تونس. الرئيس قيس سعيّد، صاحب النفوذ المطلق

منذ سنة 2013، وبمنهجية وتصميم، يرسم قيس سعيّد مساره من أجل تحقيق مشروعه وإرساء نظام الديمقراطية المباشرة. فالرئيس التونسي مقتنع بأن مهمته تتمثل في تغيير النظام السياسي للبلد من خلال قلب هرم السلطات. وبما أنه لا يتمتع بحزب سياسي ولا ببرنامج محدد ولا بحلفاء مهمّين، فهو يعتمد على مجموعات من الشباب رافعا شعاره المقتبس من ثورة 2011: “الشعب يريد”.

بات قيس سعيّد اليوم يمسك بزمام جميع السلطات في تونس، وهو الذي لم يعرف طعم السياسة إلا بعد الثورة. فقد كان هذا المدافع عن إصلاح شامل للنظام والممارسات السياسية جزءًا من جبهة الرفض التي تشكلت سنة 2011، للاعتراض على تكوين حكومتين تحت قيادة محمد الغنوشي، الوزير الأوّل السابق لزين العابدين بن علي. وقد قام، رفقة بعض المقربين المؤيدين لقطيعة سياسية تامة، بتشكيل مجموعة كان لأعضائها حساسيات سياسية جد متنوعة، فمنهم قوميون عرب، ومنهم ناشط سابق من اليسار الراديكالي (حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد - الوطد) وهو رضا المكي شُهر “رضا لينين”، ناهيك عن أخيه نوفل سعيّد، الشديد التأثر بفكر الإيراني علي شريعتي (1933-1977) الذي جعل من المستضعفين مركز تفكيره وإعادة قراءته للإسلام والتشيع.

في سنة 2013، شارك سعيّد وأصدقاؤه في اجتماعات سياسية جد متواضعة مع شباب جمعتهم قناعة راسخة بأنهم جُردوا من ثورتهم. كانت هذه المجموعة الصغيرة تؤمن بسعيّد، فهم يكرهون الأحزاب السياسية مثله، ولا يؤمنون بالهيئات الوسيطة، لكنهم مقتنعون بأن حركتهم ستنجح وأن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت. وهكذا قاموا بإنشاء حركة “مؤسسون”، التي استقطبت شبابا يريدون التعبير عن رغبتهم في إحداث تغيير في الحياة السياسية، بل وتغيير جذري. كانوا يتنقلون إلى العديد من البلدات والمناطق النائية للتبشير بكلام رجل يدعى قيس سعيّد. وبالموازاة مع هذا الاتصال المباشر مع التونسيين، وإدراكًا منهم بأن في تونس ما يقارب 5 ملايين مشترك في الفيسبوك، أنشأوا صفحة وعملوا بصفة نشطة على الشبكة لنشر أفكار بطلهم، والتي تنص على مركزية الشعب في أي قرار سياسي.

انتصار المستقلين

كانت هذه المجموعة تراقب تطور الحياة السياسية وهي مقتنعة بأن حوكمة البلاد لا تستجيب في شيء لتطلعات التونسيين، أيا كان الفاعلون أو الحكومات المتعاقبة، إذ لم يعمل أحد منهم وفق روح الثورة من حيث المساواة والكرامة والعدالة. وقد تبينوا أن العديد من التونسيين يشاركونهم ملاحظاتهم هذه.

في سنة 2018، كرّست الانتخابات البلدية - الأولى من نوعها منذ الثورة- فوز القوائم المستقلة بقيادة المجتمع المدني، أمام حركة النهضة التي خسرت نصف ناخبيها مقارنة بالانتخابات التشريعية لسنة 2014، و“نداء تونس”، حزب الباجي قائد السبسي الحداثي، الذي خسر ثلثي ناخبيه. كان ذلك عقابا شديدا للطبقة السياسية، استفاد منه فاعلون من خارج المنظومة. انتبه قيس سعيّد والشباب المحيط لنجاح هؤلاء المستقلين الذين ظهروا للحظة كحل ممكن لإدارة السياسة، على الرغم من عدم امتلاكهم لهيكل وأيديولوجيا، مما أعطى شعورًا بإمكانية حدوث موجة عارمة حقيقية قادرة، من الأسفل، على إحداث تغيير عميق.

تصوّر بعض رؤساء البلديات المستقلين بأن الديناميكية التي حملتهم يمكن أن تتحول إلى قوة سياسية تقودهم إلى مجلس نواب الشعب. تم عقد اجتماعات للتحضير للانتخابات التشريعية لعام 2019، لكنها ركزت أكثر على اختيار المرشحين بدل البرامج التي تسمح لهم بتشكيل جبهة حقيقية والتأثير على الانتخابات المقبلة. كانت تلك خيبة أمل إضافية، غير أن نجاحهم أظهر أن التونسيين كانوا في انتظار حوكمة أخرى، ومع فاعلين آخرين.

بحثا عن مُنقذ

في يوليو/تموز 2019، أدت وفاة الباجي قائد السبسي إلى تغيير الرزنامة الانتخابية من خلال تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة قبل الانتخابات التشريعية، وتركز الاهتمام على البحث عن “منقذ”. كان بإمكان مشروع التغيير السياسي من الأسفل أن يمدّد فوز المستقلين في الانتخابات البلدية. لكن تم التخلي عنه، خاصة وأن الحملة الانتخابية تميزت بعرض شعبوي غير مسبوق، مما أضر بالتأكيد بهذا المشروع لتشكيل قوة سياسية بديلة من طرف منتخبين محليين مستقلين.

كان من المقرر إجراء الانتخابات في هذا السياق، على خلفية تباطؤ اقتصادي شديد واضطرابات اجتماعية في المناطق المحرومة داخل البلاد، ومشهد سياسي أعيد تشكيله. كانت نسبة البطالة تصل إلى حوالي 16%، والدين العام إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي. أما من الناحية المالية، لم تكن البلاد قادرة على الخروج من الأزمة، بل صارت تابعة بشكل متزايد للمؤسسات المالية الدولية، وخاصة صندوق النقد الدولي، ما قد يجعل القرض الرابع خلال 10 سنوات ضرورياً.

لكن الأزمة كانت كذلك أخلاقية. كان التونسيون يتساءلون عن معنى الديمقراطية والحال أن تسديد فواتيرهم وتعليم أبنائهم يزداد صعوبة، حتى أن الكثيرين صاروا يختزلون الوضع بإلقاء اللوم على الثورة، وجعل الانفتاح السياسي المسئول الرئيسي عن حياتهم الضنكة. لم يتم إجراء التقييم السياسي الذي كان سيشير إلى سوء الحوكمة كسبب رئيسي للصعوبات المتعددة. في المقابل، ساهم انتظار المنقذ والحلول السريعة، والحاجة إلى أخذ شعب مهمل في عين الاعتبار، في ظهور شعبوية ذات أشكال مختلفة. وهكذا جاءت تشكيلات سياسية جديدة لتُضاف إلى العديد من الأحزاب الموجودة.

كانت الساعة تميل الى الراديكالية في المواقف، مع ظهور “ائتلاف الكرامة” المتموقع على يمين النهضة، بسبب التنازلات التي قام بها الحزب الإسلامي التاريخي لحداثيي “نداء تونس” أولاً، ثم “تحيا تونس”. كما ظهر حزب لا يخفي حنينه إلى النظام القديم، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل ثماني سنوات. أنشأت عبير موسي التي كانت نائب الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي -حزب بن علي- الحزب الدستوري الحر، وهي ترى أن ثورة 2011 كانت مجرد مؤامرة مدبرة من الخارج بدعم من تونسيين خانوا وطنهم، لتجسّد بذلك الثورة المضادة. في سجل آخر تم وصفه بالليبرالي-الاجتماعي، طوّر نبيل القروي، قطب الإعلام المعارض بشدة للإسلاموية -حتى 2019- خطابًا ضد الفقر المدقع.

“الشعب يريد”

أما بالنسبة لقيس سعيّد، فقد كان حاملا لقطيعة شعبوية مع الطبقات السياسية والمؤسسات، وبصفة أوسع مع النخب. وكان يعتقد أن الوقت موات لتنفيذ مشروعه السياسي، ويكفيه ببساطة الاستفادة من أخطاء سابقيه. جذب خطابه المزيد من الشباب المحبط من ثورة لم تف بوعودها. وبهذه القاعدة التي ما فتئت تزداد اتساعًا، أجرى سعيّد حملة انتخابية كانت فريدة على الأقل.

كانت حملته غير مُكلفة، بدون تجمعات انتخابية ولا أدوات أو وسائل توفرها الدولة، لكنها ترتكز على قناعة الشباب بأن التغيير الذي طال انتظاره لن يحققه سوى هذا الرجل. لم يكن لديهم برنامج يدافعون عنه، ولا حزب ينطوون تحت رايته، فقط إعلانات مطوية بسيطة تحمل صورة قيس سعيّد والشعار الشهير: “الشعب يريد”. كانوا يطرحون وعدا بالتغيير قدّمه مرشَّحهم بدون جدول زمني محدد. لكن أي تغيير؟

يريد سعيّد تفضيل تغيير الوعي على المستوى الفردي. ويُبرز الشباب الذين يقومون بالحملة لصالحه ما يبدو مهمًا لهم في هذا الرجل: استقامته ونزاهته (وهو أمر غير متنازع عليه) وصدقه وثباته منذ عام 2011.

على الرغم من غموض مقترحاته، نجح سعيّد في إقامة علاقة ثقة مع أولئك الذين يدعمونه ويعتقدون بأن هذا المشروع ليس طوبويا. كان سهلا إقامة هذه الثقة المتبادلة، كون سعيّد قد وضع إصبعه على إخفاقات المرحلة الانتقالية. تمحورت خطاباته حول ضرورة محاربة الفساد، والتنديد بعدم احترام القوانين الدستورية، وجعل الشعب والشباب في قلب الحياة السياسية. كما أصرّ على تحييد الأحزاب السياسية وإعادة بناء دولة قوية يحكمها رئيس يجسّد الإرادة الشعبية.

لم يكن أحد يؤمن بهذا المرشّح الخارج عن المألوف، لكنه وصل إلى الجولة الثانية من الانتخابات وكان عليه مواجهة نبيل القروي الذي خاض حملته من السجن، للاشتباه فيه بغسيل أموال وفساد. كان انتصار قيس سعيّد يبدو حتميا في الجولة الثانية. وقد حصل على دعم شخصيات أخرى شاركت في الجولة الأولى من الانتخابات، مثل الاجتماعي-الديمقراطي المنصف المرزوقي، والإسلامي عبد الفتاح مورو، والإسلامي الراديكالي من حزب الكرامة سيف الدين مخلوف، والمحافظ لطفي المرايحي، ومن اليسار لا سيما التيار الديمقراطي (محمد عبو)، دون أن ننسى القوميين العرب.

لو استثنينا بعض تشكيلات اليسار والحزب الذي يحنّ إلى النظام القديم، حظي قيس سعيّد بدعم الجميع، وباستحسان راشد الغنوشي والنهضة أوّل الأمر. وهكذا فاز بصفة واسعة في الانتخابات الرئاسية لـ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2019، حيث تحصل على نسبة 72.71٪ من الأصوات، مقابل 27.29٪ لمنافسه نبيل القروي.

في جبّة رئيس الدولة

بعد وصوله إلى منصب رئيس الدولة بنتيجة عالية، أدرك قيس سعيّد أن هامش المناورة المتاح له ضيق جدًا. وبسبب عدم ثقته في الفاعلين السياسيين التقليديين، اختار مستشاريه من بين رفاق الدرب. كانت صلاحياته محدودة، وعليه التعامل مع برلمان قوي ومتعدد الألوان، يرأسه راشد الغنوشي. وكان الأخير يشعر بأنه قد نجا من الأسوأ، وينوي فرض نفسه على المستويين الوطني والدولي. لم يكن الغنوشي يكترث بقيس سعيّد، وبدا كأنه لا يأخذه على محمل الجد، إذ تعدّى على مجال صلاحياته ومارس نوعا من الدبلوماسية الموازية. اعتبارًا من أكتوبر/تشرين الأول 2019، استقبل رجب طيب أردوغان الغنوشي في إسطنبول. وتبع ذلك إقامة أخرى في يناير/كانون الثاني 2020، دون أن يُعرف السبب الحقيقي لهذه الرحلات. بل وقام أردوغان بزيارة “غير منتظرة” إلى تونس، بينما كان من الواضح أن تركيا تتدخل لصالح فايز السراج في ليبيا. وكان قيس سعيّد يرى في هذا القرب بين رئيس الدولة التركية ورئيس البرلمان التونسي استفزازا وإهانة.

أدّت مسألة صلاحيات “رؤوس” السلطات الثلاث (الرئاسة ومجلس نواب الشعب ورئاسة الحكومة) إلى أزمة سياسية حقيقية خلال شتاء 2021. خلال هذه الفترة، تقرّب قيّس سعيّد من الشباب والفاعلين في الاحتجاجات الاجتماعية مشجّعا على رفع المطالب، وابتعد عن الحياة المؤسساتية، وكان يضغط على رئيس الحكومة ويحمّله مسؤولية وضع سياسي يزداد صعوبة. وفي يناير/كانون الثاني 2021، مع اندلاع الغضب الاجتماعي في مناطق مختلفة من البلاد، وبينما تحدّت مجموعات من الشباب حظر التجول الذي تم فرضه لمكافحة وباء فيروس كورونا، وحطّموا الواجهات ودمّروا المحلات التجارية والسيارات وارتكبوا أعمال نهب، نأى رئيس الدولة بنفسه عن هشام المشيشي الذي قام بتجريم المتظاهرين.

كما لعب سعيّد على تعفين الوضع، حيث رفض استقبال وزراء تم تعيينهم بعد تعديل وزاري لأداء اليمين، كما رفض إصدار قانون عضوي يتعلق بإنشاء المحكمة الدستورية. وأيضا من خلال عدم التعليق على الفوضى السائدة في مجلس نواب الشعب والتي دفعت العديد من التونسيين للمطالبة بحلّه. وقد أعاق جمود الحياة السياسية إدارة الموجة الثانية من كوفيد-19.

دعم الشرطة والجيش

في 25 يوليو/تموز 2021، خلال اجتماع في قصر قرطاج، قرّر قيس سعيّد تجميد أنشطة البرلمان -الذي يلعب فيه حزب النهضة دورًا رئيسيًا- لمدة ثلاثين يومًا، ورفع الحصانة عن النواب، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي.

يفسّر سخط التونسيين الذين كانوا يعانون بالفعل من آثار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى التراخي السياسي والأزمة الصحية، الحماسة التي رحّب بها كثير منهم بالقرار الرئاسي. بدا سعيّد حينئذ قادرا على إخراج البلاد من كابوس العجز العام. لكن الشكوك اعترت جزءا آخر من التونسيين الذين كانوا يتساءلون عن فحوى هذا “الخطر الداهم” الذي اتخذه رئيس الدولة ذريعة لتنشيط الفصل 80 من الدستور. فوفقًا للنص، كان من الواجب استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب ورئيس المحكمة الدستورية في مثل هذه الظروف، وهو ما لم يتم، كما لم يتم إنشاء المحكمة الدستورية. فهل تصرّف هذا المختص الصارم في القانون الدستوري خارج القواعد الدستورية؟

ما يثير الدهشة أكثر هو أن قيس سعيّد أعلن حالة الطوارئ معتمداً على الشرطة والجيش، والحال أن دعم الشرطة للسلطة التنفيذية يذكّر بأحلك ساعات النظام القديم. أما بالنسبة للجيش، فدائما ما تم إبعاده عن عملية صنع القرار السياسي منذ استقلال البلاد عام 1956. وقد يؤدي إشراكه في اللعبة السياسية إلى إغراء بعض كبار الضباط. يبقى أن الجيش دعم فعلا رئيس الدولة في انقلابه، خاصة من خلال منع رئيس البرلمان راشد الغنوشي من الوصول إلى مجلس نواب الشعب مساء 26 يوليو/تموز.

هكذا أُعيد تشكيل المشهد السياسي، وعلى الرغم من التأييد الذي يحظى به الرئيس سعيّد، تبدو تونس، مهد الثورات العربية، كأنها تنزلق نحو الاستبداد. وقد قُطع الشكُّ باليقين بعد شهرين من هذه المناورات، عندما اتخذ قيس سعيّد إجراءات استثنائية جديدة تعزّز سلطاته من خلال المرسوم 117 الذي يقرّ بأن النصوص التشريعية ستؤخذ من الآن فصاعدًا في شكل مراسيم-قوانين يصدرها رئيس الجمهورية، وأنّ الأخير يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة مجلس وزراء يقوده رئيس الحكومة، وأن رئيس الدولة يرأس المجلس، لكن بإمكانه التفويض إلى رئيس الحكومة. كما أن من صلاحيات الرئيس تعيين الوزراء وإقالتهم، وتعيين الدبلوماسيين، وإجراء التعيينات في الوظائف العمومية العليا، فضلا على كون الحكومة مسؤولة أمامه.

هكذا تم إضفاء طابع رئاسي صلب على نظام سياسي كان من المفترض أن يحول جانبُه الهجين -وقد اختير عمدًا سنة 2014- دون أن تنحصر السلطة في يد رجل واحد على حساب الشعب. ركّز قيس سعيّد جميع السلطات بين يديه، حتى لو أكّد بأن عمله يهدف إلى “إقامة نظام ديمقراطي يكون فيه الشعب بشكل قاطع صاحب السيادة ومصدر السلطات التي يمارسها من خلال ممثلين منتخبين أو عن طريق الاستفتاء”.

يسعى سعيّد إلى تنفيذ مشروعه من خلال الاستشارة الشعبية الإلكترونية التي بدأت في 15 كانون الثاني/يناير 2022 وستستمر حتى 20 آذار/مارس، إذ يرى فيها طريقة لإدخال المزيد من الديمقراطية المباشرة في النظام السياسي التونسي. وستكون نتائج هذه الاستشارة أساسا لعملية مراجعة الدستور.

أصبح قيس سعيّد الآن يقود المركب بمفرده، وأعلن حالة الاستثناء، وهي لحظة يتم خلالها تعليق القواعد القانونية التي تهدف إلى حماية الحريات وسير الدولة. وفي 6 من فبراير/شباط 2022، ذكرى اغتيال شكري بلعيد، أعلن عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء، متخلّصًا من آخر ساحة للمقاومة. كمت سبق وتجاهل قواعد القانون من خلال إحالة بعض قضايا العدالة المدنية أمام المحاكم العسكرية. لكن يكمن الخطر بطبيعة الحال في أن تصبح حالة الاستثناء هذه طريقة للتسيير، وهو ما يسميه بيير هاسنر بـ “حالة الاستثناء الدائمة”.

لا معارضة في الأفق

كان صدري خياري محقا عندما كتب بأن قيس سعيّد ليس فاعلًا مستقلاً، بل هو نتاج لظروف وعلاقات قوة ومنطق يتجاوزه. بالفعل، إذا كان قيس سعيّد يعتمد على الأخطاء التي ارتكبت في إدارة الانتقال السياسي، فإن مشروعه يعشّش أيضًا في المساحات التي تركتها الأحزاب السياسية شاغرة. ونتيجة للتسويات والتواطؤ، فقد فقدت هذه الأحزاب -جزئيا- من هويتها.

في هذا الصدد، يُعد تطور حزب النهضة مرجعا. فقد بُني هذا الحزب على شكل “مجتمع مضاد” شكّلت مرجعيته الدينية إطار هويته. وقد كانت استراتيجيته -التي كانت قد تبدو غير طبيعية- في التقارب مع الأحزاب الحداثية ضارة به أيضًا. من ناحية، لم يسمح هذا التقارب ببناء مشروع مشترك لصالح المرحلة الانتقالية، ومن ناحية أخرى، أفقده القدرة على التعبئة وخسر جزءًا كبيرًا من قواعده. وقد كان مؤتمر 2016 نقطة الذروة لهذا التغيير، مع إعلان راشد الغنوشي عن “المصالحة الكاملة” بحضور الباجي قائد السبسي. وهكذا اندمج حزب النهضة في أغلبية سياسية غير واضحة المعالم، ولكنه عزز موقعه في المشهد السياسي.

في مواجهة ما جرى في 25 يوليو/تموز، تموقع راشد الغنوشي كمدافع عن الديمقراطية البرلمانية، لكنه كان عاجزا عن الذهاب أبعد في التحدي. فمن جهة، كان بروز “ظاهرة سعيّد” ممكناً لأن حزبه لم يتمكن من تقديم حلول للتطلعات الشعبية. ومن ناحية أخرى، تتوفر للعدالة وثائق مخفية في وزارة الداخلية، من المرجح أن تكشف عن وجود جهاز مخابراتي مواز، يمكن أن يقود المحامين العاملين على هذا الملف إلى الربط بينه وبين اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013.

لكن حركة النهضة ليست الوحيدة في هذا الوضع. فعندما ظهر سعيّد على الساحة السياسية، كانت جميع الأحزاب السياسية تواجه السؤال المزدوج المتعلق بتمثيليتها، وبتوافق هويتها السياسية. يضاف إلى ذلك أن المجتمع المدني في تونس كان سبّاقا في تناول قضايا يُفترض أن تكون مدرجة في برامج الأحزاب السياسية. فعلى سبيل المثال، ينتج المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحاليل حول المسألة الاجتماعية والهجرة والتفاوتات الإقليمية. لكن الحلول والبدائل المقترحة في تقاريره وإصداراته لا تظهر في أي برنامج من برامج الأحزاب السياسية.

لا يسمح الإطار القانوني ببناء أي جسر بين الأحزاب والجمعيات. فمثلا، توجد بالفعل روابط بين المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتحاد العام التونسي للشغل، ولكن دون أن تُترجم في مجال العرض السياسي أو معارضة السلطة. وهذا يعني أن ضُعف المعارضة يعود أيضًا إلى كون هناك صعوبة حقيقية للانتقال من العمل الجمعوي إلى عرض سياسي منظم. على الرغم من أن مختلف منظمات المجتمع المدني قد حلّلت جيدا القضايا الاجتماعية والمجتمعية، فهي لا تظهر في البرامج السياسية ولا تتجسد في شخصيات من العالم السياسي، وبالتالي ليس لها وجود ووزن في انتخابات تنافسية. تقول ناشطة يسارية تونسية: “في الجبهة الشعبية، فكّرنا في الديمقراطية التشاركية والاستشارة الإلكترونية، أما قيس فقد فعلها، مجسدًا سلطة مضادة مع أنه في السلطة”. ويقرّ مسؤول من حزب القطب الديمقراطي: “لم يستبق اليسار الأمر، وتركنا المجال مفتوحا أمام الشعبوية. أصبح سعيّد اليوم هو الذي يحمل خطاب اليسار، ولكن لحسابه الخاص”. ويضرب مثالاً على انتفاضة الشباب في كانون الثاني/ يناير2021، موضحاً أنه خلال هذه الليالي من أعمال الشغب ذات الطابع الاجتماعي، لم يكن الشارع إسلامويًا ولا مواليا للنظام القديم، وكان الناس متعبين وغاضبين، وكان الشباب يتصرّفون باسمهم الخاص. وقد وقف قيس سعيّد إلى جانبهم، مما أحرج النهضة أكثر ورمى رئيس الوزراء المشيشي بالذنب.

بالفعل، لم يكن هناك ما يقلق سعيّد من جانب اليسار، فقد كان يراه مواليا له. وبين جولتي الانتخابات الرئاسية لعام 2019، باستثناء القطب وحزب العمال، دعت جميع الأحزاب اليسارية تقريبًا للتصويت لصالحه، لا سيما لأنه كان يعارض نبيل القروي، وله خطاب مناهض للنخبة والنظام مع الادعاء بأنه يعمل مع الشعب وللشعب. كما أن ليس لسعيّد، الذي يعارض حزب النهضة بشدة، ما يقلقه كثيرا من جانب الحزب الدستوري الحر. فهو يذهب أبعد من عبير موسي من خلال تهميشه لحزب النهضة من دون وضعه في المعارضة، وتعليق سيف على رؤوس إطاراته وقادته المتورطين في قضايا الفساد. وهي أمثلة كثيرة تُظهر كيف أن البرامج الديمقراطية التي تشكلت لمعارضة السلطة المطلقة لقيس سعيّد، مثلها مثل المواقف الفردية، ضعيفة جدًا في مواجهة رئيس يحظى بدعم المحافظين و“المسلمين الورعين” وأولئك الذين يرون أنفسهم إلى جانب الشعب، وجميع من يحلم برئيس قوي.