سوريا: موسكو في المأزق

بعد مساعدتها في تسهيل الانتصار العسكري لبشار الأسد، فإن على روسيا أن تجد حلا سياسيا للصراع السوري، هي المدفوعة بالرغبة في تقديم نفسها كصانع سلام على المستوى الدولي. غير أنها تجد نفسها متورطةً في فخ هي التي صنعته، ومع حليف لا يرضى بأقل من سحق خصومه.

فلاديمير بوتين وبشار الأسد. ٢١ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٧.
Service de presse de la présidence russe, kremlin.ru

تبحث موسكو عن حل سياسي للنزاع في سوريا، مدفوعة برغبة بفرض نفسها في المسرح الدولي كصانع سلام. ولكنها تجد نفسها اليوم في الفخ الذي نصبته، يجرّها بشار الأسد إلى مخرج يقرره السلاح.

موسكو تنشط. لا مجال للبقاء أسيرة مأزق، تضع فيه سمعتها الدولية على المحك فيما هي تسعى إلى إعادة رسم العالم بخط يدها. لقد أرادت تحمل مسؤولية النزاع السوري، وتعرف أن عليها إعطاء نتائج. ولكن ما يطلق عليه اسم نزاع لا يكف عن التفرع والتعقُّد دون أن تقلّ خطورته. حيث أن كبرى القوى الإقليمية والقوى العظمى تواجه بعضها البعض على الأراضي السورية بشكل يزداد مباشرة بمرور الوقت. “في عام 2015، كانت موسكو تعتقد فعلاً أن بشار قد يسقط خلال ثلاثة أشهر وأن الدولة ستنحلُّ تماماً، ما أثار قلق الكرملين الشديد، برأيي. أما الآن فقد تغيرت المعطيات، وتمت إعادة بشار إلى منصبه. ومن حينها أخذ زمام المبادرة. لقد جرنا السوريون إلى الغوطة الشرقية على مضض منا في الواقع. ونحن الآن في طريق مسدود” هذا ما قاله لنا المختص في الشرق الأوسط، نيكولاي كوجانوف، من الجامعة الأوروبية في سان بطرسبورغ.

فشل مؤتمر سوتشي

لجنة المختصين بالشرق الأوسط الروسية، مهما كانت قريبة من الكرملين، تعترف بكل طواعية بأن روسيا تجد نفسها في مأزق على الأراضي السورية. ما كان سبباً في فشل مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي أجري في سوتشي في 29 و30 كانون الثاني/يناير الماضي، والذي حكم عليه المراقبون الروس الذين التقينا بهم حكماً قاسياً. عدد كبير من المعارضين السوريين، وهم أكراد وسنة في أغلبهم، رفضوا المشاركة به، بتشجيع من عرابيهم في الخارج، وفق ما يقال في موسكو بكثير من التأفف. بعض معارضي بشار، الذين قدموا من أنقرة، قاموا بالرحلة لكنهم لم يخرجوا من مطار سوتشي لأنهم رأوا الأعلام الرسمية السورية، ذات النجمتين، معلقة بأعداد كبيرة.

ولكن هناك من يشدد أيضاً، على سبيل المثال، على أن 2500 موفداً سورياً شاركوا في هذا المؤتمر. قال فاسيلي كوزنيتسوف، الباحث في معهد الدراسات الشرقية في موسكو المشهور: “هذا ليس فشلاً، إلا إن كنّا ننتظر منه أكثر من الممكن. لم يكن من المطروح أكثر من تأسيس حوار، لا مفاوضات. في المجالات الأربع التي تعمل عليها الأطراف للخروج من الأزمة، وهي الانتقال السياسي، ومراجعة الدستور، والانتخابات، ومسائل الأمن والإرهاب، لم تكن الحكومة السورية تقبل الحديث إلى حينه فيما سوى الموضوع الأخير. ولكن في سوتشي، كان هناك خطوة أولى في موضوع الدستور، وتأسيس لجنة موكلة بكتابته”

أما بالنسبة لينكولاي كوجانوف، فهو فشل بكل تأكيد، خصوصاً أن اللجنة الدستورية نفسها أقيمت على أسس مشكوك فيها. “في الواقع، ليس لدى موسكو أدنى فكرة عن كيفية حل المشكلة السورية. ولذا، من أجل أن تبقى سيدة الموقف وتستر هذا الفراغ، تغير قوانين اللعبة باستمرار حين تأخذ مبادرات جديدة”. ولكن، حسب جوكانوف نفسه، إن كان سوتشي فشلاً، فذلك كان من ناحية نتيجة عدم التحضير له والمعرفة المنقوصة لأطراف النزاع المفاجئتين، ولكنه أيضاً نتيجة تضارب نوايا منظميه " ملف مؤتمر سوتشي كان بين يدي وزارة دفاعنا، التي كانت تسعى إلى التصدي لعملية جنيف، وبين يدي وزارة الشؤون الخارجية التي لم تكن توافقها في هذا التوجه. ما يفسر الجهود الكبيرة التي بذلتها الخارجية لإحضار ستافان دي ميستورا، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة.

بشار الأسد كمشكلة

من الممكن أن يكون مؤتمر سوتشي مجرّد زوبعة هدفها الإقناع بأن الروس يعرفون في اتجاه يذهبون، أو اختبار البعض، ولكن يبدو أن هناك في موسكو من يعمل بجد لإيجاد سبل خروج. فالصحافة الروسية تتحدث عن استراتيجية جديدة يقال إنها توضع في الكرملين. ويُستشفُّ من النقاشات مع الخبراء وجود فضاءات تمنح بعض هوامش المناورة. “بشار ليس رجلنا. إن كانت روسيا تدعمه، فذلك لأن لا بديل له إلى حد اللحظة. أوجه سؤالي إلى الغربيين: هل لديكم أحد يحل محله؟ لقد تمكنّا على الأقل معه ومع جيشه، مهما بلغت وحشيتهم، من إعادة الاستقرار على الأرض والحفاظ على عمود فقري حكومي ومؤسساتي في هذا البلد.” قال لنا حاسماً روسلان ماميدوف، منسق برنامج مينا في المجلس الروسي للشؤون الدولية، أحد خلايا تفكير السلطة الروسية.

في سيل التصريحات هذا، تظهر فكرة وجوب نقل السلطة جزئياً إلى غير الأسد. وذلك، إن استلزم الأمر، مع إبقاء الأخير في منصبه الذي يمكن أن يفرّغه الدستور الجديد من ميزاته. “المقاربة الروسية هي دعم وتشجيع حل سياسي والدفع إلى إصلاح للسلطة وإعادة بناء الجيش ليكون نوعاً من الدعامة لسوريا الجديدة، سوريا ما بعد الحرب” قال ماميدوف موضّحاً“وهناك أشخاص من محيط بشار الأسد، عسكريون وغير عسكريين أيضاً، قادرون على ان يحظوا بقبول أكبر من قِبل المعارضة. موسكو تأخذ المعارضة بعين الحسبان، وإن كانت قد تخلت عن السفينة في بعض الأحيان. فهي ليست خارج اللعبة تماماً بالضرورة. تحاول موسكو تسهيل البحث ع حل. ولكن في العمق، مسألة إيجاد الحل تبقى على عاتق السوريين. وعليهم هم أن يقرروا من سيكون رئيسهم وكيف سيكون دستورهم.”

الكثيرون، من بين “المستشرقين” على الأقل، يقولون إنهم يدركون جيداً أن بشار الأسد لم يعد قادراً على لمّ شمل السوريين، وأنّه المشكلة بحد ذاتها. ويقال إن الحديث عن استبدال الرئيس السوري ليس أمراً محظوراً في الكرملين وفي وزارة الشؤون الخارجية على الأقل، وحتّى في وزارة الدفاع.“لكن الأمر أضبح في غاية التعقيد. فبعض المعارضون السوريون يقولون لي أن بشار قام بحملة تنظيف في محيطه ولم يعد هناك أي أحد. ثم أنه تمكن تعزيز سلطته عن طريق تحالفات بالغة التعقيد مع قبائل البلد. لذا فإن سحبه من اللعبة اليوم، يعني المخاطرة بانهيار كل شيء من جديد” قال نيكولاي كوجانوف معبّراً عن خشيته.

فكرة أن يكون فلاديمير بوتين قد أصبح رهينة بشار لأسد مقبولة إلى حد كبير في موسكو. ولكن ما العمل؟ يتساءلون. فالتخلي عنه الآن لم يعد وارداً، لأنه يعني إنكار أسس الالتزام الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015 أولاً، والمخاطرة بانهيار توازن هش بني حول الأسد ثانياً. بالإضافة إلى ذلك، وفق ما يتردد بشكل غير رسمي في روسيا، فإن الكرملين يسعى إلى المضي حتى النهاية لإثبات أنه لا يجب السماح للشعوب بإسقاط حكّامها باسم ديمقراطية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الفوضى. ومن وقت إلى آخر، يصف المختصون الروس، الذين يتمتعون بمصادر جدّية نوعاً ما، تعقيد مهمة بشار الأسد نفسه. فوفقاً لرواياتهم يحاول أخوه ماهر الأسد، وهو المسؤول عن معظم أجهزة القوات السورية، أن يفرض عليه مساراً متطرفاً. ووفق نفس الروايات فإن الأخير حاول حتى "القيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس بدعم من إيران" في كانون الثاني/يناير 2017.

أما أن يقضي طرف على الآخر، وإما التفاوض

هذا الواقع، أي إمكانية وجود منافسة مع طهران للتأثير على قرارات دمشق، بالإضافة إلى رغبة أظهرتها موسكو في خلق حل سياسي في سوريا، تحمل روسيا على البحث في صفوف المعارضة عن أشخاص قد يكونون مستعدين في لحظة ما لتقديم تنازلات للحكومة السورية. قال فاسيلي كوزنيتسوف مؤكداً: “مؤتمر سوتشي كان صيغة موسعة من حوار سياسي، من المجتمع المدني السوري. لا أعتقد بضرورة المتابعة، وتحويله إلى صيغة ثالثة من صيغ الحوار الدورية. فلا أحد من المسؤولين الروس يود إنهاء عمليتي جنيف أو الإستانة. ولكن بالنسبة لأصحاب القرار عندنا، من المهم جداً أن يكون المخرج من الأزمة مشرعناً من قبل السوريين أنفسهم، على مستوىً وطني. يود السيد بوتين أن يتمّ الاعتراف بنجاحه كصانع سلام من قبل المجتمع الدولي”.

ومن هنا يبدو أن روسيا تعمل لرصد بعض المجموعات المقاتلة من بين السبعة آلاف مجموعة الموجودة في سوريا، ومن ثم التفاوض معها. كما شرح لنا كونستانتان ترويفتسكي من معهد الدراسات الشرقية، على سبيل المثال: “على الضفة الشرقية للفرات، يوجد بشكل رئيسي عشائر عربية سنية. حين استولت داعش على المنطقة، تمّ أخذ شيوخ العشائر كرهائن لإجبار شباب المنطقة على الانضمام لداعش. ما إنّ تمّ تحرير الشيوخ، الذين تتبعهم عشائرهم بشكل كبير، حاولوا الدخول في البنى الجديدة من الحكم المحلي. وهكذا وجدوا أنفسهم مع الأكراد بشكل خاص، الذين كانوا يشكلون جزءاً من قوات سوريا الديمقراطية التي هزمت داعش، والتي يمكن اعتبارها حليفة لبشار. هذا يعني ان هذا الجزء من البلد سيكون تحت سيطرة السنة عاجلاً أم آجلاً، وهم بالتالي على خلاف مع نظام دمشق. ولكن تعاونهم الحالي يدع مجالاً للأمل بإمكانية الوصول إلى تسوية.”

لعبة استراتيجية غير مباشرة وبمجهولات عديدة. برأي السيد ماميدوف “يترافق هذا مع مسألة إدماج مجموعات مسلحة معارضة في بنى وزارة الدفاع الموالية لدمشق. لا تزال هذه الناحية غير واضحة. لأننا لا نعرف ما الذي سيقرره الكفاح على الأرض ولا ما سيقوم به بشار فيما يتعلق بالعفو”

مهما كان الأمر، يبدو أن روسيا تراهن على إضعاف المعارضين على الأرض. ومعركة حلب هي نموذج لهذا: فلنضعف المعارضين، من المؤكد أن هذا سيزيدهم استعداداً لتقديم تنازلات. كما أكّد روسلان ماميدوف: “بعد النصر العسكري، سيرضخ المعارضون وسيقبلون الحوار مع نظام الأسد. هناك حلان في الوقت الحالي: إما أن تقضي جهة على أخرى، أو تجرى مفاوضات. يمكن أن نجد هذا مؤسفاً، ولكن يبقى الأسد في نظر الكرملين أقل سوءاً من الجميع. من يريد أن ترأس النصرة أو داعش سوريا؟ تريد روسيا حلّاً سياسياً، وسوريا علمانية”

العودة إلى المربع صفر؟

ويقرّ الأخير أن الذين لا يستطيعون مفاوضة نظام دمشق سيبقون في الخارج. “الحل السياسي” الذي ترجوه موسكو، والذي ترسمه بنفسها، يشبه أكثر ما يشبه حلاً عسكرياً بحتاً. كتب المؤرخ رومان تاسيت يوماً: “إينما أقاموا صحراءً، قالوا إنهم أقاموا السلام”. نيكولاي كوجانوف لا يعتقد“أن سوريا ستصبح صحراء، وهذا ليس ما تريده موسكو. نرى هذا في الغوطة الشرقية. لا شك في أن هناك رغبة من طرف الروس بإضعاف المعارضة لإجبارها على الجلوس على طاولة المفاوضات. ولكن الجميع هنا يفهم أن من كان الروس يلقبونهم بالـ”إرهابيين“حتى كانون الثاني/يناير 2017، أي موعد أول لقاء في الاستانة، هم معارضون في الواقع، وأن أسلحتهم لن تنزع منهم قريباً لأن لهم جميعاً عرابون أقوياء في الخارج، كالسعوديين والأتراك والأمريكيين”

هذا يعني أنّ موسكو بدورها تعوّل على هؤلاء العرابين لإجبار دمشق على الحوار. ولكن بمرور الوقت يستعيد بشار الأسد الأراضي، مستمداً قوته من دعمي روسيا وإيران، وتمتد بذلك الصحراء السياسية السورية. وينسف بشكل منهجي مخططات الحوار الوطني التي تسعى روسيا إلى تنفيذها في استانة وفي سوتشي. هذا ما أكده فاسيلي كوزنيتسوف “يشكل النظام السوري مشكلة حقيقية، فهو ليس مرناً على الإطلاق، ويرفض أي شكل من أشكال التسوية. هذا يثير غضب السلطات الروسية بشدة”. إن المأزق الذي تجد روسيا نفسها فيه اليوم قد ينتهي بـ“عودة إلى المربع الأول”. حين يصبح سبب المشكلة السورية الحقيقي من جديد مسيطراً على بلده أكثر من أي وقت مضى، بعد أن يفرغ البلد من المحتجين على حكمه.