اليمن: قوّاتٌ مُتنازعةٌ واستراتيجيّات مُميتة

بعدَما عرفَت البلادُ فترةَ هدوءٍ خلالَ المفاوَضات التي جرَت في الكويت، عادَ الصراعُ ليحتدِمَ من جديد في اليمن. فأخطاءُ التحالُفِ الذي تقودُه السعوديِّة تتَضاعف. والضغط الذي يمارسُه المجتمَع الدوليّ في تصاعُد، وإن بقيَ خَجولاً. الولاياتُ المتَّحِدة الأميركيّة تحدُّ من تعاوُنِها مع الرياض، في حين تزجُّ روسيا نفسَها في حربٍ لم تُعطِها اهتماماً يُذكر لفترةٍ طويلة. فيما تحاوِلُ الأطرافُ اليمنيّةُ المتنازِعةُ أن تَحظى بالأسبقيّة، في سعيٍ من كلِّ طرَفٍ لتثبيتِ شرعيَّتِه.

في تاريخِ 6 آب/ أغسطس، أعلنَ اسماعيل ولد شيخ أحمد، مبعوثُ الأممِ المتَّحدة، إغلاقَ جَولةِ مباحثاتِ السلام في اليّمن. أُطلِقت تلك المباحثاتُ في 21 نسيان/ أبريل 2016، وقد أتَت بعدَ جولتَين تمَّ تنظيمُهما في سويسرا. لم يتمّ التوصُّلُ إلى أيِّ اتِّفاق، رغمَ طولِ هذه الجَولة، ورغمَ تنوُّعِ الأسئلةِ والمقتَرحاتِ التي طَرحتها الوفود. وَعدَ المبعوثُ الخاصُّ بمفاوضاتٍ جديدة، دون تحديدِ موعدٍ لها. في حينِ انكشفَ الستارُ جزئيّاً عمّا قد تُقدِمُ عليهِ كلٌّ من القِوى المُتنازِعةِ (حُكومةُ الرئيس هادي وتَحالفُ الحوثي /صالح)، على أملِ أن تَضمنَ لنفسِها مَوقعاً أقوى في الجَولةِ الآتِية.

إحكامُ الخِناق على تحالفِ صالح والحوثي

يتوجَّبُ على حكومةِ هادي أن تعملَ على الجبهتَين العسكريَّةِ والاقتِصاديّة. لقد شنَّت القوّات الحكوميَّةُ والقبائلُ الحليفةُ هجوماً جديداً على جبهةِ نَهِم في شرقِ العاصمة صنعاء. إضافةً إلى ذلك، وبعدَ فترةٍ قصيرةٍ من مفاوَضات الكويت، صرَّحَ الناطقُ بِاسمِ التحالُفِ الذي تقودُه السعوديّة أنَّ عمليَّةَ “إعادة الأمل” ستَحظى بدعمٍ جديد. بالإضافةِ إلى جبهة نَهِم، من المتوقَّع أن تحاولَ القوى الحكوميَّةُ وحلفاؤها [التقدُّمَ على جبهةِ الـمأربِ والظهَيْر. >>https://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/publications/research/2016-05-25-yemen-stemming-rise-of-chaos-state-salisbury.pdf]

على الصعيدِ الاقتِصاديِّ، ستحاوِل الحكومةُ وبلدانُ التحالفِ إحكامَ الخناقِ على تحالفِ الحوثي / صالح، وذلك بزيادةِ الضغطِ على وسائلِ الوصولِ إلى المواردِ الماليّة. فالبنكُ المركزيُّ اليمنيُّ الذي ما زالَ في صنعاء، وبالتالي تحتَ سيطرةِ الحوثيّ / صالح، قد تمكَّن منَ تفادي انهيارَ الاقتِصادِ اليمنيِّ كاملاً، وذلك من خلالِ المحافَظةِ على حيادِه واستقلاليَّتِه تجاهَ أطرافِ النزاع، وبالمواظَبةِ على دفعِ رواتبِ الموظَّفين، لا سيَّما لدى الجيش، وذلك دونَ الاكتراثِ إلى الجهةِ التي يصطَفّون معها. بعدَ تهديداتٍ عديدةٍ بنقلِ البنكِ، ورغمَ معارَضةِ المجتَمعِ الدّوليِّ لأيَّةِ مبادرةٍ من ِشأنِها أن تهدِّدَ استقلاليَّةَ البنكِ المركزي، إلا أنَّ حكومةَ عبد ربه منصور هادي خاطبت صندوقَ البنك الدَّوليّ في رسالةٍ رسميَّة، وذلك في 30 حزيران الماضي. يطلبُ هادي في هذه الرسالةِ تجميدَ احتِياطيِّ اليمن والتوقُّفَ عن قبولِ توقيعَيْ حاكمِ البنك ونائبِه الحاليَّين. بعدَ أن “سُرِّبت” هذه الرسالةُ إلى الإعلام قُبيلَ ساعاتٍ من الانتِهاء من مفاوَضاتِ الكويت، صرَّحَ هادي للوكالةِ اليمنيّة الرسمِيَّةِ للأنباءِ سَبَأ أنَّهَ لم يُخاطِب صندوقَ البنك الدولي وحَسب، بَل البنوكَ والمؤسَّساتِ الماليَّةَ بأسرِها، وذلك للغرَضِ نفسِه. إذ أنَّ تفويضَ حاكمِ البنكِ الدوليِّ ونائبِه يَنتَهيان في شهرِ آب/ أغسطس 2017 ، إلّا أنَّ تفويضَ أعضاءِ مجلسِ الحكّامِ ينتَهي مع نهايةِ شهرِ آبَ 2016، وقد أعربَ هادي بِوضوحٍ عن نيَّتِه باستِبدالِ الأعضاءِ الحاليّين برجالاتٍ أكثرَ ولاءً وذوي مواقفَ مناهضةً للحوثي وصالح. وفي حينِ أنَّ الاحتِياطيَّ الماليَّ اليمنيَّ بدأ يَنضُبُ، أَعلنت دوَلُ مَجلسِ التعاونِ الخليجيِّ بوضوحٍ أنَّها لن تضخَّ رؤوسَ أموالٍ في البنكِ المركزيِّ لإنقاذِ الاقتِصاد اليمنيِّ المُنهار. يبدو الأمرُ وكأنَّ هادي والحِلفَ السعودِيَّ يهدفان إلى الضغطِ على تحالفِ صالح والحوثي، على أملِ أن يَعجزَ هذا الأخيرُ عن دفعِ رواتِبِ القطاعِ العامِّ، ممّا يؤدّي إلى انهِيارِ الاقتصاد ومن ثَمَّ إلى الغضبِ الشعبيّ.

“المجلسُ السياسيُّ الأعلى” المعارِض

سيَعملُ تحالفُ الحوثي/ صالح على الجبهتَيْن السياسيّة والعسكريّة. على الصعيدِ العسكري، شنَّ هذا التحالفُ هُجوماً في عُمقِ المناطق الريفيَّةِ في محافظةِ تعز المحاذِيَة لمحافظةِ لَحج، من أجلِ السيْطرةِ على آخرِ طريقٍ لوجيستيَّة تصِلُ تعِز بالجنوب. كذلكَ يقومُ هذا التحالفُ بإرسالِ قوّاتٍ جديدةٍ إلى جبهةِ مأرب، محاوِلاً في نفسِ الوقتِ المحافَظةَ على مَواقعِه على جَبهاتِ الجوفِ والشبوَة والبيضاء.

كما أنَّ تحالفَ الحوثيِّ/صالح أعادَ تسمِيَةَ الحرسِ الجمهوري للوحدةِ النخبويَّةِ التي كان هادي قد سحبَ عنها هذا الاسمَ وأطلقَ عليها لقبَ القوّاتِ الاحتِياطيّة. وحظِيَت هذه الفرقةُ بتمويلٍ جديدٍ لزيادةِ التدريباتِ العسكريّة. تبدو هذه المبادرةُ رَمزيّةً، إلا أنَّ الرسالةَ واضحةٌ، وهيَ إعادةُ تأهيلِ البُنى التي كانَت قائمةً إبّان حكمِ صالحَ لتُشاركَ في المعارِك. أكثرَ من ذلك، يتوجَّب على تحالُفِ الحوثي/ صالح أخذَ زِمام المبادرات السياسية . وقد بدأ بذلك، إذ أعلنَ تشكيلَ مجلسٍ سياسيٍّ أعلى يتكوَّنُ من عشرةِ أعضاءَ ينحدِرون من المؤتمرِ العامِّ للشعب (وهو حزبُ صالح) ومن الحوثيّين. باشَرَ التحالفُ بتحضيرِ مجموعةِ إجراءاتٍ إداريّةٍ بعد تعيينِ أعضاءِ المجلسِ في تاريخِ 6 آب/ أغسطس 2016، في اليومِ نفسِه الذي انتهَت فيه المفاوَضات. بدايةً، يؤدّي استِلامُ المجلسِ تفويضَه تلقائيّاً إلى تَعليقِ الإعلانِ الدستوريِّ للحوثيّين العائد إلى شهر شباط/ فبراير 2015، كما يعلِّق في نفسِ الوقتِ اللجنةَ الثوريّةَ العليا التي كانَت قد نُصِّبَت في نفسِ السياق. يَذكُرُ النصُّ الذي بِحُكمِه تمَّ إنشاءُ المجلسِ أنَّ هذا الأخيرَ سيعمَلُ على صياغةِ دستور، وهي طريقةٌ للطعنِ بسلطةِ هادي وحكومتِه. في المرحلةِ الثانيَةِ، سيتمُّ عَقدُ جلسةٍ للبرلمانِ اليمَنيّ.

في النهاية،ثمّةَ أحاديثُ يتمُّ تداولُها، أنَّ المجلسَ السياسيَّ الأعلى الجديد قد يعيِّنُ بنفسِه مجلسَ حكّامِ البنكِ المركزيِّ، بهدفِ إلغاءِ أيِّ تعيينٍ قد يُصدرُه هادي. وفي حالِ قامَ كلُّ فريق بتعيينِ مجلسِ إدارةٍ خاصٍّ به، سنشهَدُ إنشاءَ بَنكيْن مركزيَّيْن، كما في ليبيا.

الخطّةُ البديلةُ للمجتمَع الدوليِّ

حافظَ المجتمعُ الدوليُّ حتّى اليوم على نظرة موَحَّدة إلى الوضعِ في اليمن، من خلال دعمِه ودونَ التباسٍ حكومةَ هادي الجهودَ التي يبذلُها مبعوثُ الأمَمِ المتَّحدة للتوصُّل إلى اتفاقِيَّةِ سلام. إلّا أنَّ الضغوطَ تتصاعدُ في ضوءِ تعثُّر المفاوَضات من أجلِ البحث عن خطَّةٍ بديلة. جُلُّ الحديثِ يدورُ حولَ التخلّي عن فكرةِ اتِّفاقٍ سلميٍّ وطنيٍّ ،والمباشرةِ بالعملِ مع القوى المحليَّة في مختلفِ مناطقِ اليمن لتثبيتِ الأمنِ والاستِقرارِ قدرَ الإمكان. من المرجَّحِ أن تكونَ نقطةُ الانطِلاقِ من منطقةِ حضرمَوت، حيث تَعتزِم الولاياتُ المتَّحدة الأميركيَّة، بشراكةٍ مع الإماراتِ العربيَّة المتَّحدة، اعتِمادَ نموذجِ حلٍّ من المفترَضِ أن ينجَح، لكونِه مَدعوماً من القبائلِ وأوساطِ الأعمال في المِنطقة. على عكسِ احتِمالِ وجودٍ عسكريٍّ وتأثيرٍ لدولةِ الإمارات أو السعوديّة في حضرمَوت أو عدن، ودون أن يَلقى ذلك شَجْباً دولياً، فإن أيَّةَ محاولةٍ أحاديَّةِ الجانبِ من قوّة عُظمى لبسطِ هيمنتِها على إحدى مناطق اليمن ستفتحُ البابَ أمامَ الدوَلِ الكبرى الأخرى التي ستُحاولُ بسطَ هيمنتِها على مناطقَ أخرى (أوّلُها روسيا التي تَدعمُ تحالفَ الحوثي /صالح في الشمال).

تعرفُ كلا القوَّتيْن المتنازعِتَيْن أنّهما لن تتمكَّنا من إحرازِ انتِصار تامٍّ في حلولِ جولةِ المباحَثات القادِمة. منَ المؤلِم أنَّ مئاتِ، لا بل آلافَ الأرواحِ ستُزهَقُ في تلكَ الأثناء، فقط لضمانِ موقعٍ أقوى على طاوِلة المفاوَضات.