سينما

لبنان. عن تقفي أثر مفقودي الحرب الأهلية

كيف نصوّر الاختفاء؟ كيف نترجم عبر الصورة ما لم يعد موجوداً؟ إنها عملية استذكار تقف ضد النسيان الرسمي والجماعي، أي هو بمعنىً آخر عمل من أجل التاريخ، يقترحه فريق فيلم “بحر وتراب” الذي يجوب أرجاء لبنان مقتفياً أثر المقابر الجماعية التي خلّفتها الحرب الأهلية. الوثائقي متاح على منصّة “أفلامنا” حتى يوم الأربعاء 16 أبريل/نيسان.

صورة للواجهة البحرية لبيروت، لقطة من مشهد لفيلم “بحر وتراب” لدانييلي روغو.

صورة مرتعشة، صوت مختنق، أمواج تهدّد بالهيجان.. بداية فيلم “بحر وتراب” هي حرفيًّا عكس التيار، من خلال كاميرا غارقة في صراع ضد الأمواج، ينقذنا منه صوت إلياس خوري وهو يقرأ نصه المعنون “البحر الأبيض”. ليس هذا الإنقاذ سوى وهماً، إنه فعلاً غرق يدوم لأكثر من ساعة من الزمن مع انطلاق فيلم “بحر وتراب”، من إخراج دانييلي روغو، والذي يغوص بنا في عنف الحرب الأهلية اللبنانية.

انطلاقاً من ساحل بيروت، يأخذنا الفيلم إلى داخل لبنان عبر شريط المقابر الجماعية المطلة على البحر الأبيض المتوسط الذي طالما تقيّأت فيه الحرب جثثها. يسائل “بحر وتراب” هذا الاختفاء، وينقّب في تاريخ الضحايا وعائلاتهم، ويحفر في أعماق أكثر من خمسة عشر سنة من الحرب الأهلية.

بلد قصير الذاكرة تغلغل فيه العنف

في لبنان، وفي الفترة الممتدة بين 1975 و1990، اختفى 17415 شخصاً خلال هذه الحرب الأهلية التي تواجهت خلالها الكثير من الفصائل المحلية والأجنبية، وكان أغلب ضحاياها من اللبنانيّين والفلسطينيّين والسوريّين. مصدر هذه الأرقام هو بحث أجرته منصة “أرشيف الذاكرة اللبنانية” التي يديرها فريق الفيلم، والذي يعمل على تسليط الضوء على مواقع لبنانية تحتوي على مقابر جماعية تعود إلى زمن الحرب1. المجازر المفتعلة، وعمليات السَّجن والتعذيب والاختطاف، وكذلك الاغتيالات عشوائيةً كانت أو مستهدفة، وأماكن مثل دامور أو شاتيلا أو بيت مري أو عيتا الفخار أو طرابلس.. كلّها أوجه مختلفة لنفس العنف الذي بات روتينيا في بيروت الثمانينيات. أسماء هذه الأماكن يكفي وحده لاسترجاع ذكرى عملية عسكرية أو تجربة سجن أو مجزرة قُبرت قصصها، في بلد لم يتعاف من الحرب الأهلية إلا بالتأسيس لتوازن هشّ.

لا يمكن فهم مكامن قوة فيلم “بحر وتراب” دون فهم الأبعاد السياسية لفعل بسيط جدا في الفيلم، وهو الكلام. ففي التسعينيات، كان الصمت هو المانع الأساسي أمام الوقوع من جديد في مغبات المواجهات المدنية. لم تقم الدولة بوضع أية سياسة تذكارية، وتتوقف مناهج التاريخ المدرسية عمداً قبل الحرب الأهلية، التي غدت خلفية قصصية في أحاديث اللبنانيين واللبنانيات.

رغم ذلك، دافعت الكثير من منظمات المجتمع المدني عن عائلات المفقودين والمفقودات، حتى أن قانوناً تمت المصادقة عليه في 2018 قد وعد برفع اللبس حول مصيرهم، لكن يبقى الصمت سيد الموقف بالنسبة لغالبية المجتمع اللبناني. يكمن الخطأ أساسا في غياب السياسات العمومية والمؤسسات المخصوصة، حيث لا يوجد للحرب تاريخ “موضوعيّ” مبنيّ على أسس علمية ومقبولة تتبناه الحكومة والشعب اللبنانيين.

ويقدّم “بحر وتراب” مثالاً صارخاً عن النسيان الجماعي في صورة أم تغرس زيتونة وتضع بجانبها لوحة تذكارية تخليداً لذكرى ابنها ماهر المفقود من أمام كلية العلوم بالضاحية الجنوبية للعاصمة. وعلى الرغم من كون هذه الكليّة جزءاً من مؤسسة التعليم العالي العامة الوحيدة في لبنان — وهي الجامعة اللبنانية —، فإن جلّ الطلاب والطالبات والأساتذة الذين قابلتهم أمّ ماهر لم يخفوا صدمتهم حين علموا أنّ مقبرة جماعية “يصل عمقها إلى ثلاثين مترا” دُفنت تحت بلاطة الحرم الجامعيّ، وتعود هذه المقبرة إلى معركة بين فصائل لبنانية والجيش الإسرائيليّ الذي اجتاح بيروت في 1982.

في إعادة تشكيل تاريخ بلد يعاني من النسيان، يقدّم “بحر وتراب” شهادات متتالية مثل شهادة والدة ماهر. تُروى القصص عبر “الصوت المصاحب” الذي يتم تركيبه على صور بناءات عادية رمادية خراسانية، يمرّ أمامها اللبنانيون واللبنانيات دون أدنى تفكير أو شك في وجود المئات من أقرانهم تحت أرضيتها. تبقى أصوات ذويهم أو الباقون والباقيات منهم خفيّة الأسماء، وتظلّ هذه الأماكن التي تنتمي إلى الحياة اليوميّة التجسيد الوحيد للعنف. ويقدّم الفيلم صورة لبنان شاحب شبه متصحّر، ألقت به البناءات والأعشاب غطاءها على جراح حرب لم تلتئم كما يجب.

نرى ظلالا بعيدة تجوب الآثار القديمة والمباني الحديثة، تمرّ عبر الرّكام والبراعم المخضرّة، ولكن لا نرى وجوه الأصوات التي تتحدّث – مرفوقة بصور مؤلّفة بمهارة — عن اختفاء الأقرباء ووجع العائلات واللقاءات الجميلة وخاصة تلك الحيوات التي تمضي على وقع التوهان والحنين. من خلال تصويره الحاضر بهدف استحضار الماضي، يقوّض “بحر وتراب” التجربة اللبنانية المعاصرة بإبراز أماكنَ تغلغل فيها عنف نادراً ما يتم ذكره، لكنه يجد في النهاية مكاناً على الشاشة من خلال قصص العائلات المنسية. تكمن القيمة الإخراجية للفيلم في تقديمه بكثير من العناية على مستوى الصورة والصوت على حد السواء، هذه الشهادات الشفوية، وكذلك في الموسيقى التي تصاحب كلمات الأقارب المباشرة، من خلال توزيع موسيقيّ خفيف ومقلق من إمضاء يارا أسمر.

خارطة النسيان

أينبغي استخراج الجثث؟ هل في حفر الأرض اليوم تحقيق للعدالة إزاء العائلات، رغم ما يحتويه ذلك من مخاطر بإحياء جراح بلد لم يتعاف بعد من الحرب؟ تُطرح هذه الأسئلة من قبل أحد الناجين من مجزرة قامت بها ميليشيات فلسطينية في دامور سنة 19762، فتتلقّى إجابة غير مباشرة من والدة ماهر حين تقول: “أين سأضع بقايا الجثث إذا استخرجوها؟” في مجاورته لشهادات متشابهة، يتحوّل فيلم “بحر وتراب” إلى لعبة سؤال وجواب تعكس مفارقة النسيان اللبناني.

على حساب العديد من الضحايا وعائلاتهم، شكّل النسيان حركة عفو ساهمت في إعادة بناء المجتمع اللبناني وإنشاء بنوك وزرع حقول على أرض مزّقها الصراع. كثير من الضحايا كانوا بدورهم فاعلين وفاعلات في أحداث العنف، ومن بينهم ماهر الذي قضى في خدمة إحدى الميليشيات، والذي تفتتح قصّة اختفائه الفيلم وتنهيه. قد يشكّل استخراج جثثهم مخاطرة كبيرة بإحياء الغضب المدفون معهم. وعوض المخاطرة، ومع الاستحالة المادية والسياسية لاتخاذ مثل هذه الخطوة، يكتفي الفيلم وعلى غراره مشروع البحث الذي يرتكز عليه بجمع الذكريات دون التعليق عليها سوى بصور من الحياة اليوميّة المألوفة لدى اللبنانيين واللبنانيات.

يجسّد الفيلم فكرة الاختفاء — وهي ثيمته الأساسية — من خلال غياب الشخصيات على الشاشة وخيار التصوير في أماكن تكون مهجورة على غير عادتها. نحن المشاهدون والمشاهدات، مدعوون/ات إلى هذه الفضاءات كما في الحلبات السينمائية التي تُرجع صدى القصص وتكسر الجدار الرابع وتضعنا في مركز قصة شفوية وموسيقية وبصرية. نحن المارّون على الأرض اللبنانية، متقاسمين بحرها متأملين أماكنها، نحن مسؤولون على معاينة العنف المغروس فيها كما يقول لنا الفيلم. إذا لم نكن قادرين على التعرف على المفقودين دون إحياء العنف الذي أودى بهم، وإن لم يعد باستطاعتنا استخراج الجثث دون أن تحمل معها الحرب التي قتلتهم، فعلينا على الأقل الاعتراف بالنسيان ومسؤوليتنا إزاءه، والتخفيف من وطأة شبح العنف الذي يطارد لبنان من خلال الحركات التذكارية.

يأتي “بحر وتراب” بمساهمته في هذا المعلم التذكاري من خلال تكوين خارطة تكشف أماكن النسيان اللبناني واحدا تلو الآخر. لا تتّسم قصص البحث حتما بالشمولية، لكنها تجسّد هذه الخارطة، مانحة إيّاها التضاريس والأعماق التي تفتقر إليها صور الحياة اليومية في لبنان المعاصر. من خلال تقنيات بسيطة وخالية من التعقيد، يعطي فيلم دانييلي روغو أسماء لما لا يمكن تسميته، ويُظهر ما لا يمكن إظهاره، ويتوصّل بذلك إلى تذكيرنا بنسياننا.

1يقود المشروع المخرج والمنتج دانييلي روغو، والمنتجة كارمن حسون أبو جودة، ومساعدة الإنتاج يارا المر.

2ارتُكبت هذه المجزرة على يد ميليشيات فلسطينية في 20 كانون الثاني/يناير 1976، رداً على مجزرة راح ضحيتها أكثر من ألف شخص من سكان منطقة الكرنتينا في بيروت، على يد الكتائب المسيحية.