الحرب على غزة

“واسعة النطاق”. الولايات المتحدة الأمريكية ودبلوماسية اللغة المخادعة

في الوقت الذي لم يخف فيه الأمريكيون أبدًا موقفهم المتماهي مع السياسة الإسرائيلية، كان التناقض البادي بين القول والفعل الأمريكيين بالوضوح إلى درجة أخرجت مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل عن دبلوماسيته فخرج على الملأ موجها حديثه للرئيس بايدن قائلا: "إن كنت تعتقد حقا أن الكثير من الناس يُقتلون، ربما عليك توفير أسلحة أقل”. فيما يلي تحليل للخطاب الأمريكي الرسمي منذ بداية الحرب على غزة.

مدينة نيويورك في 26 فبراير/شباط 2024. الرئيس الأمريكي جو بايدن يأكل الآيس كريم بعد تسجيل حلقة من برنامج “Late Night with Seth Meyers”.
جيم واتسن/وكالة فرانس برس

عندما كنا صغارًا، كان العامة يصفون المنتجات المزيفة بأنها “أمريكاني”، وذلك لتمييزها عن المنتجات الأصلية. تذكّرتُ هذا الموروث الشعبي، الذي لا أعرف مصدره وأنا أتابع سيلا من التصريحات الأمريكية الرسمية فيما بعد السابع من أكتوبر، الذي أجهض خطة بنيامين نتنياهو وخرائطه الشرق أوسطية التي كان قد احتفى بها في خطابه الأممي الشهير في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 2023.

في البداية، كان الأمريكيون “واضحين” في تماهيهم مع الحليف الإسرائيلي. فبعد أيام من “الصدمة”، ذهب الرئيس إلى تل أبيب ليحضر بنفسه مجلس الحرب (الإسرائيلي)، وليعلن عن صهيونيته بلا مواربة: “ليس من الضروري أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا”، هكذا قال.

لم تمض ساعات حتى ذهب الاسرائيليون إلى ما اعتقدوا بغرور القوة أنها ستكون نزهتهم الانتقامية في غزة، إلا أنها لم تكن أبدا “حرب الأيام الستة”، بل ستة أشهر مضت والمقاومة عصية على الاستسلام. هل تذكرون ما جرى ترويجه من تصريحات “مخدرة” عن أن واشنطن لن توافق على استمرار العمليات العسكرية في العام الجديد؟ ها نحن في الشهر الرابع من العام الجديد.

مع استمرار الحرب (وتداعيات مشاهدها المنقولة على الهواء مباشرة)، لم يكن أمام الأمريكيين الذاهبين إلى انتخابات رئاسية أربكت حساباتها صور الدمار وأرقام الضحايا وتظاهرات الشوارع، وتراجع الدعم الغربي، — والأهم — قلق حلفائهم العرب، إلا اللجوء إلى دبلوماسية “اللغة المخادعة”، والأقوال التي لا تصدقها الأفعال. ففي حين يتحدثون يوميًا عن “الضحايا المدنيين”، لا يتوقفون أبدا عن تزويد جيش الاحتلال بالأسلحة والذخائر التي تقتل هؤلاء المدنيين.. ثم ها هم يحاولون تجميل كل ذلك، أو ربما القفز عليه باعتماد ما يمكن أن نسميه بـ “دبلوماسية اللغة المخادعة”، مثلما يفعل موظف المبيعات حين يحاول أن يبيع لك بضاعة فاسدة، أو سلعا “مزيفة”.

التناقض الأمريكي بين القول والفعل كان بالوضوح، أو قل بالفجاجة إلى درجة أخرجت مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل عن دبلوماسيته فخرج على الملأ موجها حديثه للرئيس بايدن قائلا: "إن كنت تعتقد حقا أن الكثير من الناس يُقتلون، ربما عليك توفير أسلحة أقل”.

هل يعارض بايدن حقًا عملية رفح؟

دعونا نسأل “سؤال الوقت”: هل تقف واشنطن حقا ضد قيام إسرائيل بعمليتها المفترضة/الدموية في رفح، كما يحاول الرئيس ومساعدوه إيهام المتابعين لمواقفهم وتصريحاتهم؟

إن عدنا إلى النصوص الرسمية للتصريحات والبيانات الأمريكية المتكررة (والمتلاعبة بالألفاظ) والمُهينة للغة، سنعرف أن الإجابة الصحيحة “والمستترة” في ثنايا التعبيرات الدبلوماسية هي “لا” قاطعة وحاسمة.

ما يقولوه المسؤولون في البيت الأبيض نصًا وكل يوم: إن الرئيس لا يتفق مع نتنياهو في القيام بعملية برية “واسعة النطاق” في رفح المكتظة بالمدنيين.

واشنطن إذن لا تعترض على العملية العسكرية في ذاتها، بل على أن تكون تلك العملية “واسعة النطاق”، وهو تعبير هلامي لا معنى محدد له.

وهي تعترض على أن تكون تلك العملية “برية”، أي لا مانع من مزيد من القصف الجوي. بالمناسبة، الإسرائيليون أطلقوا على غزة 40 ألف قذيفة (من الجو). وبالمناسبة أيضا تجنب العملية “البرية” يحمي جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، لا المدنيين الغزاويين.

وطبقًا للنص، واشنطن لا تريد عملية واسعة، تسقط “أعدادا كبيرة” من المدنيين، لا بأس إذن إذا كان عدد الضحايا “الأبرياء” أقل (!). وكأن ما يزيد عن مائة ألف من الشهداء والجرحى (حتى كتابة هذه السطور) لا يكفي.

هل يعبأ الرئيس (الأمريكي) حقا بمقتل المدنيين، كما تدعي تصريحاته المراوغة؟

ربما كانت الإجابة غير المباشرة (كما تصريحاته، وتعبيراته) واضحة في صورته الشهيرة مساء ذلك اليوم من فبراير / شباط يلعق “الآيس كريم”، وهو يدلي بتصريحات عن الحرب في غزة. يومها كان عدد الضحايا قد قارب الثلاثين ألفا. ويومها أيضا لم يكن قد مر أسبوع على استخدام إدارته حق النقض (الفيتو) للمرة الثالثة لإعاقة إصدار قرار من مجلس الأمن يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار في غزة. ويومها أيضا لم يتردد الرئيس في أن يتحدث عن الحرب وهو يلعق الأيس كريم.

هل يعترض الرئيس (الأمريكي) حقًا على عملية عسكرية إسرائيلية في رفح؟ وهل يعبأ حقا بمقتل المدنيين، كما تدعي تصريحاته المراوغة؟

رغم المراوغة اللغوية في تعبير “عملية برية واسعة النطاق”، إلا أن ما قاله أنتوني بلينكن قبل أيام فقط حول الموقف الأمريكي من تلك العملية كان واضحًا، وفاضحا، وكافيا: “أي هجوم واسع النطاق على رفح يهدد بفرض عزلة دولية على إسرائيل”.

ياله من وضوح لما تضمره التصريحات المراوغة لا يماثله إلا وضوح الأرقام التي كشفتها الأدلة الاستخباراتية مفتوحة المصدر OSINT من أن إدارة بايدن، ومن خلال جسر جوي غير مسبوق سلمت إسرائيل (سرًا)، وعبر أكثر من مائة عملية شحن عشرات الآلاف من قذائف 155 مم وعشرات الآلاف من أنظمة توجيه القنابل، وصواريخ Hellfire وطائرات بدون طيار، إلى آخر قائمة طويلة كانت الإدارة تلتف فيها على القواعد التي تتطلب موافقة الكونغرس بتقسيم الشحنات/المبيعات إلى كميات لا تصل قيمة (كل منها على حده) إلى المبلغ الذي يتطلب إخطار الكونغرس.

إخفاء تلك الشحنات، بالتلاعب في الأوراق، كما إخفاء نوايا الرئيس بالتلاعب بالكلمات والتعابير لم يخف حقيقة أن تلك الأسلحة هي التي قتلت فعليًا ما يزيد عن اثنين وثلاثين ألفا حتى اليوم، معظمهم حسب التقارير الدولية الموثقة من النساء والأطفال الأبرياء، الذين (يقول) لنا الرئيس أنه يريد حمايتهم.

“حل الدولتين”، عودة شعار لا يعني شيئا

على رأس قائمة الألفاظ التي لا تعني شيئا، هناك العبارة السحرية التي عادت للظهور في الخطاب الرسمي الأمريكي بعد أن كانت قد اختفت لسنوات: “حل الدولتين”. ذكرها بايدن قبل أسابيع في خطاب حالة الاتحاد، وبدا وكأنه قد تذكرها فجأة، إذ لم تَرِد أبدا لا تصريحًا ولا تلميحًا في كل خطابات “حالة الاتحاد” السنوية السابقة للرئيس التي أوشكت ولايته على الانتهاء.

العبارة البراقة الساحرة كررها وزير خارجيته في كل زيارة له للمنطقة، تاركا لنا ملاحظة أن تصريحه المتكرر (الإكليشيه) هذا في زيارته السادسة أواخر مارس/آذار ترافق مع مصادرة “دولة الاحتلال” لـ 800 هكتارا من أراضي الضفة الغربية، في أكبر عملية مصادرة أراضي من جانب إسرائيل منذ توقيع اتفاقات أوسلو قبل 31 عاما. وفي إلغاء “عملي” لجدوى الشعار السحري. دعك من تصريحات نتنياهو العلنية، وعالية الصوت بأنهم في إسرائيل لن يسمحوا “أبدًا” بقيام هذه الدولة، ودعك من قرار بالإجماع من مجلس الوزراء، بتبايناته السياسية، صدق عليه الكنيست بعدها بساعات برفض الاعتراف “أحادي الجانب” بدولة فلسطينية، فالأهم أن القارئ المدقق لخطاب السيد بايدن “البليغ” هذا، ولما بين سطوره من رسائل مباشرة، وغير مباشرة، “وملتوية” لابد وأن يلحظ أن الإشارة إلى “الدولة” اقترنت مع إشارة صريحة إلى “التطبيع” مع من لم يطبع بعد ( المملكة العربية السعودية/الجائزة الكبرى ذكرها بايدن صراحة في خطابه).

مراوغًا بكلماته البراقة يريد الرئيس أن يُهدي حلفاءه الإسرائيليين وصديقه القديم تطبيعًا يزيل ما تبقى من عقبات أمام مشروعه الاستراتيجي لشرق أوسط جديد، مقابل وعد للعرب والفلسطينيين “بمسار” يفضي إلى دولة. يا لها من لغة براقة، لا تعني في نهاية المطاف شيئا. نسي الرئيس، أو بالأحرى يريد لنا أن ننسى أن الفلسطينيين جربوا “متاهة” مثل هذا المسار لثلاثة عقود كاملة. يقول درس التاريخ أن منظمة التحرير الفلسطينية، بعد 45 عامًا على النكبة ومظالمها وافقت في أوسلو 1993 على الاعتراف بدولة إسرائيل (القائمة على 78٪ من أراضي فلسطين التاريخية)، مقابل وعد بدولة فلسطينية مستقلة (على ما تبقى من الأرض)، يفضي لها “مسار” تفاوضي حول قضايا “الحل النهائي”، كان من المفترض أن يستغرق خمس سنوات حسب ما يقضي به الاتفاق. ربع قرن مضت بعد السنوات الخمس، ولم يفض “المسار” إلا لمزيد من الإجراءات على الأرض تجعل من قيام الدولة “الموعودة” مستحيلا. بل وإلى ما هو أكثر وأوضح من ذلك: تصريحات إسرائيلية الرسمية، بلا ردٍ أمريكي واضح، تقول بأنهم “لا يعترفون” بالسلطة الفلسطينية، التي أتت بها أوسلو ذاتها.

ياله من “مسار” يعدنا بمثله بايدن وأركان إدارته.

لا دولة “مضمونة” هناك، ولكن غطاء “من المصطلحات والألفاظ” ليس فقط لنوايا السيد الرئيس، وإنما لتلك الأنظمة العربية “المُطبِّعة”، أو الجاهزة للتطبيع، والتي قد تكون أمام شعوبها بحاجة إلى تبرير. وبعض من مساحيق التحميل “اللغوية” قد تفي بالغرض.

بالمناسبة، ونحن بصدد “القراءة اللغوية”، أو بالأحرى “التحليل الخطابي” لمقالات وخطابات وتصريحات السيد الرئيس، دعونا نلاحظ:

1 ـ أنه يتحدث عن “دولة”، ولا دولة بلا “أرض”، والأرض يحتلها الإسرائيليون، لكن تعبير “الأرض المحتلة”، وهي كذلك بموجب القرارات الأممية والقانون الدولي لم يرد أبدًا على لسان السيد الرئيس.

2 ـ أنه يشير إلى الفلسطينيين “القوم”، ولكنه لا يذكر أبدا فلسطين “الدولة”. وقديما قال العرب: “المرءُ مخبوءٌ تحت لسانه”.

تاريخ من الفخاخ اللغوية

لا أعرف من له السبق أو الأكثر دهاءً ومكرًا في خداعنا باللغة المراوغة، الأمريكيون أم الإسرائيليون. ولكنني أعرف أن تاريخ العرب مع تلك الفخاخ اللغوية طويل وقديم، حتى مع القرارات الأممية. ليس بداية مما حصل مع قرار 242 الشهير الذي صدر بعد حرب يونيو / حزيران وجاءت صياغته، بعد استبعاد المسودات الأربع الأخرى على يد اللورد كارادون، المندوب البريطاني خالية من “ال” التعريف فنص على انسحاب إسرائيل من “أراضي” احتلتها، (وليس “الأراضي”) الأمر الذي أتاح للإسرائيليين فرصة المراوغة “اللفظية” التي يجيدونها. والتهرب مرارا من الانسحاب الكامل.

بالمناسبة، النص “الماكر لفظيا” جاء أيضا لينص على إنهاء حالة الحرب المعلنة منذ 1948، والاعتراف ضمناً بإسرائيل دون ربط ذلك بحل القضية الفلسطينية التي اعتبرها القرار مجرد “مشكلة لاجئين”.

شيء من ذلك حدث أيضا قبل أيام حين لم يسمح الأمريكيون بتمرير قرار مجلس الأمن الأخير إلا بعد إدخال تعديلات تفقده عمليًا جدواه. ليس فقط بتعديل في النص ليصبح “غير ملزما”، وهو ما أشارت إليه بوضوح المندوبة الأمريكية عشية اعتماده، بل وبتعديل “لغوي” لتوصيف وقف إطلاق النار (المستهدف) في غزة من وقف “دائم”، وهو تعبير متعارف عليه في القانون الدولي إلى “مستقر”، وهو مصطلح غامض وملتبس.

الإسرائيليون، من ناحيتهم لا يلجؤون فقط إلى المراوغة اللفظية، تحسينا لصورة أو إخفاءً لجريمة، بل يعمدون، بلا خجل إلى التزييف الفج للمصطلحات واللغة ذاتها. فهم حاولوا إعلاميًا في البداية تسمية المقاومة الفلسطينية في غزة بـ «داعش»، في محاولة لاستغلال الصورة الذهنية السيئة لداعش لدى الجمهور في الغرب، كما أنهم حاولوا، وربما نجحوا في توصيف حربهم الوحشية على أنها “حرب مع حماس”، رغم حقيقة أن معظم الضحايا الثلاثين ألفا من النساء والأطفال، ورغم حقيقة أن عملياتهم العسكرية، الوحشية أيضًا لم تتوقف في الضفة. وهم حاولوا، وربما نجحوا في إيهام الكثيرين بأن المسألة كلها بدأت بهجوم السابع من أكتوبر، وكأن لا احتلال، ولا حصار للفلسطينيين يمتد لعقود. يريد الإسرائيليون بصياغاتهم اللغوية المزيفة أن يزيفوا التاريخ، فننسى أن هناك آلافا من الشهداء، وملايين من المُهجرين اللاجئين اللذين أجبروا على النزوح من ديارهم قبل أن تكون هناك “حماس”، وعلى مدى خمسة وسبعين عاما قبل السابع من أكتوبر.

يبقى أنه، وكما أن البعض يعتمد على ما توفره مفردات اللغة بطبيعتها من مراوغة، إلا أنه في اللغة أيضا، ومصطلحاتها، وتعبيراتها ما هو كاشف.

على القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية، وتعليقا على ما يجري ترويجه من تباينات بين واشنطن وتل أبيب، سمعت أحد المسؤولين الإسرائيليين يصف تعامل نتنياهو مع إدارة بايدن بأنه يبصق في البئر التي “لا نشرب إلا منها”.. ياله من تعبير كاشف ودقيق.

ويبقى أيضًا أن التلاعب بالألفاظ، وتصريحات العلاقات العامة التي لا تقول شيئا، هو “اللغو” من القول، كما تقول معاجم اللغة، أو “الكلام الساكت” كما يقول السودانيون، في وصفهم للكلام الذي لا يعني شيئا ولا يقول شيئا ولا يمكن التعويل عليه، “الأمريكاني”، كما كان المصريون يطلقون على المنتجات “المزيفة”. حمانا الله شر البضاعة المزيفة، واللغو من القول.