المشير عبد الفتاح السيسي هو بلا شك الرجل الأفريقي المدلل لدى المؤسسات المالية الدولية. إذ خصص صندوق النقد الدولي بين خريف 2020 وربيع 2021 لمصر وحدها ما يقارب 8 مليارات دولار. وهو مبلغ يضاف إلى الـ 12 مليار دولار من القروض التي منحها سنة 2016 نفس صندوق النقد الدولي، أي 20 مليار دولار في أقل من خمس سنوات. ناهيك عن القروض الممنوحة بشروط أفضل من السوق من طرف البنك العالمي والبنك الإفريقي للتنمية والمؤسسات المالية الأوروبية أو العربية، ما يضاعف هذا المبلغ -على أقل تقدير. وبالتالي فإن المديونية الخارجية لمصر وصلت حتى قبل المساعدة الأخيرة من صندوق النقد الدولي إلى 125,3 مليار دولار في الثلاثي الأول (يونيو/حزيران ـ سبتمبر/أيلول 2020) من السنة المالية المصرية (1 يوليو/ تموز ـ 30 يونيو/حزيران).
تمثل ديون الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة 92,9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، حسب صندوق النقد الدولي، أي بزيادة 35 مليار دولار مقارنة ب 2019، قبل انفجار جائحة كوفيد-19 التي عطلت بشكل خطير الاقتصاد المصري بعد سنتين من النمو بمعدل 5% سنويا.
ليست الدولة وحدها من يقترض، فالبنك المركزي المصري يقوم بذلك أيضا في الأسواق المالية الدولية وبشروط أكثر تكلفة وخطورة. ففي فبراير/شباط 2021 وضع محمد معيط، وزير المالية، لنفسه هدف جمع 3 مليارات دولار (مثّلت مدفوعات خدمة الدين 2,46% من الناتج المحلي الإجمالي أي قرابة 10 مليارات سنويا). تكشف العملية عن نسب مرتفعة جدا لأسعار الفائدة، من 4,2% لخمس سنوات و6,2% لعشر سنوات و7.8% لـ40 سنة، في حين أنها لا تتجاوز 1% لدى صندوق النقد الدولي. وقد عرض 400 مستثمر أجنبي -معظمهم أوروبيون وأمريكيون- 16 مليار دولار وتخفيضا طفيفا جدا في سعر الفائدة. وتضاف إلى ذلك طبعا مخاطر العملة التي تتحملها مصر وتشكل عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة (2.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020 ـ 2021)، والتي تتعلّق بذكرى أليمة. ففي سنة 2016، انتقل سعر الدولار بين ليلة وضحاها من 8 إلى 16 جنيه مصري. وعليه فإن استقرار العملة المصرية غير مضمون على مدى عشر أو أربعين سنة ولا حتى خمس سنوات.
انخفاض التدفقات بالعملة الأجنبية
ليس من المؤكد أن يؤدي هذا التدفق الكبير من الدولارات إلى إنعاش الاقتصاد الذي تقلصت تدفقات النقد الأجنبي نحوه بشدة بسبب الوباء. ووفقا لجريدة “فايننشال تايمز” (Financial Times) بتاريخ 6 يوليو/تموز الماضي، فقد خرج من مصر مبلغ 13 مليار دولار في غضون أيام قليلة. كما تضاعف عجز الحساب الخارجي الجاري في السداسي الثاني من 2020 إلى 7,6 مليار دولار. وقد تدهورت مداخيل البلاد الواحدة تلو الأخرى. ففي 2010 -وهو آخر عام عادي بالنسبة للسياحة قبل ثورة 2011-، زار مصر 14,7 مليون أجنبي، جالبين معهم 14.5 مليار دولار، أي ما يساوي 11% من الناتج المحلي الإجمالي، كما سمح ذلك بتوظيف 12% من القوى العاملة. أما اليوم، فيتوقع وزير السياحة والآثار خالد العناني من 6 إلى 9 ملايين زائر خلال هذه السنة، بينما يقدّر صندوق النقد الدولي أن هذا العدد لن يتجاوز 6 ملايين. في الواقع، وبناء على عدد 500 ألف وافد في الشهر، فالرقم الأول هو الأكثر احتمالا. ويأتي هؤلاء السواح أساسا من شرق أوروبا وروسيا، أي أن قدرتهم الشرائية تُعد أقل من سواح الماضي القادمين على الخصوص من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
كما أدى التأخر في افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي دشنه بأبهة كبيرة الرئيس السيسي في الربيع، إلى حرمان السياحة من منتوج ذي جاذبية قوية. ولن يعود كل أصحاب المراكب في النيل والجمال في الأهرامات إلى العمل قريبا أمام تراجع عدد الزوار إلى أقل من النصف، فضلا عن كونهم أقل إنفاقا من سابقيهم. لكن قناة السويس التي تشكل مصدر دخل آخر رغم كونه أكثر تواضعا (من 5 إلى 6 مليارات دولار في السنة) فقد تأثرت بصفة أقل. غير أن العروض الترويجية عادت من جديد وقام مسيرها بتخفيض رسوم المرور لناقلات النفط الكبيرة جدا القادمة من أوروبا والمتوجهة إلى آسيا إلى النصف. كما انخفضت أيضا مبيعات الغاز الطبيعي (من 3 إلى 4 مليارات دولار) حسب صندوق النقد الدولي على الأقل. كما أن الاستثمار الأجنبي في قطاع المحروقات تقلّص إلى العشر خلال نفس الفترة.
بصفة إجمالية، انخفضت المداخيل المتعلقة بالخدمات بـ70% في السداسي الثاني من عام 2020. وتبقى التحويلات هي النقطة الإيجابية الوحيدة، أي تلك الأموال التي يرسلها ملايين المصريين المغتربين بعيدا عن الوطن لإعالة أسرهم، والتي تضاهي 30 مليار دولار. وقد أصبحت هذه التحويلات تلعب دورا أساسيا في ميزان المدفوعات الوطنية، إذ أن عرق جبين مهاجريها يكسب مصر عملات أجنبية أكبر من صادراتها غير النفطية.
تهديدات للقدرة الشرائية
بصفة إجمالية، يتوقع الصندوق الدولي عودة متواضعة للنمو هذا العام (زائد 2,8 %) شرط ألا تعود موجة جديدة لجائحة كوفيد ـ 19 في الخريف. في نهاية 2021، سيكون الناتج الإجمالي الحقيقي أقل مما كان عليه في نهاية عام 2019، في حين أن التضخم الذي انخفض إلى زائد 5,4 % في عام 2020 سيعرف ارتفاعا إلى زائد 8% في 2021 ـ 2022. لقد بات تدهور القدرة الشرائية للمصريين أمرا محتوما. ويساهم تخفيض الدعم على المواد الأساسية الضرورية في ذلك بشكل واسع. تم رفع سعر زيت الطعام بأكثر من 25%، وكذلك أسعار الوقود قصد الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع أسعار النفط الخام. وبالتأكيد سيتبع ذلك مزيد من الإجراءات من هذا النوع.
في الواقع يشكل الهدف المركزي للاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي الزيادة في الفائض الأولي أي الفارق الإيجابي بين مداخيل الدولة ونفقاتها بحوالي 0,5% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالي 8 مليارات دولار. كل شيء يترتب عن هذا في الميزانية حيث يتعين تقليص الإنفاق وزيادة الإيرادات قدر الممكن. وقد تمثل آخر إجراء في هذا الصدد في غلق مصنع الصلب الذي أنشئ سنة 1959 والذي كان فخر سنوات عبد الناصر، وتسريح 700 عامل الذين كانوا يعملون به وينتظرون اليوم تعويضات الفصل.
تبنت بالفعل الحكومة خلال الشهر الماضي خطة البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية. وتلاحظ سيلين آلارد بروح من الدعابة، وهي من صندوق النقد الدولي والتي تفاوضت على المرحلة النهائية من الاتفاقية مع القاهرة، أنه سيكون من الجيد إعطاء هذا البرنامج حجما أهم. “من المهم أن تحدد الحكومة خلال الأشهر المقبلة الإجراءات المعتمدة لدعم هذه الأهداف، لاسيما من خلال فسح مجال أكبر للقطاع الخاص ليعمل في بيئة أكثر ملاءمة”. (الأهرام، 25 مايو/أيار 2021).
كل شيء يقال هكذا باللغة المشفرة الخاصة بصندوق النقد الدولي. فالجناح الاقتصادي للجيش المصري الذي يمارس سلطة مطلقة منذ انقلاب يوليو/تموز 2013 يسحق بلا رادع البرجوازية الوطنية المحلية، أو ما بقي منها. فبين الطاقة التي هي بين أيدي الشركات العالمية ومجال العقارات والأشغال العمومية التي هي حكر على الجيش، يصعب على القطاع الخاص أن يجد لنفسه مكانا، في حين أن التوظيف متعثر في ظل تزايد سكاني قوي (بمعدل 5 أطفال لكل امرأة). ذكرت مؤسسة “أي أيتش أس ماركت” (IHS Markit)، وهي منظمة دولية تتابع 400 شركة صغيرة ومتوسطة غير بترولية، في أبريل/نيسان 2021 أن نسبة مصر منها هي الأدنى منذ يونيو/حزيران 2020. وقد ارتفعت قليلا في مايو/أيار، غير أن الزبائن أصبحوا نادرين بسبب جائحة كوفيد ـ 19. ويجد القطاع الخاص صعوبات بالغة في تمويل نفسه في حين أن المشروع الفرعوني الذي أطلقه الرئيس السيسي، والذي تعد نتائجه الاقتصادية إشكالية، استفاد من الجزء الأول من مبلغ 25 مليار دولار من القروض.
يقول رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وهو بلا شك من الداعمين الأساسيين لاقتصاد الثكنات: “يجب أن يوجه القطاع الخاص استثماراته نحو مشاريع الدولة”. أما بالنسبة للرافضين، فالترهيب بالمرصاد. فقد تم سجن صفوان ثابت، مؤسس وصاحب شركة “جُهينة للأغذية” إلى غاية 2015، وهي أهم شركة لعصير الفواكه في البلاد، بتهمة “تمويل الإخوان المسلمين”، في حين ان ابنه سيف محتجز منذ 4 أشهر دون أن توجه إليه أية تهمة، كما تم حجز الشركة منذ عام 2015. فعلى عكس العديد من رجال الأعمال المضاربين، دفع ثابت ضرائبه عندما كان محمد مرسي رئيسا للجمهورية. هل كان أحد جنرالات الجيش يطمح للاستيلاء على محلّه؟
لا تغير الملاحظات الخجولة لخبراء صندوق النقد الدولي المتعلقة بتشجيع القطاع الخاص وتحسين مناخ الأعمال في الأمر شيئا. فوراء كل عقبة تعترض هذه المنافسة التي ينادي بها هؤلاء الأخصائيون، يختفي عسكري يعمل على الحفاظ على الامتيازات التي تتمتع بها طبقة الضباط والتي تنوي توريثها لأبنائها.