اليمن بعد الاتفاقات: نهاية الحرب دون سلام؟

بعد شهرين من التوقيع على اتفاق الرياض في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بين حكومة اليمن المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي، ما هو الوضع على الأرض؟ يتعين بعد مرور 13 شهرا على توقيع اتفاق ستوكهولم في 13 ديسمبر/كانون الأوّل برعاية الأمم المتحدة تقييم ومقارنة إنجازات الاتفاقين، خاصة وأن كلاهما قدم على أنه خطوة مهمة نحو إنهاء الحرب في اليمن، في حين يبدو أن مصيرهما آل إلى نجاح نسبي جدا.

22 أبريل/نيسان 2019. مقاتلون موالون للرئيس هادي مجتمعون بين أنقاض مبنى في مدينة ميدي الحدودية مع المملكة العربية السعودية، بمحافظة حجة.

اتفاق ستوكهولم هو الأول الذي يتم التوصل إليه منذ أن أخذت الحرب بعدا دوليا سنة 2015 بين حكومة الرئيس هادي المعترف بها دوليا والحركة الحوثية. فبعد سلسلة من المفاوضات الفاشلة خلال السنة الأولى من الحرب، لم يعقد أي لقاء بين الطرفين خلال 27 شهرا ولم يتم لقاء ستوكهولم إلا بعد ضغط دولي كبير. اثنان فقط من بين محاور الاتفاق الثلاثة لا زالا جديران بالذكر بعد 13 شهرا، فقد فشل اقتراح تبادل 16 ألف أسير على الرغم من تبادل بضع مئات منهم خلال الأشهر الأخيرة، ومن ضمنهم إطلاق سراح عدد من العسكريين السعوديين المحتجزين عند الحوثيين. وقد تحقق هذا التبادل بفضل وساطة قبلية وخارج إطار الأمم المتحدة على الرغم من مشاركة الصليب الأحمر.

عرفت مدينة الحديدة -ولو بطريقة هامشية- مصيرا أفضل: فعلى الرغم من انتهاك وقف إطلاق النار في المحافظة بشكل متزايد، شهدت المدينة ذاتها انخفاضا ملحوظا في حدة النزاع ونشرت بعثة الأمم المتحدة لاتفاق الحديدة مراقبين في خمسة مواقع حساسة داخل المدينة ومن حولها. وكانت إعادة نشر القوات بصفة واسعة مجرد عملية “تجميلية” لم يترتب عنها انسحاب حقيقي للقوات الحوثية من الموانئ الثلاثة المعنية. كما لم تعرف أحدث “الاتفاقات” التي تم التوصل إليها تحت رعاية بعثة الأمم المتحدة طريقها للتطبيق إلى حد الآن. ويبدو أن الهدف من تجديد مجلس الأمن لمهمة البعثة الأممية لدعم اتفاق الحديدة لمدة ستة أشهر -أي حتى منتصف يوليو/ تموز 2020- لا يعدو أن يكون ضمان عدم تدهور الوضع في المدينة خلال هذه الفترة. ولكن لسوء الحظ، يختلف الأمر بالنسبة للجوانب الأخرى من الأزمة اليمنية.

لنذكر أولا أن الجبهات العسكرية الأخرى بين الحوثيين وخصومهم ظلت على حالها دون تغيير يذكر طيلة سنة 2019، والمنطقة الوحيدة التي شهدت نشاطا (ثابتا إلى حد كبير) هي منطقة الضالع، حيث اشتبك الحوثيون مع القوات الجنوبية. ويبرز فحص دقيق لهذه الجبهة بطريقة أوضح العلاقات المتضاربة التي تربطها مختلف الأطراف المناوئة للحوثيين: ففي حين تدافع القوات الانفصالية للمجلس الانتقالي الجنوبي عن الحدود القديمة بين الجمهورية العربية اليمنية والجمهورية الديمقراطية الشعبية لليمن، تقاتل قوات هادي في منطقة الجمهورية الديمقراطية الشعبية لليمن سابقا دون دعم من “شريكها” المجلس الانتقالي الجنوبي!

الوضع الإنساني على حاله

للتذكير، بقي الوضع الإنساني على حاله إلى حد كبير طيلة سنة 2019، حيث مازال الملايين من الأشخاص يعتمدون على المساعدات الانسانية. كما بقيت الأجور التي تدفعها الحكومة لـ 1,2 مليون موظف مدني غير كافية على الإطلاق، حيث تصل في أحسن الأحوال إلى نصف راتب شهري كل ثلاثة أشهر تقريبا على مستوى البلاد. وإذا كان من الواضح أن الحصار المالي المفروض على الحوثيين يفسر تردي الوضع في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، يفترض مبدئيا أن يكون الحال أفضل بكثير في المناطق “المحررة” حيث تتوفر أموال سعودية وإماراتية كبيرة، ما يثير التساؤل عما حلّ بهذه الأموال.

وكما كان الحال منذ سنة، تشير التقديرات إلى أن حوالي 24 مليون يمني بحاجة إلى مساعدة إنسانية ما، انطلاقا من الماء والصرف الصحي إلى التغذية والخدمات الصحية. فعلى المستوى الصحي سجلت أزمة الكوليرا رقما قياسيا في سنة 2019 بما يقارب 900 ألف حالة خلال الأشهر العشرة الأولى من السنة (لم تتوفر بعد معطيات السنة كاملة) مقابل 300 ألف حالة خلال سنة 2018. وعلاوة على ذلك، انتشر وباء حمى الضنك في 2019 ناهيك عن الأضرار النفسية الناجمة عن الحرب.

يتعرض اليمنيون من جميع الفئات العمرية أكثر فأكثر للصدمات ويعيشون حالة ضعف، وهم بالتالي عرضة للمرض بسبب سنوات من نقص التغذية والرعاية الطبية. ووضعية الفئات الأكثر ضعفا -أي الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل أو المرضعات- أسوأ طبعا. وهناك أيضا تباين في الأوضاع المحلية حيث إن المناطق غير الحوثية لها إمكانية أكبر في الوصول إلى المساعدات الإنسانية التي يمنحها أعضاء التحالف الرئيسيين، وهما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

اتفاق الرياض الطموح وقلة تطبيقه

نصل بهذا إلى الاتفاق الثاني، أي اتفاق الرياض الموقع في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 بين الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي. ففي أوت/ أغسطس 2019، قام المجلس الانتقالي الجنوبي بطرد الحكومة المعترف بها دوليا من عدن، عاصمتها الرسمية المؤقتة. ويشكل الصراع المفتوح بين هاتين التركيبتين الأساسيتين في التحالف المناهض للحوثيين تهديدا كبيرا للتحالف ولحكومة الرئيس هادي، إذ تحوّلت بفقدانها لعاصمتها إلى مجرد حكومة في المنفى، بغض النظر عن كون العديد من أعضائها رفيعي المستوى يقيمون بالعاصمة السعودية الرياض معظم الوقت، منذ أن تم طردهم من صنعاء في 2015.

وقد أجبر هذا الحدث -الذي جد قبل أسابيع قليلة من إعلان دولة الإمارات انسحابها الكامل من الحرب اليمنية- المملكة العربية السعودية على التدخل المباشر. لكن على الرغم من الإعلان الفوري عن محادثات في جدة بين الخصمين مدعومة بتصريحات من الإمارات العربية المتحدة، تطلب الأمر أكثر من ثلاثة أشهر للوصول إلى توقيع اتفاق الرياض بين ممثلي حكومة هادي والمجلس الانتقالي الجنوبي.

وتتمثل أهم محاور هذا الاتفاق في انسحاب جميع العناصر المسلحة ومعداتها من المدن وإدماج كل العسكريين وأعوان الأمن ضمن القوات الرسمية للتحالف تحت سلطة وزارات الدفاع والداخلية على التوالي، وتشكيل حكومة جديدة تتكون من 24 عضوا نصفهم جنوبيون (إذ يفوق حجم الجنوبيين هذا العدد في الحكومة الحالية). والأهم من ذلك يقر الاتفاق بأن يتم تسيير كل عائدات الدولة عبر البنك المركزي اليمني الموجود بعدن والذي سيكون مسؤولا أمام البرلمان.

كما يفترض تنفيذ الاتفاق وفق جدول زمني صارم، لكن بعد شهرين من بدايته، لم ينفّذ شيء في الوقت المحدد، بل تمثل الإنجاز الوحيد في عودة رئيس الوزراء وبعض الموظفين السامين المكلفين بالمالية إلى عدن، والذين تم تكليفهم صراحة بضمان دفع رواتب موظفي الأمن، وهو أمر لم ينفّذ بعد هو الآخر. ويثير الاستيلاء المؤقت للمجلس الانتقالي الجنوبي في الأول من يناير/كانون الثاني على أربع حاويات مليئة بأوراق نقدية جديدة أسئلة عديدة في هذا السياق، إذ ربما كان تلميحا للحكومة حتى تدفع رواتب قواتها!

الجذور التاريخية للصراع

في الأثناء، لم يعد أي وزير آخر إلى عدن، ووقعت اشتباكات متفرقة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المرتبطة بالحكومة على خطوط الجبهة الفعلية بمحافظتي أبين وشبوة حيث عمل الطرفان على تعزيز مواقعهما. وتسمح مجرد نظرة بملاحظة أن الجبهات الحالية تحدد المناطق التي يسيطر عليها كل طرف، وهي تؤكد على الخصوص حدود تأثير المجلس الانتقالي الجنوبي في المناطق الأصلية لزعمائه (منطقة الضالع، الجزء الأكبر من وسط وشرق محافظة لَحج، والأشرطة الساحلية لأبين)، وهي المناطق التي ينحدر منها قادة الفصيل “المنتصر” في المواجهات الداخلية التي حصلت سنة 1986 داخل الحزب الاشتراكي اليمني قبل توحيد شطري اليمن. أما باقي أبين والجزء الأكبر من شبوة، فهي تحت سيطرة الحكومة، وتعد وجوهها الرئيسية -ومن بينهم الرئيس هادي- من الفصيل المهزوم في عام 1986. ويُبرز ذلك بوضوح الجذور التاريخية والطبيعة الفصائلية لهذه الولاءات، ويكشف بالمناسبة بأن ادعاء المجلس الانتقالي الجنوبي تمثيله كل الجنوب أبعد ما يكون عن الصّحة1.

فيما يخص تنفيذ اتفاق الرياض، لا يبدو الوضع بعد شهرين من التوقيع مشجعا كثيرا. ففضلا عن المواجهات والمأزق المذكور أعلاه، انسحب المجلس الانتقالي الجنوبي أول الأمر من لجان تنفيذ الاتفاق، لكن تم تشكيل لجان جديدة والاتفاق على جدول جديد. بيد أن قصفا جويا بتاريخ 18 يناير/كانون الثاني على المخيم العسكري لمأرب الذي يعدّ عناصر من الحرس الرئاسي بعد العودة إلى عدن تسبب في مقتل 60 جنديا وهو يهدد اليوم هذا الاتفاق.

بالإضافة إلى ذلك، يتعين تطبيق بنود اتفاق الرياض تحت إشراف ومراقبة لجنة من التحالف، وهذا يعني لجنة سعودية نظرا لانسحاب الإمارات. وهو ما يثير مخاوف بشأن سيادة الدولة اليمنية وحكومتها المعترف بها دوليا، ويذكر بأن السلطة الممنوحة لاتفاق مجلس التعاون الخليجي في 2011 كانت إحدى الخطوات المؤدية إلى تفكك البلاد2. ويكمن أحد الشروط الأساسية لنجاح اتفاقية الرياض في إرادة دولة الإمارات المتحدة تعليق دعمها العملي المباشر للمجلس الانتقالي الجنوبي، والذي يعتمد عليها ماليا وماديا ودبلوماسيا منذ نشأته سنة 2017. لكن هجوم 18 يناير/كانون الثاني يطرح أسئلة جدية حول دور الإمارات.

بالإضافة إلى المشاكل الكامنة في طبيعة الاتفاق، تجدر الاشارة إلى ما يلي: أولا، أُبرم الاتفاق بين الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي فقط وهو يتجاهل التنظيمات الانفصالية الأخرى في الجنوب، ناهيك عن أي قضية سياسية او اجتماعية أو اقتصادية أخرى. ثانيا، لن تستسيغ المحافظات التي تحصلت على مراقبة هامة لعائداتها المرتبطة أساسا بالنفط -أي مأرب وحضرموت وشبوة- اقتراح تسليم كل عائداتها إلى البنك المركزي اليمني في عدن. ثالثا، لقد منعت الجماعات الانفصالية العديدة الناشطة في عدن إلى حد الآن اجتماع البرلمان، حتى أن الاجتماع الوحيد الذي انعقد كان في سيئون في أفريل 2019.

بصفة عامة، يتسم اتفاق الرياض بنفس مميزات الاتفاقات اليمنية السابقة: مزيج من آليات التنفيذ غير الدقيقة، وآجال غير واقعية، وتسلسل مثالي.

فشل الضغوطات الدولية

وإذا كانت الأمم المتحدة مشاركة في اتفاقية ستوكهولم فقط، فإن دورها الحالي والمحتمل جدير بأن يذكر هنا. من الواضح الآن أن هذا الاتفاق لم يضع الأمم المتحدة ومبعوثها الخاص في قلب الأزمة اليمنية، بل كان له أثر معاكس. فإضافة إلى إخفاق الأمم المتحدة في محوري تبادل الأسرى وإغاثة تعز، ترتب عن نجاحها الجزئي فقط بالحديدة تهميش مبعوثها الخاص، ويعود ذلك بصفة كبيرة إلى مقاربة هذا الأخير التي كانت مبنية على “جانب وحيد من المشكلة”.

كان التقدم الدبلوماسي المسجل على الجبهة الحوثية نتيجة للهجوم الصاروخي في 14 سبتمبر/أيلول على منشآت أرامكو في المملكة العربية السعودية. وهو حدث جعل النظام السعودي يدرك بأن أمريكا برئاسة ترامب لن تحميه من كل التهديدات. ويعمل نائب وزير الدفاع الجديد خالد بن سلمان -شقيق ولي العهد- بعزم على إخراج بلاده من المستنقع اليمني وإبعاد المملكة عن مواجهة أمريكية إيرانية متزايدة الخطورة. وقد دخل في محادثات مباشرة مع الحوثيين في السعودية وسلطنة عمان، ومن المرجح أن يشمل الأمم المتحدة لأسباب تجميلية تتمثل في إضفاء موافقة دولية على أي اتفاق يتم إبرامه ثنائيا.

وفي الختام يعاني كل من اتفاقي ستوكهولم والرياض من مشاكل كبيرة، فهما لا يتناولان القضايا الأكثر أهمية التي تواجه الدولة أو الشعب اليمنيين، فكلاهما جزئي ويركّز على قضايا محدودة بدل البحث عن حلول شاملة. تم الاتفاق على كليهما تحت ضغط دولي بدلا من ضغط داخلي، وهما بالتالي يستجيبان لحاجيات العرّابين بدلا من احتياجات اليمنيين. ومن المستبعد أن يحقق أي واحد منهما نجاحا خلال عام 2020 دون تغيير جوهري في النهج من قبل الأطراف المتحاربة، ولا توجد إلى حد الآن أية إشارة على ذلك.

قد تشهد هذه السنة ربما النهاية الرسمية أو شبه الرسمية للمشاركة الدولية في القتال، ولكن من غير المحتمل أن يكون ذلك نهاية لمعاناة اليمنيين، لأن الصراع السياسي والعسكري الداخلي بين مختلف الفصائل مرجح أن يستمر لا سيما بسبب التفتت العميق والضغائن التي غيّرت البلاد خلال نصف العقد الماضي.

من دون سلام، من غير المرجح أن يتعافى الاقتصاد في حين تواصل الظروف الاجتماعية وآفاق التنمية تدهورها على المدى الطويل، كما يؤدي الاحتباس الحراري إلى تفاقم البيئة التنموية الصعبة أصلا على اليمنيين.

1يختلف الوضع أكثر شرقا في حضرموت ومحافظة المهرة، ويعد ذلك إشارة عن نقص التجانس الداخلي في الجنوب.

2كانت هناك مبادرة خليجية في 2011 بخصوص تهدئة ثورة الشباب في اليمن. وقد أعطى الرئيس اليمني آنذاك علي عبد الله صالح تفويضا كاملا لنائبه عبد ربه هادي للتوقيع، ما وُوجه معارضة شديدة داخل اليمن.