الرقمنة، سلاح تأثير شامل بين يدي السعودية والإمارات

في كتاب له صدر مؤخّراً بعنوان “Digital Authoritarianism in the Midde East” (سلطويّة رقمية في الشرق الأوسط)، يفكّ الباحث مارك أوين جونس، انطلاقاً من قطر، الأدوات الرقمية الجديدة التي تدعم انحراف النظامين السعودي والإماراتي من السلطوية إلى الديكتاتورية. ويُبرز هذان المثالان النموذجيان الاستراتيجيات المخيفة للسيطرة على المعلومات ومراقبة السكان. هنا مقابلة له مع كلير بوغراند، عضو في فريق “أوريان 21” .

كلير بوغراند - بعد نشر كتابك السابق بعنوان “القمع السياسي في البحرين” (Political Repression in Bahrain، 2020) بمنشورات جامعة كامبريدج، لماذا شعرت بالحاجة إلى تأليف هذا الكتاب الجديد؟

مارك أوين جونس- من نواحٍ عديدة، يُعدّ كتابي الجديد امتدادًا طبيعيًا لكتاب القمع السياسي في البحرين. لقد كرّستُ كتابي “القمع السياسي” بالكامل للطريقة التي تعمل بها القوى المهيمنة لإضعاف أو تدمير الحركات الاجتماعية وجميع أشكال المعارضة. إحدى النقاط الرئيسية لهذا القمع السياسي، والتي قمت بوصفها في كتابي عن البحرين، هي وسائل التحكم في المعلومات، وأعني بهذا استخدام وسائل الإعلام والمراقبة والوسائل الأخرى التي تُقولب مساحة المعلومات من أجل إضعاف المقاومة لكيان معين. يتمثل الهدف في استمالة أو إقناع أو تشويه سمعة القوى المعارضة، وتأمين تفوق النظام المهيمن بفضل المعرفة التي يتمتع بها.

كيف يتوافق هذان العملان أو يختلفان عن بعضهما البعض؟

ببساطة، يركّز كتاب “السلطوية الرقمية” بشكل أكثر وتحديدًا على هذا الجانب من القمع. أبرزت دراسة حالة البحرين خلال انتفاضة 2011 الدور المتنامي آنذاك للشبكات الاجتماعية والتكنولوجيا الرقمية في استراتيجيات سيطرة الدولة. ففي حين كان الجميع يتساءل عما إذا كانت الإنترنت والشبكات الاجتماعية ستُمهّد طريق التغيير الديمقراطي، بدأتُ النظر في كيفية استخدام هذه الأدوات لأغراض التحكم والرقابة. يذهب كتابي بصفة أبعد بهذه الفكرة. وعلى الرغم من أن هذه المسألة المحدّدة المتعلِّقة بالتحكم في المعلومات ليست سوى جانب من جوانب القمع السياسي، فإن الطيف الذي أقوم بتغطيته أوسع، لأن الموضوع يخصّ العديد من بلدان الشرق الأوسط، بل وفي أماكن أخرى من المعمورة، وليس البحرين فقط. لذلك يمكننا القول إن الموضوع أكثر تقييدًا، ولكن مجال تطبيقه أوسع.

ما هي الموضوعات والمضامين والمنتجات التي تم تناولها؟ ما هي توقعاتك الرئيسية؟

إنه عمل تجريبي في الأساس، يقدّم عرضا مفصّلا عن عيّنة من العديد من التحقيقات. لقد لاحظت وجود حملات بث أخبار كاذبة وتضليل في جميع أنحاء الشرق الأوسط. تتطرّق الدراسة في نفس الوقت إلى إنتاج المعلومات المضللة والدعاية، وإلى السلطوية والنيوليبرالية. لقد دخل الخليج على وجه الخصوص، من وجهة نظري، في مرحلة “ما بعد الحقيقة”. فالضغط الأقصى الذي مارسه ترامب على إيران، وأزمة الخليج وصعود محمد بن سلمان، كل هذه العناصر أنتجت تغييرات اجتماعية وسياسية استلزمت القيام، في الوقت نفسه، بحملة إقناع لمرافقتها. نلاحظ أن استراتيجيات التأثير هذه هي جزء من قرارات سياسية كبرى، مثل النزاعات أو التغييرات الكبرى في السياسة الخارجية أو الداخلية. وهي كلها أحداث كبرى حصلت خلال السنوات العشر الماضية. كما أطرح الفرضية بأن كلّاً من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هما في النهاية قوى عظمى “متخفّية”، كونهما تمتلكان الإرادة والتكنولوجيا اللازمة للقيام بعمليات تأثير على ثلاث جبهات - داخليًا وإقليميًا ودوليًا-، بطريقة مستمرة وقابلة للتطوير. كما أطرح فكرة أن المسار الذي تتبعه السلطوية الرقمية، الممزوجة بإغراءات “السلطنة” التي تحرّك محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، تُبعد المنطقة عن السلطوية وتدفعها نحو الطغيان.

بالفعل، يمكن للتكنولوجيا الرقمية أن تغيّر طبيعة هذه الأنظمة بشكل جذري عن تلك التي اعتدنا على تعريفها، كونها تفتح المجال للوصول -وكان ذلك مستحيلاً حتى الآن- إلى حياة الناس الخاصة. أعتقد أيضًا أن هذه الأنظمة، باعتمادها على الشركات الغربية العاملة في قطاع “اللوبيينغ” (ممارسة الضغط) وفي التقنيات الجديدة، تُنشئ سلاسل من المعلومات المضلّلة ومن التآزر السلطوي. وتقوم دول الخليج بنشر هذه الأدوات بشكل متزايد خارج الشرق الأوسط، في الغرب وأبعد من ذلك.

هل تشكّل البلدان التي اخترتَ دراستها حالاتٍ خاصة، أم أن استنتاجاتك قد تنطبق على دول الخليج الأخرى، أو بشكل أوسع حتى على أنظمة أخرى، سواء أكانت سلطوية أم لا؟

لقد حدّدت اختياري حقًا بناءً على ملاحظة ملموسة للغاية على الشبكات الاجتماعية، خاصة على تويتر. وقد بدا لي أن المعلومات المضلّلة الأكثر عدوانية وضخامة هي تلك المتأتية من حسابات تدافع عن مصالح السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد تم تأكيد ذلك في ميادين بعيدة مثل ليبيا، والصومال، والعراق أو الولايات المتحدة. قد نُفسّر ذلك بكون هذه المملكات الخليجية الغنية لها، في نفس الوقت، القدرة على تعبئة قدراتها الكبيرة في نشر الأدوات التكنولوجية، وموارد بشرية مهمة لمحاولة السيطرة على المعلومات باللغة العربية. ففي السابق، كان هذا التأثير يُمارَس من خلال صحفيين يتقاضون رواتب سخيّة، وعن طريق شراء أقمار صناعية للبث الإعلامي. أما اليوم، فقد بات الأمر يتعلق بالتحكم في الشبكات الاجتماعية من خلال الأخبار الكاذبة والمراقبة وروبوتات الكمبيوتر والتجسس الصناعي. كما أن التغييرات في اللعبة السياسية تسهّل أيضًا السلطوية السياسية. فعلى سبيل المثال، يشجّع تطبيع العلاقات مع إسرائيل على نقل تقنيات مثل برنامج “بيغاسوس” للتجسّس، والتي يمكن أن تستعملها الأنظمة لاستهداف أعدائها السياسيين والوصول إلى جميع جوانب الحياة الخاصة. نظريّتي هي أننا نشهد ظهور سلطة ذات طبيعة رقمية. وكما هو الحال في النزاعات التقليدية، فإن الدول الكبيرة التي تمتلك أكبر “الجيوش” هي، منطقيًا، الأقوى. وفيما يخصّ التكنولوجيا الرقمية، فإن دولًا مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية (إذا اكتفينا بالدول العربية) هي التي راهنت أكثر على أدوات التحكم الرقمي مقارنة بدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.

كيف ترون أو تقيّمون التغييرات التي أحدثتها الشبكات الاجتماعية في الخليج؟

إنه موضوع واسع، لكن العنصر الكامن هو أن استعمال الشبكات الاجتماعية يفسر جيدًا وبشكل خاص تلاقي المعايير السياسية المحلية مع ما أسميه “التحرر التكنولوجي الجديد”. أستعمل هنا عبارة “التحرر التكنولوجي الجديد” لإعطاء مقابل ساخر لمفهوم “التحرّر التكنولوجي”، تلك الفكرة الخاطئة التي ترى أن التكنولوجيا ستحرّر الشعوب من السلطوية. في الواقع، خطاب التحرر التكنولوجي هو انمساخ لخطاب التقدم الجالب للحضارة، بافتراض أن التكنولوجيا ستحل المشاكل وتجلب الديمقراطية، وبالتالي يعد تطورها من جميع النواحي أمرا جيدًا. لكن في الواقع، تسعى المنصات، كما هو حال العديد من الشركات، إلى تحقيق أرباح ولا تريد قيودًا تمنعها من بيع منتجاتها. فهي تشترك في نفس الهدف مع الانظمة السلطوية: أن تعرف أكثر فأكثر عن السكان. يتعلّق الأمر، بالنسبة للمنصات الكبيرة، ببيع هذه البيانات للشركات التجارية، وبالنسبة للأنظمة السلطوية بتعزيز سيطرتها على السكان. ويُعدّ هذا الالتقاء بين النيوليبرالية وخطابات “التحرر” ركيزة التكنولوجيا النيوليبرالية.

إن تعميم التقبل لتكنولوجيا تتدخل في حياتنا يُنتج تدميرا متناميا للمجال الخاص، وهو يعزّز بالتالي في نفس الوقت من موارد السلطوية أو استغلال المواطنين. يشكّل هذا التحالف الموضوعي الركيزة الضرورية لنقل غير محدود للسلطوية التكنولوجية.