تونس. إدارة أمنية لجائحة كورونا على حساب الحق في الصحة

تستعد تونس للخروج من الحجر الصحي ببنية تحتية اجتماعية هشة. صحيح أن الحكومة نجحت في تطويق الوباء وتداعياته بفضل التدابير الطارئة التي اتخذتها. لكن البنية التحتية للصحة العمومية عانت من الخيارات السياسية زمن بن علي، خاصة في المناطق الداخلية والأحياء الشعبية. وقد يولد انعدام التكافؤ المناطقي والاجتماعي ظهور حراك اجتماعي جديد.

المنيهلة (ولاية أريانة - تونس الكبرى). تجمع لسكان يرفعون بطاقات هوياتهم أمام مبنى المعتمدية للاحتجاج على الحجر الصحي والمطالبة بالإعانة المالية التي وعدت بها الحكومة.
فتحي بلعيد / وكالة الأنباء الفرنسية.

إدراكا منها بضيق هامش حركتها، راهنت الحكومة التونسية بعد ظهور الحالات الأولى من وباء كورونا على مقاربتين في مواجهته. الأولى استباقية، الهدف منها احتواء تداعياته الصحية والاجتماعية. فأقرت جملة تدابير وقائية بوتيرة تصاعدية وصلت سريعا إلى مستوى المرحلة الثالثة ولم يكن انتشار الوباء قد بلغ بعد مرحلته الثانية في البلاد (الحجر الصحي الشامل والحصة الواحدة في الوظيفة العمومية وحظر التجول من الساعة السادسة مساء الى الساعة السادسة صباحا وإغلاق المدراس ومنع التجمعات...). وقد تزامنت مع الإعلان عن حزمة من التدابير لفائدة محدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصة والعمال المحالين على البطالة الفنية في المؤسسات الخاصة وفتح اكتتاب وطني لمعاضدة الدولة.

والثانية تواصلية عبر اعتماد خطاب الصراحة في التوجه للرأي العام والإعلام الشفاف عن توسع الوباء والاعتراف بصعوبات المرحلة والاستعارة بالحرب لشحذ عصب الوحدة الوطنية حول أداء الحكومة.

لكن اليوم وبعد مرور قرابة شهرين على بداية الأزمة، تظهر حدود المقاربتين. صحيح أن الحكومة نجحت في تطويق انتشار الوباء والحد من عدد الوفيات (949 حالة مؤكدة، 38 وفاة). لكنها تبدو عاجزة أكثر فأكثر عن فرض الحجر الإجباري الشامل لتطويق الوباء خصوصا في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية حيث تفاقمت العطوبة والعطالة وتكشّفت أكثر الإخلالات البنيوية في حوكمتها الصحية والاجتماعية من قبل السلط مركزيا ومحليا.

لاتكافؤ مناطقي في الحق في الصحة

يحيل قصور مقاربتي الحكومة في إدارة الأزمة في المقام الأول إلى اللاتكافؤ المجالي والاجتماعي في الحق في الحياة الذي يكرسه وهن المنظومة الصحية العمومية وانحدار جودة خدمات المرافق الاستشفائية فيها .بشكل أصبح فيه الولوج إلى العلاج في حالات كثيرة امتيازا طبقيا ومناطقيا لم تبطله الثورة (في سنة 2016 لم يكن هناك بولاية تطاوين -أكبر المحافظات مساحة في تونس والواقعة في جنوب البلاد على الحدود مع ليبيا- غير 3 أطباء توليد واليوم لا وجود لطب الإنعاش في مستشفى ولايتي تطاوين والقصرين)، وضعف الخدمات التشخيصية وعدم توفر الأدوية، وانحدار طاقة الإيواء السريرية وطول آجال الانتظار للتداوي وصعوبة الوصول إلى المستشفى بفعل اهتراء او انعدام خدمات النقل العمومي، وتراجع اعتمادات الصحة الإنجابية.

ولعل أبرز مثال على ذلك هو ولاية تطاوين والتي تناهز نسب البطالة الشبابية في بعض معتمديتاها الـ 50%. برغم إنتاج هذه الولاية لما يعادل 30% من احتياجات البلاد من الطاقة من بترول وغاز، إلا أنها من أكثر المناطق تهميشا من حيث الخدمات الصحية العمومية.واليوم والحال ان تطاوين تشهد بداية انتشار الوباء، لا يتوفر لسكانها الذي يبلغ عددهم أكثر من 150000 نسمة غير خمسة أسرة للإنعاش وسيارتي إسعاف مجهزتين لنقل المرضى للمستشفيات الواقعة في المدن الساحلية. كما لا وجود فيها لمخبر لفحص العينات المخبرية للمشتبه بإصابتهم. وبشكل عام تنعدم اليوم هذه المخابر في كامل محافظات الشمال الغربي والجنوب، أي بما فيها تلك التي ارتفعت فيها حالات العدوى (مثل محافظتي قبلي ومدنين)، كما لا يوجد فيها إلا عدد محدود جدا من أسرّة الإنعاش على اعتبار أن أغلبها لم يكن مجهزا إلى حدود شهر مارس/آذار بأي سرير مثل حالتي القصرين وسيدي بوزيد -مهدي الثورة- ناهيك عن النسب المرتفعة للشباب الذين لا يتمتعون فيها بحق التغطية الاجتماعية (ما يقارب 60% في تطاوين والقصرين وبعض الأحياء الشعبية في تونس الكبرى).

جهاز أنهكته سياسات الخوصصة

هكذا وضع هو نتاج للتفكيك الممنهج للمرفق العمومي للصحة طيلة الثلاث العقود الأخيرة. إذ ومنذ منتصف الثمانينات ومع دخول تونس في تطبيق سياسات الإصلاح الهيكلي، بدأ نسق رفع الدولة لدعمها لهذا القطاع في الارتفاع وترافق ذلك مع تبني جملة من التشريعات قدمت تسهيلات وامتيازات للمستثمرين الخواص. هكذا منحت الاستقلالية الإدارية للمستشفيات الجامعية ورافق ذلك إلغاء الدعم المالي العمومي المقدم لها باستثناء تحمل الدولة لنفقات أجور الإطار الطبي وشبه الطبي. ثم تخلت الدولة عن دعمها للمستشفيات الجهوية الموجودة في المحافظات فيما يخص ميزانية التصرف مما أثر سلبا على قدرتها على اقتناء الأدوية.

وفي سنة 2007، بدأ العمل بقانون جديد لنظام التأمين على المرض أصبحت بمقتضاه المؤسسة العمومية -الصندوق الوطني للتامين على المرض- متكفلة بتغطية الخدمات المسداة من قبل القطاعين الخاص والعام على السواء دون أن تتم إعادة تأهيل هذا الأخير كما نصت عليه الاتفاقية التي أبرمت حينها بين المنظمة النقابية -الاتحاد العام التونسي للشغل- والحكومة. وهو ما شكل تمويلا عموميا غير مباشر للمستثمرين الخواص في قطاع الصحة (على سبيل المثال وحسب الاحصائيات الرسمية لسنة 2017 لا يتوفر في القطاع العمومي أكثر من 48 جهاز مسح ضوئي مقابل 131 في القطاع الخاص). وبالتوازي نما هذا الأخير بصفة عشوائية في المناطق الساحلية والمدن الكبرى وهجر المناطق الداخلية. واستثمر رأس المال البنكي وحتى الخليجي في المصحات الخاصة وصناعة الأدوية، تحركه في ذلك دوافع ربحية أججتها فرص الاستفادة من السوق الليبية والأفريقية جنوب الصحراء في غمار الحصار المضروب على ليبيا زمن القذافي وكذلك مع انغلاق أوروبا امام الأفارقة. وفي سنة 2007 كذلك، تم تبني منشور حكومي منظم للنشاط الخاص التكميلي لفائدة الاستشفائيين الجامعيين يمنح فئات منهم الحق في ممارسة الطب الخاص في المستشفيات العمومية التي يعملون بها بمعدل نصفي يوم في الأسبوع، وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد واستغلال المرفق العمومي لأغراض ربحية.

ما يجدر ملاحظته هو أن الحكومات المتعاقبة منذ الثورة لم تحدث أية قطيعة مع هذه السياسات الصحية التقشفية المنحازة للقطاع الخاص ولم تتخذ أي إجراء ذي بال لرأب التفاوت المجالي في الحق في الصحة. لا بل تراجع الانتداب العمومي في قطاع الصحة وبات غير قادر على تغطية الشغور الحاصل نتيجة التقاعد.

لا تغيير يذكر بعد سنة 2011

وعلى الرغم المطالب التي رفعها الحراك الاجتماعي منذ 2011 في جهات داخلية عديدة من أجل تحسين الخدمات الصحية، ورغم الوعود التي أطلقتها بعض الأحزاب في حملاتها الانتخابية، ظل الهاجس الأول لمختلف الحكومات تسديد خدمات الدين الخارجي على حساب تنمية الخدمات الاجتماعية (23 % بالنسبة للدين الخارجي مقابل 13 % بالنسبة للخدمات الاجتماعية سنة 2019 من الميزانية العامة). لابل إن الأرقام الرسمية تشير إلى أن ميزانية الدولة المخصصة للصحة سنة 2018 في ظل حكومة يوسف الشاهد أقل من تلك التي كانت معتمدة لهذا المرفق سنة 2006، أي زمن ابن علي (5.2% مقابل 7.4%)، كما أنها اقل من تلك المخصصة لوزارة الداخلية أو زرارة الدفاع لنفس السنة. ولم تخفف تحركات الأطباء الشبان المطالبة بتحسين ظروف عملهم في المرفق العام أو هجرة المئات منهم للعمل في أوروبا من هذه السياسة.

مع بداية انتشار الوباء وتحسبا لاحتمال الكارثة الصحية، اتخذت الحكومة تدابير استعجالية لتهيئة بعض المؤسسات الاستشفائية واستيراد بعض المستلزمات الحيوية الحمائية لمواجهة الوباء، معولة في ذلك على تفاني وتعبئة أطباء وممرضي وعملة هذا القطاع ومستفيدة من معاضدة مئات المبادرات المواطنية غير المسبوقة الفردية والجماعية التي قدمت الإعانات العينية (بما في ذلك الأسرّة وأجهزة التنفس) والمالية ونظمت الحملات التطوعية. بيد أن مجمل هذه الخطوات على أهميتها بقيت دون ما هو مطلوب أولا للظروف المتردية التي تعمل فيها الطواقم الطبية في قطاع عمومي منهوك كما أيضا في حال اتساع رقعة الجائحة خصوصا في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية التي لازالت نسبيا في منأى من ذلك. ومع ذلك تبدو الحكومة حريصة على تفادي أي إجراءات إلزامية تضمن بها انخراطا فعليا لقطاع الصحة الخاص في هذه الظرفية. فثبوت مراوغة هذا الأخير في تحمل أوزار الأزمة الصحية كما لمح بذلك المدير العام للصحة الأساسية في الوزارة خلال إحدى الندوات الصحفية، واستغلال بعض رجال الأعمال الجائحة للمضاربة واحتكار الأدوية وتأكد شبهات فساد في صفقات تصنيع الكمامات، لم يثن الحكومة عن مواصلة استبعاد اقرار مبدأ تسخير المصحات الخاصة ومصانع مستلزمات الوقاية تحسبا لخروج الجائحة عن السيطرة.

نفس الأساليب بنفس النتيجة

قصور مقاربة الحكومة في مواجهة الأزمة تحيل في المقام الثاني إلى انتهاجها لنفس أساليب التعاطي مع الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية التي كانت سائدة قبل الثورة وتواصلت بعدها. فقد اكتفت من جهة بخيار توزيع إعانات زهيدة وظرفية على ضعاف الحال بهدف امتصاص التداعيات الاجتماعية للحجر الصحي وذلك استنادا إلى نفس التصنيفات البيروقراطية التي كانت معتمدة زمن بن علي (العائلات المعوزة والمتمتعون بالعلاج المجاني...)، مع إقصاء لعدة فئات من “اللامرئيين” العاملين في القطاع غير الرسمي والذين تناستهم سجلات الدولة باعتبار عجز المقاربة الإحصائية الرسمية على الإلمام بواقع الفقر والتفاوت المجالي والإقصاء، ومن ثمة استبعدت الالتجاء إلى أية آلية توزيعية ولو جزئية للتعويض عن التهرب الضريبي للنافذين وأصحاب الامتياز. ولم تغير تدخلات الرئيس قيس سعيد من هكذا خيار، وهو الذي اكتفى بالتذكير بمقترح كان دافع عنه في حملته الانتخابية يتعلق بإجراء صلح جزائي مع رجال أعمال متورطين في قضايا فساد مقابل تمويلهم لمشاريع تنموية في المناطق الداخلية دون أن يستتبع ذلك أي إجراء عملي وإلزامي لهم.

ومن جهة ثانية، كُلفت بتوزيع هذه الإعانات على المستوى المحلي نفس هياكل الدولة التي كانت تضطلع بهذه المهمة قبل الثورة، أي المعتمديات والعمادات -الراجعة بالنظر إلى وزارة الداخلية- والتي استعانت في مناسبات كثيرة بالحرس الوطني والجيش لضبط طوابير طويلة من الفقراء الباحثين عن مستحقاتهم في زمن الحجر الصحي. وعليه وجدت المجالس البلدية المنتخبة نفسها -برغم مسارعتها في حالات كثيرة بإحداث خلايا أزمة مفتوحة على مبادرات المواطنين ومشاركة المجتمع المدني- مهمشة في إدارة الوضع الصحي وتداعياته الاجتماعية في دوائرها وغير مؤهلة إلا لتنظيم بعض حملات التعقيم للمنشئات العامة أو توزيع تبرعات المواطنين الغذائية. ما أسفر عن نزاع بين السلط الجهوية وعديد رؤساء البلديات الذين اشتكوا من إقصائهم الممنهج من قبل الولايات وحجب المعطيات عنهم فيما يخص الوضع الصحي في دوائرهم.

سلطات محلية دون موارد حقيقية

يظهر هذا المشهد المرتبك مطبات دمقرطة السلطة المحلية بعد الثورة في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، التي كثيرا ما حجبتها سردية “الاستثناء التونسي الديموقراطي”. فالمقاربة اللامركزية التي أقرها دستور 2014 بوصفها إعادة ترتيب جديد لتوزيع السلطة بين المركز والمحلي قائم على التشاركية المواطنية ورافعة لتنمية أكثر عدالة، فشكلت الانتخابات البلدية سنة 2018 إحدى أهم محطاتها، أنتجت عمليا تنازعا على السلطة وازدواجية عرجاء في الوظائف. فمن جهة نجد مجالس بلدية منتخبة، ذات الأغلبية النهضوية في كثير من المناطق الداخلية والأحياء الشعبية بدون موارد مالية حقيقية، مكبلة ببيروقراطية إدارية محلية نشبت على الزبونية، منزوعة من كل صلوحيه في مجال الرعاية الاجتماعية (تعليم، صحة، نقل...) ناهيك عن أنها لا تتمتع بأية سلطة قسرية لعدم ائتمار الشرطة البلدية بها. ومن جهة أخرى، نجد معتمديات راجعة بالنظر إداريا لوزارة الداخلية التي يشهد الجميع ببقائها عصية عن الإصلاح، وقد تعزز دورها منذ 2013 في سياق مواجهة السلفية الجهادية والتعامل مع الحراك الاجتماعي في الهوامش ثم ثبت في خضم أزمة الكورونا.

أعادت إدارة الأزمة الصحية من قبل السلطة الاعتبار لآليات الحوكمة التسلطية القديمة للهوامش والتي كان قوامها السلم الاجتماعي مقابل شبكة أمان هشة تضطلع المؤسسات الأمنية بالدور الرقابي عليها خارج أية مساءلة مواطنية. وتنذر هذه الأزمة بانعكاسات اجتماعية وخيمة على الطبقات الشعبية والجهات الداخلية التي ستكون حتما الضحية الأولى للركود الاقتصادي الذي يرجح صندوق النقد الدولي أن يكون أعمق ما عرفته تونس منذ استقلالها سنة 1956. وقد بدأت بعد عوارض ذلك في الظهور مع ارتفاع نسبة التضخم ونفاذ مواد غذائية أولية والمضاربة بها في السوق السوداء وارتفاع البطالة وظهور الاحتقان الاجتماعي في الهوامش الحضرية والريفية هنا وهناك.

رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ الذي تحصل على تفويض من مجلس الشعب نال بموجبه صلاحية إصدار مراسيم لغرض مجابهة الجائحة واع بمخاطر الوضع على مستقبله السياسي ومتوجس من احتمال تحول هذا الاحتقان إلى حراك اجتماعي في الهوامش يفضي إلى تضحية الأغلبية البرلمانية بحكومته على مذبح السلم الأهلي، وهو الذي لا قاعدة حزبية له. لذلك وبعد أقل من شهر من بداية الحجر الصحي الشامل، سارعت حكومته وكسابقاتها إلى اللجوء إلى إبرام اتفاقية بقرض جديد من صندوق النقد الدولي حسب آلية التمويل السريع لتغطية النفقات الاستثنائية في مجال الصحة وشبكة الأمان ودعم الشركات المتضررة. كما التزمت بموجبه حال انجلاء الأزمة، بمواصلة السياسات التقشفية وعلى رأسها مواصلة الضغط على كتلة الأجور في قطاع الوظيفة العمومية أي في مجالات الرعاية الاجتماعية بما فيها الصحة.

تفويت حكومة الفخفاخ لفرصة إعادة النظر في ديون تونس الخارجية في وقت تتعالى فيه الأصوات المنادية بإلغاء ديون البلدان الفقيرة او إعادة جدولتها، وإحداثها لمساهمة إجبارية لفائدة ميزانية الدولة باقتطاع يوم عمل حصرا من الأجراء وأصحاب الجرايات يعطي إشارة واضحة عن السياقات التي تتنزل فيها سياسات الحكومة الاجتماعية ويرسم حدود نواياها التنموية. فهل تنجح تداعيات الجائحة في إحداث ثغرات في هذه السياقات؟

وحدها الأسابيع والأشهر القادمة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.