المغرب: مازالت روح 20 فبراير تنبض بالحياة

بتاريخ 20 فبراير /شباط 2011 وصل الى المغرب الحراك الذي هزّ البدان العربية الأخرى. هذا ما يتناوله الكتاب الذي جَمَع عدة مساهمات، تحت إشراف مراد دياني، والذي يشرح لنا بدايات الانتفاضة المغربية وتبعاتها.

بتاريخ 20 فبراير/شباط 2011، انتقل إلى المغرب الحراك الذي هزّ البدان العربية الأخرى. هذا ما يتناوله هذا الكتاب الذي جَمَع عدة مساهمات تحت إشراف مراد دياني، ويشرح لنا بدايات الانتفاضة المغربية وتبعاتها.

لقد اكتسى المغرب على الدوام صورةً لائقة على الصعيد الدولي. وحتى يومنا هذا، غالبًا ما يوصف البلد بأنه واحة سلام واستقرار في خضمّ عالم عربي يتخبط في عدم اليقين والفوضى العارمة. بلدٌ يحكمه ملكٌ ليبرالي، منفتحٌ على نحوٍ صريح على الغرب، نجح في إجراء عملية انتقال هادئ في إطار الاستمرارية، وجعل من نفسه سدًّا منيعًا ضد التطرف والإرهاب وموجات الهجرة. هذه الصورة غالبًا ما تقوم المملكة الشريفية بالترويج لها بوصفها “الاستثناء المغربي”، الأمر الذي يعتبره البعض تلميعًا لوضع من الانفتاح السياسي الوهمي المجرّد من أي تحول ديمقراطي فعلي.

تواطؤ بين كل الأطراف

إن كانت هذه الصورة الساحرة ما زالت تعاند الزمن بالرغم من أوجه القصور العديدة على كافة المستويات والمتضافرة في المملكة، فقد يعود ذلك جزئيًا للتستّر العام في الخطابات والتحاليل عما يدور فعلًا في البلاد، فيما هو خليط من الاستلاب العام الشامل وتواطؤ النُخَب. ويقترح الكتاب الجماعي الذي صدر مؤخرًا تحت عنوان “20 فبراير: مآلات التحول الديمقراطي في المغرب” (باللغة العربية)، تحت إدارة مراد دياني، وبتوطئة من جون واتربوري، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ببيروت، 2018، جملةً من الدراسات النقدية تأتي عكس التيار وتخالف العقيدة السائدة، لتلقي ضوءًا كاشفًا على مواطن الظلّ العديدة التي ما زالت ماثلة في هذا البلد. يشمل الكتاب 24 مساهمة قيمة لمؤلفين مغاربة من شتى المشارب والتوجهات، ويقترح قراءات مختلفة للتجربة المغربية إثر بروز الحراك الاحتجاجي في 20 فبراير/شباط 2011، في سياق الموجة الأولى للربيع العربي، وما تبع الحراك من إصلاحات دستورية ناجمةٍ عنه. وما وراء “حركة 20 فبراير” ذاتها، المقصود هنا بـ “20 فبراير” هو بالأحرى روح التغيير التي تسمو فوق الحراك الاجتماعي الذي انبثق في يناير/كانون الثاني 2011 في أعقاب الثورتين التونسية والمصرية، والذي نزل رسميًا إلى الشارع في 20 فبراير/شباط 2011. وبتعبير آخر، لئن أخذت “حركة 20 فبراير” في النضوب شيئًا فشيئًا على مرّ الأشهر إلى أن جفّت تمامًا ينابيع التعبئة الشعبية، ولا سيما بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان منها، وهي التي كانت تشكل عمودها الفقري، إلا أن روح “20 فبراير” ظلت حيّة في الجسم المغربي، تحفّز دينامية الاحتجاجات، كما تبين ذلك من الحراك الاجتماعي المسمى “حراك الريف” في شمال المغرب (2016-2017)، أو حركة المقاطعة الشعبية الواسعة (منذ 2018 وإلى اليوم) لثلاثٍ من أكبر الشركات المغربية التي ترمز إلى “حكم الأثرياء” المتحكم في البلاد. يتفحص هذا الكتاب كل حيثيات وأسباب الانتفاضات العربية التي طرأت في 2011 من حيث تأثيرها على المغرب. والسؤال الجوهري هو معرفة لأيّ مدى يمكن اعتبار هذه الثورات تجسيدًا لتحديات فعلية تزعزع أسس الاستبداد في العالم العربي، أم أنها مسألة أقل عمقًا، مجرد هزّةٍ عابرة، أو ربما زوبعة في فنجان تترك الطغاة على عروشهم، هذا إن لم تفسح الطريق لطغاة جدد.

الاستقرار أم الفوضى الشاملة؟

الجواب السهل على هذا السؤال هو “ما زال الوقت مبكّرًا للجواب”. كما أنه من السهل أيضًا تسجيل ملاحظة مفادها أنه بالرغم من استمرار سيطرة هذه النظم الدكتاتورية، فإن السمات المميزة لها خضعت لتحولات أساسية أيًا كان اختلاف التحديات التي واجهتها والردود التي أتت بها. وإن كانت كل النظم العربية قد واجهت إلى حد ما تحديات كبرى عام 2011، يبقى الاختلاف واضحًا بين حراك طفيف يكاد لا يُرى في المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة، وبين التحركات التي قلبت أنظمة الحكم في تونس وليبيا ومصر واليمن. وفي حين “أفلح” تشدد النظام في البحرين والجزائر، إلا أنه كان كارثيًا في سوريا وليبيا. وحتى في أيامنا هذه التي نشهد فيها موجةً ثانية من الانتفاضات العربية في السودان والجزائر، ليس لدينا أي تصور مؤكد حول مآل التحركات الحالية وما ستنتهي إليه. فاحتمال عودة الاستبداد وارد كأي احتمال آخر. وهذا ما حصل في مصر، ويمكننا القول إن الشيء نفسه حصل في العراق أيضا، على الأقل في عهد نوري المالكي. وحدها تونس خطت خطوةً أولى نحو نظام أكثر ديمقراطية. كما يمكن أن يحدث انقسام في بعض هذه الدول. فقد تؤدي الفوضى المُسْتَشْرية في كل من ليبيا واليمن وسوريا إلى نتيجة من هذا النوع. ويبدو أنّ العراق سائر على هذا الخط بإحلال حكومة إقليم كردستان. خلاصة القول إن المسارات، فعليةً كانت أم كامنة، تتباين فيما بينها بشدة.

براعة الخطاب الملكي

أما المغرب فله بكل وضوح وضعٌ خاص على طرف هذا الطيف من المسارات. فلم تتمثل ردة فعل الملك محمد السادس على تحديات “حركة 20 فبراير” بالتعنّت الذي أظهره القذافي أو الأسد، بل اتبعت المسلك المعهود في تاريخ الملكية منذ القدم. ويتفق مؤلفو الكتاب على القول بأنّ الخطاب الملكي في 9 مارس/آذار 2011 والدستور الذي تمّ تبنيه في يوليو/تموز 2011 سمحا بنزع فتيل وضعٍ بالغ الخطورة، وبحماية كل الامتيازات الأساسية في نظام الملكية. وهو الأمر الذي يعدّه بعض مؤلفي الكتاب خطوةً إلى الوراء مقارنةً بدستور 1996. فقد ظل النظام الملكي يتحكم بشكلٍ كامل بالدين الرسمي، وبالعدالة والأمن والدفاع والشؤون الخارجية، دون أي منازع أو أي مساس بسلطته. في حين أننا شاهدنا على صعيد الحريات العامة نوعًا من التراجع بالمقارنة مع النصف الثاني من التسعينات، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة إلى حرية الصحافة. يخلص المؤلفون إلى توافق عام في الآراء حول كون المغرب لم يباشر فعلًا بعملية تحول ديمقراطي، وذلك على الأرجح لأنّ لدى الملك والمخزن قناعة منذ زمن بعيد بحفاظهم على قدرٍ كاف من الشرعية الدينية والسياسية والتاريخية لا يسمح بالمجازفة بتنازلات قد تضعف بل وتقوّض أسس الحُكْم الشريفي. ويبدو المغرب عبر فصول هذا الكتاب، شأنه شأن سائر البلدان في العالم العربي، وكأنه عصيّ على أيّ تغييرٍ في العمق، وكأنّ هذه البلدان تشكل حالةً من التحدي الجوهري لأدبيات التحول الديمقراطي. فما زالت النخب في هذه البلدان بالفعل منقسمة انقسامًا حادًّا ما بين إسلامويين وعلمانيين. وغالبًا ما يُتوقّع من العلمانيين أن يميلوا إلى الانحياز للخطّ المتشدد (الدولة العميقة) لأنهم يشككون في استمرار الإسلامويين المعتدلين على اعتدالهم، إذا ما استلموا السلطة، ناهيك عن تحليهم بمبادئ الديمقراطية. ولهذا السبب طالما ساند العلمانيون في تركيا التدخل العسكري الهادف لإبعاد الإسلامويين عن السلطة. ولئن فشل هذا التكتيك عام 2002 في الانتخابات التي حملت حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة، فإنه نجح في مصر عام 2013 حين أطاح عبد الفتاح السيسي وحلفاؤه من المعتدلين والعلمانيين بحكم محمد مرسي والإخوان المسلمين. كما شكّل أيضًا قسم من الإسلاميين الذين خاب أملهم جزءًا مهمًا من الائتلاف المضاد لحكم المرسي. ومن ثمّ، من الصعوبة بمكان أن تنجح ثورة دون ثوار، أو أن ينجح أي تحول ديمقراطي دون ديمقراطيين (راجع: آصف بيات، “ثورة دون ثوار، فهم الربيع العربي” (باللغة الإنجليزية)، عن منشورات جامعة ستانفورد، 2017). من ناحية أخرى، تخلّلت غالبية المراحل الانتقالية في البلدان العربية وعود كاذبة، ولم يشذُ المغرب عام 2011 عن هذه القاعدة، كما تدلّ على ذلك مساهمات الباحثين التي نوّهت بالوعود التي أغدقها الخطاب الملكي في 9 مارس/آذار 2011، وهو ما يُذكّر بحلول “العهد الجديد” للملك محمد السادس عام 1999 الذي حمل تفاؤلًا كبيرًا وآمالًا عريضة بالتغيير وتحسين الأوضاع العامة في البلد، تحت مظلة التوافق الوطني العام بشأن ضرورة التحول التدريجي والسلمي نحو الديمقراطية، دون أن يؤثر ذلك على مبادئ السلم المدني أو شروط العيش المشترك. إلا أنّ عام 2013 تميز باختلاف جذري عما سبقه من خطابات بشأن عملية التحول الديمقراطي منذ مطلع عام 2011، إِنْ بالتباطؤ في وتيرة الإصلاحات، أو بالتخفيف من محتواها. وتجلت خيبة الأمل على الملأ إثر الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/تموز 2013.

"عودة الأمور إلى مجاريها “المخزني

عادت البلاد حينها إلى “طبيعتها” في تحكم المخزن بالأمور (أي تلك الحالة من الانتظار القاتل والسعي الحثيث للإبقاء على الحالة الراهنة بدل التغيير)، وسادت “الملكية التنفيذية” كل جوانب الحياة السياسية (بل والاقتصادية). وباختصار شديد، شهدت البلاد عودة إلى النموذج التونسي “البَنْعَليّ” المتماشي تمامًا مع منظومة المخزن العائدة إلى زمن الأجداد. ويتمثل جوهر النموذج التونسي المستلهم من النظام البائد لزين العابدين بن علي في القول بإمكانية تحقيق تنمية دون ديمقراطية، أو بهامش ضيق من الديمقراطية (راجع: أيمن الحكيم: “بَنْعَلَة” العالم“، الصادر بالفرنسية في مجلة نواة الإلكترونية في 27 يوليو/تموز 2005، أو مقال: “المغرب: نحن نشهد اليوم ”بنعلة“ النظام الملكي”. الصادر بالفرنسية في مجلة فان مينوت في 7 فبراير/شباط 2011).

في توطئته للكتاب، يلخص جون واتربوري سؤاله الأساسي: “هل يتقدم المغرب إلى الأمام أم يدور في حلقة مفرغة؟”، ويأتي الجواب قاطعًا –بلسان غالبية الكتاب المساهمين في الكتاب– بأنه يدور في حلقةٍ مفرغة! بتعبير آخر، لم تترجم إعلانات حسن النوايا بشأن التحول الديمقراطي في المغرب إلى واقعٍ ملموس بتدابير ديمقراطية إجرائية كانت أم جوهرية. وهذا معناه أنّ البلد مستمر في الدوران في حلقات مفرغة عدة على كافة المستويات؛ فالعجز الملح على جميع الأصعدة لم يتقلّص قيد أنملة بل تفاقم، سواءً أكان عجزًا سياسيًا أم اقتصاديًا أم غير ذلك: فمن عجز مسلسل التحول الديمقراطي، إلى عجز نموذج التنمية الاقتصادية، إلى غياب سياسة متسقة في التعليم، إلى غياب حلول مستدامة لمشكلة البطالة، إلى قضية الصحراء البالغة التعقيد، إلى الشلل الذي أصاب عملية التكامل بين بلدان المغرب العربي... منذ عام 2013، أي منذ أن استعاد الاستبداد زمام الأمور، أصبح العالم مألوفًا من جديد بالنسبة إلى المغاربة، واستعاد كلّ واحدٍ منهم الدور المعهود المكرّر على مرّ الزمن. فبعد عقود من الممارسات “المَخْزنية”، يعرف كل واحد ما يتعين عليه أن يفعل، فيتآلف مع سخطه على نظامٍ عاد إلى سابق عهده.

وفي نهاية المطاف، ما نستخلصه من الكتاب هو أنّ عملية التحول الديمقراطي في المغرب لم تبدأ أصلًا، وأنها تظلّ مؤجلةً إلى أجل غير مسمى، في انتظار هبّاتٍ قادمة من ربيع مغربي جديد. وإن بقي الحراك الأول دون ترجمة إلى واقع ملموس، فإنّ الاحتياجات ما زالت ملموسة تمامًا، وهي احتياجات جسيمة وملحّة تستدعي حتمًا هبّاتٍ لاحقة تدفع باتجاه التغيير. وتقوم شبكات التواصل الاجتماعي، التي تمثل طرفًا احتار فيه الاستبداد حتى الآن وفي كيفية التعامل معه، بتعزيز وترسيخ الوعي الجديد بمبادئ الديمقراطية وفوائد التعددية والعوامل الاقتصادية المضاعفة الإيجابية التي يمكن أن ينتجها نموذج تنمية حقيقي قادر على توليد أجوبةً شافية وملموسة عن كلّ هذه التطلعات. شبكاتٌ للتواصل الاجتماعي ستكون دون شك في قلب أية هبة قادمة للربيع المغربي.

المراجع بالإنكليزية

Roger Owen, The Rise and Fall of Arab Presidents for Life, Cambridge, MA : Harvard University Press, 2012

Robert Fisk & Patrick Cockburn, Arab Spring Then and Now : From Hope to Despair, Independent Print Limited, Londres, 2017

Asef Bayat, Revolution without Revolutionaries : Making Sense of the Arab Spring, Stanford Studies in Middle Eastern and Islamic Societies and Cultures, Stanford : Stanford University Press, 2017

والفرنسية

Le Commandeur des croyants : La monarchie marocaine et son élite,traduit et adapté de l’anglais par Catherine Aubin, Paris, Presses Universitaires de France