لذلك، فرضت الإرادة المشتركة بضبط الوضع نفسها. وجرى التوصل في شهر حزيران/يونيو إلى توافق، لم تُكشف بنوده بدقّة، لتنظيم خروج مبرمج للقوات الكردية من المدينة.

للتركيز على ما هو جوهري، يبدو واضحاً أنّ المشروع يقضي بإنشاء منطقة تحت سيطرة حلف شمال الأطلسي في شمال غرب سوريا وفي شمال شرقها، وذلك من خلال تركيا وحلفائها المنبثقين عن المعارضة. إلا أنّ التنفيذ الجدي لهذا الهدف لا يسير دون صعوبات، لأنّه يستوجب في الوقت نفسه إعطاء بعض الضمانات للقوات الكردية التي استُخدمت على نطاق واسع في السابق ضمن الحرب ضدّ داعش.

نفوذ روسيا وإيران

بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي تراجعت قدراتها على المبادرة وهامش مناورتها بشكل ملحوظ في الميدان السوري، نفهم بسهولة المصلحة وضرورة الحفاظ على علاقات لصيقة بتركيا بغية محاولة التصدي قدر الإمكان لتأثير روسيا وإيران. للمناسبة، المشهد نفسه يجري تنفيذه في منطقة إدلب في ظل الإتفاق الذي جرى التوصل إليه بين الرئيسين التركي والروسي في سوتشي في 17 أيلول/سبتمبر 2018. أنقرة، من جهتها، تُدرك تماماً أنّ الدور الذي تتوقع الحفاظ عليه بجانب موسكو وطهران، وامتداداً، في مسألة حل الصراع السوري، يرتبط بقدرتها على التأثير على جزء من قوات المعارضة المدعومة من قبلها. من دون هذه القدرة، سوف تخسر كل قدرة على التفاوض، وهذا امتياز سمح لها منذ عام 2016 بشن عدة عمليات عسكرية في الميدان السوري. هذه التوغلات المنفذة من دون أي تفويض من الأمم المتحدة، أتاحت لها إقامة مناطق تحت سيطرتها، يمكن وصفها دون تردد بالمحميات، وتهدف إلى منع إقامة حكم ذاتي في كردستان. تكمن المصلحة التركية، والتي يعتبرها مسؤولو أنقرة وجوديةً، في التخلّص من حزب الاتحاد الديموقراطي على امتداد الحدود السورية التركية. من شأن هذه المسألة طبعاً أن تضع العلاقات التركية–الأميركية موضع اختبار، ولكن واشنطن ستبقى تنظر طويلاً إلى كون أنقرة أكثر أهمية على المستوى الإستراتيجي من عفرين، منبج، أو كوباني، بل كونها، في ظرف مغاير، أكثر أهمية من اربيل، السليمانية، وكركوك.

هذه الأمثلة الحديثة والقليلة تشير بوضوح إلى أنّ عرض تدهور العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة غالباً ما يُضخّم ويجري تأويله بشكل مبالغ به. ليس في نيتنا نفي نقاط الإحتكاك الحقيقية، والعديدة، ولكنّ الأمر يتعلق بإعادة وضعها في السياق. فتركيا صورةٌ عن نماذج جديدة في العلاقات الدولية، لم يعد يمكن ضِمنها للقوى الغربية فرض قوانينها ورغباتها على العالم دون حوار.

محور حلف شمال الأطلسي

إلا أنّ الخلافات والإحتكاكات لا تقود ميكانيكياً إلى انفصال. بالتالي، علينا فهم مسألة علاقة تركيا بحلف شمال الأطلسي، وعليه في الحقيقة، بواشنطن. لا أحد يتخيّل أنّ هذه العلاقة تندرج في خانة القطيعة: فضمانات الأمن الممنوحة لها عبر انتمائها إلى حلف شمال الأطلسي تبقى حاسمةً بالنسبة إلى أنقرة التي تُدرك تماماً أنّه لا يوجد بلد، أو مجموعة بلدان، من شأنه(ا) منح المثيل. تبقى تركيا ثاني جيش في حلف شمال الأطلسي لناحية عديد القوات؛ وهي تضع في تصرف الحلف قاعدة إنجرليك ـــ حيث تُخزّن أسلحة نووية ـــ بهدف تنظيم أعمال القصف ضدّ مواقع داعش حين كان هذا الأخير العدو الأول؛ وهي ممستمرة في السيطرة على المضائق وتبقى الدولة الوحيدة ذات الثقافة المسلمة في حلف شمال الأطلسي. من منظار المصالح الغربية، فإنّ المكانة المحورية التي تحوزها بحكم الأمر الواقع يجب الحفاظ عليها حتماً. وإذا كانت الثقة المتبادلة قد اهتزت دون شك، فإنّ المصالح المتقاطعة للدولتين تبقى تُمثّلُ البوصلة التي تحدد في نهاية المطاف القرارات السياسية. في المقابل، يجب الإقرار بأنّ شطحات السياسات الخارجية والإقليمية لإدارة ترامب، لا تسهّل العلاقة السَلِسَة التي تحتاجها تركيا، لاسيما أنّ رجب طيب أردوغان كثيراً ما يُظهر غضباً حاداً خارج السياق.

زوجان مسنان

التطورات الأخيرة الإيجابية المشار إليها، لا تَحُل، بالقدر الكافي، كل القضايا التي قد تتبلور أو تظهر على السطح في الأسابيع والأشهر المقبلة. على سبيل المثال، يبقى عزم تركيا شراء عتاد عسكري روسي عالي التقنية معلناً، و كذلك الأمر بالنسبة لعزمها الحفاظ على مشتريات النفط من إيران برغم التهديدات الأميركية للدول التي لن تحترم نظام العقوبات ضد طهران، والإبقاء على وجود فتح الله غولن في الولايات المتحدة في وقت أنّ أنقرة تقدّمت بطلب لتسلمه منذ شهور عدة، وأخيراً الحكم في الولايات المتحدة على نائب رئيس مصرف “خلق” بسبب الدور الذي لعبه المصرف التركي في الإلتفاف على الحظر المفروض على إيران قبل الإتفاق النووي في تموز/يوليو 2015، هي عناصر يُشكّل كلٌّ منها نقاط احتكاك من شأنها التفاقم سريعاً. إلا أننا نبقى مقتنعين بأنّه رغم التداعيات المقلقة الناشئة عن تصرفات الأطراف الأساسيين، فإنّ الوعي بوجوب الحفاظ على شراكة راسخة يبقى أساس مستقبل العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة... علاقة على صورة علاقة زوجين مسنّين يتشاجران دائماً، ولكنّهما لا يريدان الطلاق.