تحرّك فرنسي لأجل اقتصاد لبناني غير قابل للإصلاح

الجمعة ٦ أبريل/نيسان ينعقد مؤتمر دولي جديد في من أجل إنقاذ لبنان واقتصاده. المؤتمر الذي تلعب فرنسا دورا مركزيا في تنظيمه ليس الأول من نوعه، وبالتالي فإن فرص نجاحه غير مضمونة.

مقر وزارة المالية، بيروت.
kuna.net.kw, 2017.

لبنان الفقير “الغني”. يأمل هذا البلد المرمي في شرق أوسط شديد التوتر، والذي يعاني اقتصاده وخزينته ومؤسساته المترهلة منذ عقود من مرض مزمن، أن يلقى هذه الجمعة بباريس كل اهتمام المجتمع الدولي الذي سيلتف حول سرير مرضه، لحقنه بجرعة هامة من المال بقصد ترقية إصلاحات وتدعيم اقتصاد متعثر.

وهو ليس بالحضورالهين: حوالي خمسون دولة ومؤسسة دولية (بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) ومكاتب استشارة ذات حجم عالمي، كلها مدعوة إلى مؤتمر “الأرز” الذي سيعقد تحت سقف وزارة الخارجية الفرنسية، حيث أن فرنسا ، الصديق الوفي الدائم، هي القوة الداعية لهذا الاجتماع.

ولنسجل أيضا أن باريس هي التي منحت لهذا الاجتماع تسمية “الأرز” الجميلة ، نسبة لتلك الشجرة دائمة الخضرة التي تزين جبال لبنان. فبالنسبة لفرنسا، التي تطمح دوما نحو الأعلى، يتعين هذه المرة أن لا يتم الخلط بين هذا التجمع والاجتماعات السابقة لمانحي الأموال المسماة باريس 2 و3. وهي اجتماعات تم تنظيمها لفائدة لبنان منذ بداية هذا القرن، ولم تكن ذات نتائج مقنعة باستثناء تدفق الأموال.

ديون لا يمكن ضغطها وهشاشة مصرفية

فاليوم، مثل الأمس، يرتفع الدين العام للبنان إلى ما يقارب 150% من الناتج المحلي الإجمالي وهو أعلى معدل في العالم بعد اليابان (الذي بإمكانه تحمل ذلك) واليونان الذي يتعافى من أزمة استنزفته.

ويتحمل القطاع المصرفي اللبناني الجزء الأكبر من المديونية السيادية المقدرة ب80 مليار دولار ولحسن الحظ فهذا القطاع المصرفي قوي بفضل ودائعه (التي تصل إلى ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي المحلي) حيث تبقى البنوك الرئة الوحيدة الصالحة في اقتصاد ذي نمو بطيء منذ بداية النزاع السوري في 2011.

ولهذا الحل (أو الوسيلة بالأحرى) ثمن، لأن الدولة اللبنانية، التي أصبحت تدور في حلقة مفرغة، تضطر للاقتراض لدفع فوائد الدين: وقد مثلت خدمة فوائد الدين في 2017 أكثر من ثلث ميزانيتها وفقا للخبراء. ويعمل الاقتصاد اللبناني مثل محرك قديم لسيارة “رونو16” في دائرة مغلقة ومع ذلك لا يمكن أبدا استبعاد حادث سير أو حادث يمس النظام برمته.

وكان البلد على وشك دفع ثمن غال عندما تم احتجاز رئيس وزرائه، سعد الحريري، قبل بضعة أشهر في مملكة آل سعود، وهو الملتزِم تجاه حكامها. عندها نشبت أزمة سياسية غير مسبوقة وحالة فزع حول الليرة اللبنانية حيث تضاعفت أسعار الفائدة على الودائع نتيجة للمخاطر المالية بعد أن استسلم أصحاب الودائع لخوف جعلهم يهرعون إلى سحبها قبل أن ... تتدخل فرنسا، مثل البطل زورو، لإنقاذ “الجندي الحريري” من سجانيه السعوديين. حدث ذلك بالتدخل الشخصي للرئيس ايمانويل ماكرون الذي سارع لإنقاذه وبنجاح. وقد حظي ماكرون في ذلك بدعم من واشنطن، على الرغم من التحالف بين ترامب وبن سلمان، الرجل القوي الجديد للعربية السعودية، الذي أراد أن يخوض معركة مع إيران وحاول معاقبة الحريري بسبب حكومته الائتلافية التي تضم حزب الله الشيعي، زبون طهران وبالتالي العدو اللدود للسعوديين.

وكما نرى، فإن الأمور بسيطة في الشرق الأوسط حيث تحبذ لعبة البلياردو الدبلوماسي عندما يتعذر اللجوء إلى الحرب. وعلى كل، فإن الأزمة لم تدم طويلا، ولبنان الذي عرف منها الكثير، نجا بعد أن شهد اهتزازا شديدا.

شاهدنا مرة أخرى إذن كيف بقي هذا البلد، دائم الهشاشة والواقف دوما على حافة الهاوية، متماسكا بأعجوبة، بفضل لطف “أصدقائه” العرب والدوليين الذي يبدو أنه طفلهم المدلل. غير أن التجربة الأخيرة مع السعودية (وبلدان الخليج التي تتبع بشكل أو بآخر هذا البلد) أظهرت على الأرجح للقادة اللبنانيين أنه لا يمكن الاعتماد بشكل دائم على “أصدقائهم” أو رؤسائهم الأجانب الذين يمكن للطفهم أن يتحول بسرعة إلى غيرة أو تصفية حسابات. هنا تأتي نصائح فرنسا والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي (الذي دق ناقوس الخطر) للبنان قصد أن يتكفل بنفسه بصفة جدية.

مشروعات غير مضمونة النتائج

ولكن هل يمكن للبنان أن يقوم بذلك؟ يطلب سعد الحريري بصفة ملموسة 06 مليارات دولار لتمويل مشاريع البنية التحتية من المانحين الدوليين. ويندرج هذا المبلغ ضمن مرحلة أولى من برنامج استثمار يمتد من 2018 الى 2022 وبغلاف مالي إجمالي يصل إلى 10 مليارات دولار. ويتعلق الأمر بمشاريع في مجالات الكهرباء وتسيير المياه والنقل.

وقد أكد الحريري خلال ندوة ببيروت قدمت عرضا عنها وسائل إعلام لبنانية أنه “من أصل العشرة مليارات دولار، سيتم تنفيذ مشاريع بقيمة تتراوح بين 3 و4 مليارات دولار ضمن الشراكة بين القطاعين العام والخاص”. وهو يرى أن الهدف المتوخى من مؤتمر الأرز “هو ضمان تمويل المشاريع المتبقية (...) من خلال تسهيلات في القروض وفوائد لا تتعدى 1,5 % مع فترات سماح ذات نضج من 10 إلى 30 سنة”.

وبالنسبة إلى المسؤولين اللبنانيين تصل المدة الكاملة لتنفيذ برنامج الاستثمار الذي يهدف إلى تحديث البنى التحتية للبلاد إلى 12 سنة بمبلغ 23 مليار دولار. وسيضطلع المشاركون في مؤتمر الأرز فقط بالمرحلة الأولى من التمويل. ويفترض مبدئيا أن تتم مراقبة سير الإصلاحات والتحديث والنفقات بشكل مستمر للتأكد من حسن سيرها.

لكن هذه الأرقام الرنانة تمر فوق رأس اللبناني العادي الذي لم يعد ينتظر شيئا من قادته ومن طبقة سياسية فاسدة إلى حد كبير وذلك منذ نهاية الحرب الأهلية (1975ـ 1990). حيث أصبح يتعامل مجبرا مع تدهور الخدمات العمومية وجمع القمامة ومعالجة النفايات بل حتى انقطاع التيار الكهربائي الذي يصل إلى 3 ساعات في العاصمة وأكثر من ذلك في مناطق أخرى بالبلاد. كل ذلك دون احتساب الأمور الطارئة الأخرى مثل الإضرابات والأزمات المختلفة إلخ...

“لقد نظمنا هذا المؤتمر لمساعدة لبنان، أما من حيث النتائج قد نرى...”. هذا ما قاله لنا، وبنبرة يشوبها بعض الشك، مسؤول فرنسي سام تساءل في نفس الوقت إن كانت هناك فعلا رغبة حقيقية في الإصلاحات، وهي كلمة نجدها على شفاه كل اللبنانيين من الناشط في المجتمع المدني إلى رئيس الجمهورية.

“للقيام بالإصلاح في لبنان يتعين البدء بالذهنيات (...) للأسف في هذه النقطة، الطبقة السياسية وكبار المسؤولين ليسوا في الموعد”. هذا ما يقوله، بالإجماع على ما يبدو، مسؤولو المجتمع المدني بل حتى بعض السياسيين الذين لا يترددون في لوم النفس. ويعود الأمر إلى مزيج من شهية الكسب والأنانية المتكررة وتحالفات سياسية طائفية ومصالح مكتسبة ووضعيات ريع مع غياب حس مدني ... أي بشكل مختصر نظام يمزج بين الإقطاعية والحداثة.

ويتهم مسؤول من اليونيسيف فضّل عدم الكشف عن هويته: “هناك وزارات وإدارات يتم تقاسمها أو توزيعها لتستخدم في تضخيم جيوب بعضهم. فمثلا بخصوص ميزانية الأمم المتحدة المخصصة للاجئين السوريين بلبنان (وهم ربع السكان) وجهت اتهامات باقتراف مخالفات إلى مسؤولين يعملون بوزارة التربية، غير أن النظام يسير بصفة آلية ولا أحد يجرؤ على التفوه بشيء”.

الطاقة ماكينة الخسارة الاقتصادية

ويشكل ملف الكهرباء، الذي سيدرس في المؤتمر، مثالا جيدا للمسائل التي لم يتم تنفيذها في لبنان مع أن الموارد المالية لم تنقص على مر السنين. فقد تحول تدهور حالة القطاع وثقل مديونيته إلى أحد أكبر ماكينات الخسارة للاقتصاد اللبناني.

فعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط الخام، شكلت التحويلات المالية للدولة إلى المؤسسة العمومية لكهرباء لبنان في 2015 ثالث أكبر إنفاق في الميزانية (8,4% أي ب 1,14 مليار دولار) بعد خدمة الديون (34,6 %) والأجور (34,7 %).

وللتذكير فإنه حتى عشية الحرب الأهلية، كانت مؤسسة كهرباء لبنان تنتج مايكفي من الطاقة للتصدير إلى سوريا المجاورة. ومنذ عدة سنوات تم وضع مخططات تحديث وخصخصة تهدف إلى تأمين مداخيل هامة للخزينة العمومية وتم إصدار قوانين في هذا الصدد دون أن تعرف بداية في التطبيق.

فبالنسبة لمعارضي الخصخصة هناك خطر في أن تؤدي إلى مجرد انتقال وضعية عدم النجاعة وغياب الشفافية والفساد من القطاع العام إلى القطاع الخاص. ففي يونيو/ حزيران 2010 أطلق وزير الطاقة، جبران باسيل، خطة شاملة لقطاع الطاقةتهدف إلى ضمان توفر الكهرباء 24/24 ساعة ابتداء من سنة 2014 /2015 وذلك ضمن استثمارات إجمالية (بما في ذلك الخواص) تصل إلى 4,87 مليار دولار. وكان الهدف الزيادة في الإنتاج الاجمالي إلى 4 آلاف ميغاواط في 2014 وإلى 5 آلاف ميغاواط في 2015، مقابل قدرة حقيقية موجودة تقدر ب 1685 ميغاوات في 2011.

وبعد مرور أكثر من سبع سنوات من اعتماد هذا المخطط، مازال إنتاج الكهرباء لا يتعدى 2000 ميغاواط، في حين أن تقنين التزويد بالكهرباء ما يزال ساريا. والنتيجة أن اللبنانيين يعيشون على وتيرة الاشتراك في المولدات الكهربائية، كما كان الحال أيام الحرب الأهلية أو كما هو حال سوريا حاليا. مع أن لبنان يستفيد من فترة شمس سنوية استثنائية. ويعزو وزير الطاقة الحالي، سيزار أبي خليل، فشل خطة سلفه إلى “عقبات” و“قصور” حالت دون تنفيذ الخطة بكاملها. والفاهم يفهم. وقد سبق أن تم، في سنة 2002، تبني قانون ينص على خصخصة قطاع الكهرباء بمبادرة من حكومة الحريري وبارتباط مع مؤتمر“باريس 2” حيث التزم المانحون بتمويل لبنان شريطة القيام بإصلاحات هيكلية. غير أن هذا الاصلاح لم ير النور أبدا.

ومن المعتاد أن يقال في لبنان أن هذه الإصلاحات الكبرى هي سياسية قبل كل شيء. ولا يمكن إلا أن نتفق مع ذلك! ويكون ذلك صحيحا بشكل خاص عندما تكون السياسة مصدرا لخلافات وخصومات مستمرة بين أشخاص وأحزاب سياسية وتيارات مختلفة في بلد ممثل في برلمانه ب17 طائفة دينية تطالب كل منها بحصتها من الكعكة.

الانتخابات التشريعية: بصيص أمل أم انتصار للمال؟

في هذا السياق هناك تطوران هامان جاءا في الوقت المناسب لإعطاء بصيص من أمل لهذا المؤتمر. وهما “جسمان غريبان”: التبني في اللحظة الأخيرة لميزانية أكثر صرامة للدولة أسبوعا قبل اجتماع باريس، يتبعها تنظيم انتخابات تشريعية في شهر مايو/أيار. ولكن لماذا نتحدث عن “أجسام غريبة” في سماء لبنان في حين أنها مواعيد قد تبدو عادية في كل أماكن العالم تقريبا؟ الجواب، غير العادي، أنها الميزانية الثانية التي تمت المصادقة عليها منذ ... 2005. حيث كانت البلاد تسير بلا قانون مالية منذ 12 سنة بسبب الانقسامات الداخلية وشلل المؤسسات السياسية. ويتمثل الحدث الاستثنائي الآخر في تنظيم انتخابات تشريعية تؤدي إلى انتخاب برلمان جديد لأول مرة منذ ... 2009! أن يحدث الأمر متأخرا أفضل من أن لا يحدث. حتى إن لم يطرح أحد السؤال حول مؤتمر مانحين يعقد مباشرة قبل استحقاق انتخابي.

الخميس ٢٩ مارس/أذار تبنى لبنان ميزانية بعجز يقدر ب٤.٨ مليارات دولار بينما كانت المسودة الأولى لميزانية 2018 تنص على توقعات بعجز يقدر ب6,7 مليارات دولار. هذا لا يمنع أن البلد يرزح تحت الصور المختلفة للعجز؛ في الميزانية، وفي الحسابات الجارية وفي الميزان التجاري.

يدخل الإسراع في المصادقة على الميزانية وأيضا على قوانين أخرى متعلقة بالاستثمار الخاص، ضمن نفس المشروع الاقتصادي الشامل الذي يهدف إلى تطهير الوضع المالي العام وأيضا إلى القيام باستثمارات بقيمة 23 مليار دولار في البنى التحتية على مدى 12 سنة والتي سيتم مناقشتها بباريس.

ولكن هل ستكون للانتخابات النيابية القادمة الآثار الإيجابية التي ينتظرها ويأملها الجميع؟ هناك قوائم نسوية 100% منتظرة، كما يعمل المجتمع المدني بأقصى جهوده للتعبئة في حين أخذت الحملة الانتخابية مداها. مداها ... من المال؟ هذا ما يتساءل عنه بعضهم. وهكذا عنونت المجلة الشهرية الاقتصادية الصادرة بالفرنسية “لو كوميرس دي لوفانت” (تجارة المشرق) في عددها الصادر في شهر أفريل/نيسان: “التشريعيات: انتصار المال”.

وتتنبأ المجلة الشهرية اللبنانية بأن “انتخابات شهر مايو/أيار ستدور على الأرجح، مثل الإنتخابات السابقة، تحت راية المال والمحسوبية”. وذكرت المجلة “أنه خلال الانتخابات التشريعية لعام 2009، جرى الحديث عن إنفاق إجمالي بمليار دولار على الأقل”. وهذا الرقم ليس نسج خيال: فهو يرتكز وفق عمارعبود، من الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، على الفارق بين حركات رؤوس الأموال التي سجلها البنك المركزي قبل وبعد الانتخابات. وهو مبلغ “ضخم” حسب هذا المسؤول الذي تم ذكره في نفس المجلة.

ويضيف: “اليوم إذ نجهل المبالغ الدقيقة المتداولة، يمكن نظريا ضخ ما تم ضخه في البلاد في 2009 وفقا لجمعية”الشفافية اللبنانية" التي تستند إلى الحد الأقصى للنفقات الانتخابية المحددة في القانون الانتخابي لحزيران /يونيو 2017. وهو قانون يسمح لأي مترشح ولقائمته بصرف حتى 15 مليون دولار اعتمادا على عدد الناخبين في دائرته الانتخابية وعدد المرشحين على القائمة. وفي ظل هذه الظروف متى سيتم تنظيم مؤتمر “الأرز”2 ؟