ولادة أقليّة كرديّة في العراق

عواقبُ تَناقضات السياسة البريطانيّة في العراق · أعلن رئيسُ حكومة إقليم كردستان العراق عن إجراء استفتاءٍ بخصوص استِقلال كردستان العراق، ممّا يذكِّر كم باتَ من الطبيعيِّ الحديثُ عن أقلِّيَّة كرديّة في العراق. كانت عصبةُ الأمم قد أوكَلت المملكة المتَّحدة مهمَّةَ التطوير السياسيِّ لبلادِ ما بين الرافدَين الواقِعة تحت انتدابهِا باتِّجاه الاستقلال، وتمَّ طمأنة الكرد حينذاك فيما يتعلَّقُ بمطالبهم المُتعطِّشة للاستقلال، من خلالِ المعاهداتِ والتصريحات. كيفَ يمكنُ فهمُ تطوُّر وضعِهم من شعبٍ بكامل المواصفاتِ إلى أقلِّيَّة؟

.الشيخ ملّا محمود برزنجي وقد نفاهُ البريطانيّون إلى الهند
قبل 1923

كان الكردُ يشكِّلون تحتَ الحكمِ العثمانيِّ مجموعةً سكانية كغيرِها، إسوةً بالعرب والدروز ، والأشوريين والأتراك، إلخ. وفي تلك الامبراطورية، لم يكُنْ لمفهومِ “الأقلَّيَّة” مَعنى، وكان المعيارُ الإداريُّ العثمانيُّ المبنيُّ أساساً على نظام “الملة” الطائفيّة1 يصب ُّلصالح الأغلبيّة الكرديّة التي كانت سنِّيَّة. في منتصف القرن التاسع عشر، تجلّى تضاعفُ سلطة اسطنبول في بلاد ما بين النهرين، من خلالِ تصاعدِ نفوذِ النخب المحليَّة على حساب السلطة المركزية. لمعالجة هذه المسألة، بدأت فكرةُ إصلاحٍ يحملُ اسمَ التنظيمات تسودُ خلالَ العقد 1830. وكانَ هدفُ هذا الإصلاح تعزيزَ مركزيَّة السلطة من خلال تعيينِ شخصيَّات مخلِصة للباب العالي، وتخفيفَ نفوذِ شيوخِ العشائر السياسي. نتجَ عن ذلك مركزيَّةٌ فعليّةٌ للسلطة، تعتمِدُ على استقلاليّة الأفرادِ على حساب المنطق القبلي. لم يسلَمْ الكردُ من تلك القاعدة. ولئن بقيَت الإدارةُ العثمانية تعتمِد على الزبائنيّة الأقليَّة في الحكم، كانت الديناميّة العامًّة تذهبُ باتجاه ضعفِ المحلوِيَّة(localisme) لمصلحة السلطة المركزيّة.

“الحكم غيرُ المباشر” الذي قرَّرَته لندن

في عام 1920، حين أُخِذ قرارُ وضعِ العراق تحتَ سلطة الانتِداب البريطاني، كانت ثمَّة نظريَّة تضرب أطنابَها في دوائر الإدارةِ الامبراطوريّة البريطانيَة، وهي نظريّة “الحكم غير المباشر”. تمَّ التنظير في هذا المفهوم من قبلِ اللورد فريدريك لوغارد Frederick Lugardعام 1922 وتنصُّ النظريّة على إدارة المستعمَرات من خلال الاعتِماد على النُخب المحليَّة، وذلك حرصاً على الثقافات المحليَّة، ولغايةٍ هي في نهاية المطاف أن تجدَ الوجاهات المحليَّة مصلحةً له بخدمةِ المصالحِ البريطانية. واستلَم الإداريّون البريطانيّون مناصبَهم كمُستشارين سياسيّين على الأرضِ في العراق في بداية العقد 1920، محاولين بناء علاقات وُدِّيَّة مع المشايخ المحليّين، ليضمنوا طاعةَ القبائل المحليَّة التي كانت تحتَ سيطرتِهم. كان هدفُهم ببساطةٍ في تلك المرحلة المحافظةَ على الوضع في كردستان العراق، في غيابِ استراتيجيَّة واضِحة لدى لندن فيما يخصُّ مستقبلَ تلك المنطقةِ التي طالبَت بها فرنسا، ثم تركيا الكماليّة حتى 1925.

نجح البريطانيّون بمهمَّتهم هذه بفضلِ معرفتِهم للتاريخ الكرديِّ وتملُّكهم للّغاتِ المحلِّيَّة (الكرمنجي والغوراني). ولكنَّ المستشارين السياسيّين البريطانيّين الذي يُفضِّلون على استراتيجيَّةٍ سياسيَّةِ شاملة لكردستان العراق، لعبةَ الزبائنيّةِ القبليّة التي تروِّجُ لها نظريَّةُ “الحكم غير المباشر”، وجدوا أنفسَهم من غيرِ درايةٍ في مواجهةِ الديناميّة المركزيّة الدامِجةِ التي انجزَتها التنظيماتُ بعد جهدٍ جهيد. ما فعلوه هو عمليّةُ زرعٍ لنظريَّةٍ استعماريّة رائجةٍ في الإدارة، على ممارسةٍ إداريّةٍ قديمةٍ مبنيّة أساساً على الزبائنية. لا بل أسوأَ من ذلك، قوَّض البريطانيّون من السلطةِ الأصليّة للمشايخِ الأوفياء لهم في المجتَمعات المحليّة، إذ أوكلوا هؤلاء المشايخ نفوذاً واهِياً، مما أدّى أحياناً إلى نزاعات داخليّة على السلطة القبليّة. وبحكمِ نظرتهم المستشرِقة، كرَّس البريطانيّون القراءةَ العشائرية على أنَّها المفتاحُ الأوَّلُ للتفسيرِ السياسيِّ لوضعِ كردستان العراق، وباتوا عاجزين عن الاعتِراف بموروثِ سياسةِ التنظيمات المركزيَّة التي أتَت بتأثيرٍ من الغرب وقامَت بها جمعيَّةُ الاتِّحاد والترقّي2بعد ثورة 1908.

فنُّ الإدارةِ المحلِّيَّة

اعتبرَ البريطانيّون أنَّ دعمَ المنطق العشائريَّ يشكِّلُ المعيارَ الإداريَّ، ممّا ربطَ المحافظةَ على النظامِ بنوعيَّة العلاقاتِ الشخصيَّة بين شيوخِ العشائرِ الكردِ والمُستشارين السياسيّين البريطانيّين. وأصبحَت إدارةُ المنطقةِ “فنّاً” تَتوجَّب فيه الفطنةُ تجاهَ حساسيّات الوَجاهات كما يتوجَّب فيه أخذً الصراعات العائليّة بالحسبان. فكان لكلّ مُستشارٍ بريطانيٍّ رأيٌ خاصٌّ مستقلٌّ فيما يتوجَّب عملُه تجاهَ الكرد، رأيٌ كوّنَه وفقاً لنوعيَّة علاقاتِه بشيخِ المنطقةِ الواقعةِ تحتَ إدارتِه. في تلكَ الغضون، كان العراقُ العربيُّ في طورِ التشكُّل، ولندن عاجزةٌ عن تحديدِ سياسةٍ شاملةٍ تجاهَ الكرد. وفي حين تفاوتّت آراء “الخبراء” البريطانيين حولَ كردستان العراق (سيسيل إيدموندز Cecil J. Edmonds، والاس ليون Wallace Lyon، روبرت هاي Rupert Hay، إ. نويلE. Noel ، إلخ) وجدتُ القنصليّة في بغدادَ وهي مركزُ السلطة البريطانيَّة في العراق، نفسَها في وضعٍ غيرِ مريحٍ، حيث لم تتلقَّ تعليماتٍ واضحةٍ من الجهات العليا، في حين كانت تتلقّى آراءً متضاربةً من الأرض. أدّى هذا اللغطُ إلى صعوبةِ تقييمٍ موضوعيٍّ لواقعِ الرأي العامِّ الكردي لدى القنصليَّة وتأكيدِ الرأيِ البريطانيِّ المُسبَقِ. يقول هذا الرأي بوجودِ خصوصيَّةٍ ثقافيَّةٍ ليسَ أكثرَ لكردِستان العراق - وهذا أيضاً إرثٌ استِشراقيٌّ مَحض- ، وإنَّ كردستان العراق مُنقسِم سياسياً بحكمِ الانقِسامات العشائريّة، وبالتالي ليسّ ممكناً أخذُ المطالبَ الكرديّة بالاستِقلال محملَ الجد. مع أن تلكَ المطالبَ تضاعفت خلال النصف الثاني للعقد 1920، على شكلِ عرائضَ أُرسِلت إلى اللجنةِ الدائمة للانتِداب في عُصمة الأمم.

بالإضافة، تمَّ التعامل مع المبادرات الكردية لتوحيد كردستان العراق، بقسوةٍ شديدة من قِبل سلطة الانتداب. لقد تمَّ تأويلها على أنّها محاولةٌ غير مبررَّة لهيمنة قبيلة كرديّة تقودُها شخصيّة لديها جنونُ العظمة على القبائلِ الأخرى، كما في حال ثوراتِ الشيخ محمود البرزنجي ، أو على أنّها نتيجةُ تدخُّلات خارجيّة. في القراءةِ الأخيرة، كانت كلُّ محاولةٍ وطنيَّةٍ كرديَّةٍ مسلَّحةٍ تُعتَبر منظمةً من قبل الأتراكِ أو الإيرانيين تهدفُ إلى زعزعةِ الإدارة البريطانيّة. وتبعاً لتقييمٍ مسبَق، يعتبَر مجتمعُ الكردِ شديدَ التنافر بحكمِ انقسامِه إلى قبائل، ليسَ بمقدورِ أهلِه المطالبةُ بالاستِقلال من تِلقاء نفسهم. ومن هنا، فأيَّة حركةٍ كرديّةٍ وطنيَّةٍ هي بطبيعةِ الحال عُرضةً للاستِغلال من قبلِ جهاتٍ أخرى، ولذلك توجَّبَت محاربتُها، للمحافظة على أمنِ المنطقة ولمصلحةِ الكردِ أنفسِهم.

في مرآة عصبة الأمم

في عام 1925، تمَّ نشرُ تقرير صادر عن لجنةِ التحقيق التي أرسلَتها عصبةُ الأمم. ينصُّ التقرير على إعطاءِ ولايةِ الموصل للعراق المُنتدَب (إحدى الولايات الإداريّة الثلاث في شمال العراق)، وذلك على حسابِ تركيا، بشرطِ أن تتأكّدَ عصبةُ الأُممِ من احترامِ خصوصيَّة الكردِ من قِبَل العراقيّين العرب في حالِ إعلانِ الاستِقلال، ممَّا وضعَ بريطانيا في وضع حرج. فمن جهة وجدت بريطانيا نفسَها مُلزَمةً بالتعاملِ مع النسيجِ الكرديِّ المنحلِّ بفعلِ سياسةِ الزبائنيّة العشائرية، وبالتالي غيرَ قادرةٍ على المحافظةِ على مصالحِها في مواجهة الحكومة العراقيّة المركزية. من جهة أخرى، و في حزيران 1929، ألزمَ نجاحُ حزب العمال البريطاني الذي ألحَّ على ضرورةِ الانسحابِ السريع من العراق (فقد وعدَ هذا حزبُ بإنهاءِ الانتداب المكلف والقليلُ الشعبيَّة في بريطانيا)، المملكةَ المتحِّدة في نهايةِ العقد 1920 على الأخذِ على مَحمَل الجدِّ بمطالب الكرد بالدفاعِ عن خصوصيَّتهم الوطنيَّة. ففرضَت القنصليَّة البريطانيَّة على الحكومةِ العراقيَّة استعمالَ اللغة الكرديَّة عوضاً عن العربية رسميَّاً في المناطقِ الكردية، وتعييِنَ موظَّفين يتكلَّمون الكرديَّة، واستعمالَ اللغة الكرديّة في كتب المدارس. ولم يستهجِن أحدٌ أن لا يتمَّ تعيينُ هيئةٍ سياسيّة تمثِّل الكردَ على مستوى العراق. من الصعب القولُ إن كان البريطانيّون يَعون مدى تأثيرِ سياستِهم في كردِستان العراق. في المرحلةِ الأولى، أتوا إلى تقويضِ أيَّة محاوَلةٍ للتوحيدِ ولإنشاءِ مركزيَّة سياسيَّة في كردستان، بحكمِ رؤيتهم المستشرِقة التي لا تأتَمِنُ الكردَ على قدرتِهم بالمطالبةِ بهويَّة سياسيَّة مشتركة تتجاوزُ إطارَ القبيلة. مطلبٌ كهذا، كان لَيُنظر إليه من قبل الإداريّين البريطانيين، على أنَّه مفهومٌ ذو نَفَس أوروبيّ، هو عينُه الذي ألهمَ التنظيماتِ ثمَّ ثورة 1908. إلا أنّض الكردَ في نظر البريطانيين كانوا مُنقسمين أساساً. تلك بنظرِهم طبيعةُ الكردِ عبر القرون، ممّا سمحَ للـ“حكم غيرِ المباشر” بالتفاعلِ مع انقسامٍ اعتُبِر جوهريّاً. وهكذا، حالَ البريطانيّون عملياً، في ظلِّ استراتيجيَّة ضبابيّة كاملة، دونَ تكوينِ كردستان عراقيّ مستقِلّ، وذلك بتجاهلِ العرائض المطالِبة بالاستِقلال، وبقمعِ الثورات. بعد ذلك، وفي وقتٍ كان فيه العراق مُتَّجهاً نحو الاستِقلال في نهايةِ العشرينات، اضطرَّ الإداريّون إلى تطبيقِ التعليماتِ التي فرضَتها عصبةُ الأمم والتي ترسِّخُ الخصوصيَّة الكرديَّة في العراق. وزرَعوا بذورَ تواجُدِ الكرد في العراق على أنَّهم أقلِّيَّة مٌقتنِعة بوجودِها الثقافي المعترَف به قانونيّاً، ولكنَّها غيرُ قادرةِ على إدارةِ شأنِها السياسيِّ في الإطارِ الوطنيِّ المطروح. فلا هي أقليَّة مُستقِلَّة، ولا هي مُندمِجة، واضطرَّت الأقليَّة الكرديَّة التي تخلَّت عنها بريطانيا أن تعيشَ كأقلِّيَّة صامتة، أحياناً مُضطَهَدة، على مدى سبعين عاماً.

1نظامُ إدارةِ شؤونِ الطوائف، يُسمح لها بانتِخاب ممثِليها الدينيّين، وبإدارةِ الأحوالِ الشخصيَّة لأبنائها.

2جمعيَّةُ الوحدة والترقّي معروفةٌ أيضا تحتَ أسمِ تركيا الفتاة، وهي حزبٌ سياسيٌّ أخذَ الحكمَ عام 1908، وقام بعمليَّة تحديثٍ للامبراطوريّة. كان مصطفى كمال أحدَ أعضائها الأكثر تأثيراً.