لبنان. سلاح “حزب الله” بين الوجود الداخلي والتهديد الإسرائيلي

لبنان الذي ظل طيلة تاريخه الحديث شديد التأثر بالأحداث والتطورات التي تجري من حوله، يواجه هذه المرة وضعا معقدا، وجديدا نسبيا، من حيث إنه مكشوف أمام الهجمات الإسرائيلية وفي الوقت نفسه يعيش أزمة سياسية متفاقمة عنوانها الرئيسي الخلاف على مستقبل سلاح “حزب الله”.

مظاهرة حيوية مليئة بالأعلام والدخان الملون، مع أجواء من الحماس والضجيج.
بيروت، 5 سبتمبر/أيلول 2025. عقب انتهاء جلسة مجلس الوزراء، خرجت مواكب مناصرة لحزب الله وحركة أمل في شوارع الضاحية الجنوبية، تعبيراً عن رفضهم للقرارات التي اتخذها المجلس والتي وافقت على خطة الجيش بشأن تنفيذ نزع سلاح حزب الله جنوب الليطاني.
فضل عيتاني/نور للصور/وكالة فرانس برس.

لا شكّ أن الوضع الإقليمي الراهن، والذي يشكّل لبنان جزءا رئيسيا منه، أخطر وأشد تعقيدا من ذاك الذي نشأ بعد “نكسة” يونيو/حزيران عام 1967، ليس في لبنان وحسب، بل على مستوى المنطقة كلها، والتي تواجه تحديات سعي إسرائيل لفرض هيمنتها الإقليمية. ومن ذلك، ثمة في السلوك الإسرائيلي الراهن جواب متأخر على أحد الأوجه الرئيسية للظرف الإقليمي الناشئ بعد العام 1967، والذي تمثل بصعود الفاعلين غير الحكوميين بوجه إسرائيل. يأتي ذلك بعد أن شكلت هزيمة الجيوش العربية في تلك الحرب، وبالأخص الجيش المصري، تحولا جوهريا في الصراع العربي الإسرائيلي، أدى إلى انتهاء هذا الصراع بشكله الكلاسيكي، بخروج الجيوش العربية من ميدان المعركة. صحيح أن حرب أكتوبر/تشرين الأول من العام 1973 شكّلت استئنافا مؤقتا لهذا الصراع وجوابا نسبيا على “النكسة”، ولكنها أدت في النهاية إلى خروج مصر من هذا الصراع بعد توقيع الرئيس أنور السادات اتفاق السلام مع إسرائيل، وذلك بعد أن كانت مصر تاريخيا أكثر الدول العربية حضورا في هذا الصراع.

عندما بقي لبنان البلد الوحيد من “دول الطوق” الذي لم يشارك في حرب الأيام الستة عام 1967، فإنه كان أكثر البلدان العربية التي تحملت تداعيات “النكسة”، إذ كانت تلك التداعيات سببا رئيسيا من أسباب اندلاع الحرب الأهلية فيه عام 1975، على اعتبار أن انتقال منظمة التحرير الفلسطينية—التي دفعت بها النكسة إلى الواجهة—إليه بعد “أيلول الأسود” عام 1970 فجّر تناقضاته الداخلية. وهو ما دفع بعض المراجعات اللبنانية لتلك الحقبة للقول إن عدم مشاركة لبنان في حرب الأيام الستة كانت أشد وطأة عليه مما لو شارك فيها.

بروز الفاعلين الجدد

استطاعت إسرائيل من خلال اجتياحها لبيروت عام 1982، أن تُخرج منظمة التحرير الفلسطينية منها، ما وضعها هي الأخرى على سكة تحولات كبرى أدت في نهاية المطاف إلى توقيع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات “اتفاق أوسلو” عام 1993. وجواباً على خروج منظمة التحرير من الصراع العسكري مع إسرائيل، كانت حركتا “حماس” و“الجهاد الإسلامي” تباشران صعودهما في قطاع غزة. وقبل ذلك، كان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت قد تزامن مع نشأة “حزب الله” في البقاع اللبناني بدعم سوري- إيراني، قبل أن يمتد إلى بيروت والجنوب ويتحول إلى حركة المقاومة الرئيسية في وجه إسرائيل التي كانت تحتل أجزاء واسعة من الجنوب والبقاع. وكانت قد سبقته إلى فعل المقاومة هناك أحزاب ومنظمات يسارية وقومية لبنانية. لكنها انكفأت تدريجا، ولم يكن ذلك خياراً ذاتيا، إذ قضى القرار السوري والإيراني بحصر المقاومة بـ“حزب الله” وحده، لضبط الجبهة وفق الحسابات الاستراتيجية لكليهما. وهو وضع استمر، بصيغة جديدة، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان في العام 2000.

بعد السابع من أكتوبر، توسعت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتشمل لبنان، قبل أن تمتد “اليد الطولى” الإسرائيلية إلى اليمن وسوريا، ومن ثم إلى إيران، وأخيراً إلى الدوحة، أي أنها تحولت بحق إلى شكل من أشكال الحرب الإقليمية الشاملة. هذه الحرب هي بالنسبة إلى إسرائيل فرصة لـ“تغيير الشرق الأوسط” كما أعلن بنيامين نتنياهو بنفسه، وهذا يعني—وفق الاستراتيجية الإسرائيلية—إنهاء كل الفاعلين غير الحكوميين أو حركات المقاومة، التي تعتبر أنها تشكل خطرا على مصالحها الأمنية، أي أنها تسعى إلى جعلها منزوعة السلاح. وكل ذلك ليس مفصولا عن الصراع الإسرائيلي الإيراني الذي حلّ محل الصراع العربي الإسرائيلي على مستوى المنطقة، بمعنى أنّ الضربات الإسرائيلية ضد الفاعلين غير الحكوميين المدعومين بشكل رئيس من إيران هي من ضمن الصراع الرئيسي على امتداد الإقليم بين إسرائيل وإيران.

ولذلك، يجب النظر الآن إلى الحرب الإسرائيلية ضد “حزب الله” ابتداء من سبتمبر/أيلول 2024- بعدما كان “حزب الله” قد فتج جبهة “إسناد غزة” في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023- على أنها كانت مقدمة لشن إسرائيل الحرب ضد إيران نفسها في يونيو/حزيران 2025، على اعتبار أن إضعاف “حزب الله” في لبنان نزع من إيران أهم نقاط قوة ردعها الخارجية من ضمن مفهومها لـ“الدفاع المتقدم”.

سلاح “حزب الله” كإشكالية داخلية

بموازاة البعد الإقليمي المتصل بسلاح “حزب الله” كجزء من منظومة عسكرية وأمنية إقليمية مدعومة من إيران، تدخل فيها “حماس” مع تمايزات محسوبة، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، فضلا عن ميليشيات نشطت خلال الحرب السورية قبل سقوط نظام بشار الأسد في 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، بموازاة هذا البعد، يبرز بعد داخلي انقسامي لهذا السلاح لا يقل تعقيدا عن ذاك الإقليمي، وهو سابق على الحرب الإسرائيلية الإقليمية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لكن في الوقت نفسه، فإن هذه الحرب دفعت الإشكالية الداخلية لسلاح “حزب الله”، بوصفه العنوان الأهم للانقسام السياسي- الطائفي، إلى ذروتها، وخصوصا بعد اتخاذ الحكومة اللبنانية في جلسة عقدتها في 5 أغسطس/آب 2025 قرارا بتكليف الجيش إعداد خطة تنفيذية، بجدول زمني ينتهي بحلول نهاية العام الجاري، لحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، ما يعني عمليا سلاح “حزب الله” وغيره من المجموعات المسلحة خارج المؤسسات الرسمية، وبالأخص السلاح الفلسطيني داخل المخيمات. وقد تعهد الرئيس الفلسطيني محمود عباس في زيارته الأخيرة إلى لبنان في 21 مايو/أيار 2025 بتسليم هذا السلاح إلى الدولة اللبنانية. ولكن البدء بتنفيذ هذا التعهد تأخر لما بعد صدور قرار الحكومة المذكور، واقتصر حتى الآن على سلاح حركة “فتح” التي بدأت بتسليم أسلحتها تباعا دون الفصائل الفلسطينية الأخرى، وبشيء من الغموض بشأن كمية الأسلحة المسلحة ونوعيتها.

ضغوط أمريكية وداخلية

وكان هذا القرار الحكومي، الذي رفضه “حزب الله” قد جاء بعد ضغوط دولية مكثفة وبالأخص أميركية، حملها المبعوث الأميركي توماس براك خلال أربع زيارات قام بها إلى لبنان كان أولها في 19 حزيران/يونيو 2025 وآخرها في 27 أغسطس/ آب 2025 من ضمن ما يسمى “المتابعة الأميركية لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025. وفي الموازاة كانت الكتلة السياسية المؤيدة لمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة قد اتسعت بشكل غير مسبوق بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، لتشمل أكثرية حلفاء”حزب الله“التقليديين وفي مقدمتهم جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر الذي ارتبط بتحالف سياسي وانتخابي مع حزب الله منذ شباط العام 2006. مع العلم أن باسيل الذي يخضع للعقوبات الأميركية وفق”قانون ماغنتسكي“1 كان قد بدأ بالتمايز عن مواقف”حزب الله" منذ انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية في خريف العام 2019. وفي موقف لا يقل دلالة على المتغيرات السياسية في لبنان، أعلن فيصل كرامي، ابن العائلة السياسية التاريخية في مدينة طرابلس، ذات الغالبية السنية، شمالي لبنان تأييده قرار حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، بعد أن كان مقرّباً من الحركة الشيعية.

وكان “حزب الله” قد باشر التعبير عن رفضه للقرار الحكومي المذكور، بانسحاب الوزيرين المحسوبين عليه من جلسة الحكومة في 5 أغسطس/آب 2025 ومعهما وزيران محسوبان على حركة “أمل” الشيعية التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري. ثم وصف “حزب الله” القرار بأنه “خطيئة كبرى”، وقال إنه سيعتبره كأنه غير موجود. وكان “حزب الله” قد دأب منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، وبوتيرة أكثر حدة بعد جلسة الحكومة في 5 أغسطس/آب 2025، على التأكيد أنه لن يسلم السلاح إلا في حال انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ووقف اعتداءاتها، والإفراج عن الأسرى، وبدء إعادة الإعمار. مع العلم أن إسرائيل تحتل خمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية في المنطقة الحدودية جنوبي لبنان، وترفض الانسحاب منها قبل “نزع” سلاح “حزب الله”، كما تواصل قصف بلدات الجنوب اللبناني بانتظام، في وقت يدور جدل بشأن مضمون اتفاق وقف إطلاق النار. فبينما يصر “حزب الله” على أن الاتفاق يتوقف على سلاحه في منطقة جنوب نهر الليطاني، وقد قد باشر فعلا في إخلاء مواقع له هناك وتسليم أسلحته فيها للجيش، شمل قرار الحكومة بشأن حصرية السلاح بيد القوات المسلحة الرسمية كل الأراضي اللبنانية. هذا في وقت لا تعرف على نحو دقيق كمية الأسلحة المتبقية بحوزة “حزب الله” ولا نوعيتها، بينما تشير تسريبات إسرائيلية أن “حزب الله” يحتفظ بكمية من صواريخ “زلزال” الإيرانية في منطقة البقاع، من دون أن يصدر أي نفي أو تأكيد من قبل “حزب الله” لهذه التسريبات.

تطور رد الفعل الميداني للحزب

ميدانيا، كان مناصرون لـ“حزب الله” وحركة “أمل” قد نظموا عشية جلسة الحكومة المذكورة مواكب جوالة على دراجاتهم النارية ضمن الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد أن انتشر الجيش على تخوم الضاحية لمنع هذه المواكب من الخروج إلى أحياء بيروت الداخلية والتي تسود فيها أهواء سياسية مختلفة، وذلك بخلاف المرات السابقة. إذ كانت هذه المواكب تجول مختلف أحياء العاصمة اللبنانية من دون أي موانع من قبل قوى الأمن أو الجيش اللبناني. وهذا دليل على المتغيرات التي طرأت على المشهد اللبناني بعد الحرب الأخيرة بين “حزب الله” و“إسرائيل”، وتحديدا لناحية السلوك الميداني لـ“حزب الله” إزاء أي قرارات سياسية للحكومة لا توافق إرادته.

وعلى قاعدة أن الشي بالشيء يُذكر، فقد كانت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة قد اعتبرت في جلسة لها في 5 مايو/أيار 2008 أن شبكة الاتصالات الخاصة بـ“حزب الله” تمس بسيادة الدولة وأمنها القومي وكلفت الجيش بإزالتها، كما أقالت العميد وفيق شقير من منصبه كمدير لجهاز أمن مطار رفيق الحريري الدولي، المطار المدني الوحيد في لبنان، على خلفية اتهامات له بتسهيل “تحكم” “حزب الله” بالمطار. وسرعان ما اعتبر الأمين العام السابق لـ“حزب الله” الذي اغتالته إسرائيل بهجوم جوي في 27 سبتمبر/أيلول 2024، اعتبر أن قراري الحكومة المذكورين إعلان حرب ضد “حزب الله”، واعتبر أن شبكة الاتصالات جزء من سلاح المقاومة، رافعا شعار “السلاح دفاعا عن السلاح. وفي 7 مايو/أيار 2008 نفذ”حزب الله“ومعه حركة”أمل“هجوما عسكريا على أحياء من بيروت كانت خاضعة لخصومه، وتحديدا”تيار المستقبل“و”الحزب التقدمي الاشتراكي“، وعلى مناطق في جبل لبنان الجنوبي تعد معاقل للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ما تسبب بسقوط عشرات القتلى والجرحى بينهم مدنيون. وقد انتهت الأزمة وقتذاك بتسوية سياسية أبرمت في العاصمة القطرية الدوحة وسميت”اتفاق الدوحة"، والذي كرّس فيتو شيعيا داخل مجلس الوزراء الذي يشكل على أساس سياسي- طائفي.

فبالمقارنة بين سلوك “حزب الله” إزاء جلستي الحكومة في 5 مايو/أيار 2008 وفي 5 أغسطس/آب 2025، نرى تراجعا كبيرا في استعداد “حزب الله” للتصعيد وقلب الطاولة على خصومه. فإذا كانت جلسة مايو/أيار 2008، قد نزعت “الشرعية” عن شبكة الاتصالات التابعة لـ“حزب الله” فإن جلسة 5 أغسطس/آب قد نزعت “الشرعية” عن سلاح “حزب الله” كله وبالتالي عن مقاومته نفسها، بعدما كانت منذ العام 2000 تفضي شرعية رسمية من قبل الدولة اللبنانية عليهما، من خلال تأكيدها بصيغ معدلة نسبيا، “حق لبنان شعبا وجيشا ومقاومة في تحرير مزارع شبعا، وتلال كفر شوبا، والجزء اللبناني من الغجر، والدفاع عن لبنان في مواجهة الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية”. ولكن إزاء هذه المتغيرات فإن “حزب الله” أبقى ردود أفعاله منضبطة وإن تمسك برفض تسليم سلاحه، علما أن “حزب الله” كان قد انتخب رئيس الجمهورية جوزيف عون في 9 يناير/كانون الثاني 2025 والذي أورد هذا المبدأ في خطاب القسم، وكذلك فإن هذا المبدأ نفسه كان قد ورد في البيان الوزاري للحكومة الحالية برئاسة القاضي نواف سلام والتي منحها “حزب الله” الثقة مرتين.

أما نبيه بري رئيس البرلمان ورئيس حركة “أمل” الشيعية في آن معا، فقد كان موقفه “أكثر اعتدالا” من حليفه “حزب الله”، وهو ما طرح تساؤلات عما إذا كان بري يتمايز عن “حزب الله” في الموقف من “حصرية السلاح”. فهو كان قد أوعز إلى مناصريه عدم المشاركة في المواكب السيارة اعتراضا على قرار الحكومة في 5 أغسطس/آب 2025، ثم أعلن في 17 من الشهر نفسه أنه سيدعو إلى حوار بشأن هذا القرار. وفي 31 من الشهر نفسه أعرب في خطاب لمناسبة ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر مؤسس “أمل”، عن الاستعداد لمناقشة مصير سلاح “حزب الله” في حوار توافقي هادئ، وحذر من رمي كرة النار في حضن الجيش، في إشارة إلى تكليفه بإعداد خطة بجدول زمني لجمع سلاح “حزب الله”.

ما بين “أمل” و“حزب الله”

وللعلاقة بين حركة “أمل” وهي الاسم المختصر لـ“أفواج المقاومة اللبنانية” التي تأسست عام 1974 و“حزب الله” الذي تأسس عام 1982 تاريخ طويل من الصراع والتحالف. فعلى الرغم من تداخل قواعدهما بحيث أن البيت الشيعي الواحد كان يضم أشقاء في كل من “أمل” و“حزب الله”—حتى أن شقيق نصر الله كان قياديا في “أمل”- إلا أن ذلك لم يمنع من وقوع حرب بينهما، تُعرف بحرب “الأخوة”، والتي استمرت على نحو متقطع بين مارس/ آذار 1988، ونوفمبر/ تشرين الثاني 1990، عندما أبرمت مصالحة بين الطرفين في دمشق برعاية سورية- إيرانية. ومع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بتوقيع اتفاق الطائف بين الأطراف اللبنانية في السعودية، خرج الطرفان من دائرة الصراع إلى دائرة التحالف النسبي، في ظل الوصاية السورية على لبنان. مع العلم أن اتفاق الطائف كان نص على أن “لا سلاح ولا سلطة أمنية إلا بيد الدولة اللبنانية”، ولكن “أمل” و“حزب الله” استُثنيا من هذا البند على اعتبار أنهما حركتا مقاومة للاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وكان هذا الأمر يحظى بشبه إجماع لبناني إلى أن انسحب الجيش الإسرائيلي من الجنوب في 25 مايو/أيار 2000. وهو ما أسقط شبه الإجماع ذاك وبدأ ينظر إلى سلاح “حزب الله” على نطاق واسع داخل لبنان أنه يؤدي وظائف خارجية متصلة باستراتيجية إيران الإقليمية، خصوصا أن ذريعة “حزب الله” للاحتفاظ بسلاحه، وهي تحرير منطقة “مزارع شبعا”، كانت خاضعة للتجاذب والتأويل على اعتبار أن هذه المنطقة مسجلة في الأمم المتحدة على أنها أراض سورية، وبالتالي لا يشملها القرار الأممي الرقم 425 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية. وبذلك تحول سلاح “حزب الله” إلى عنوان للصراع السياسي- الطائفي في “بلد الأرز”، ولاسيما بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء السابق في 14 مارس/ آذار 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان في أبريل/نيسان من العام نفسه.

تهديدات الوجود الشيعي في لبنان

وبالعودة إلى تاريخ العلاقة بين “أمل” “وحزب الله”، فإن تحالفها بعد العام 1990 مر بمراحل مختلفة لا تخلو من التنافس والتباين، خصوصا أن انتقال الحكم السوري من حافظ الأسد إلى نجله بشار الذي لم تكن بينه وبين نبيه بري كيمياء، وفق أوساط مطلعة، رجّح كفة “حزب الله” في دمشق. وقد كان العرض العسكري الذي أقامه “حزب الله” لأول مرة في سوريا خلال تشييع حافظ الأسد عام 2000 دليل على تقدم “حزب الله” على “أمل” في العلاقة مع دمشق. لكن شخصية نصر الله الذي كان يصف نبيه بري بـ“الأخ الأكبر”، ساهمت في احتواء التباين وتحصين العلاقة بين الجانبين طيلة هذه الفترة، ولاسيما خلال احتدام الانقسام السياسي- الطائفي في لبنان بعد اغتيال الحريري. وفي البعد الإقليمي الأوسع لهذه العلاقة والمتصلة باهتمام طهران بالأوساط الشيعية العربية، تقول الأوساط نفسها أن المرشد الإيراني قال لكل من بري ونصر الله إن “اجتماعهما يُفرح قلب صاحب الزمان”، في دلالة إلى أهمية تحالفهما بالنسبة للحكم في إيران. ومع اندلاع الحرب السورية في العام 2011، افترق الطرفان في الخيارات، إذ سرعان ما انخرط “حزب الله” فيها، بينما رفض بري المشاركة رفضاً قاطعاً، وهو ما أغضب كثيرا بشار الأسد، وفق تلك الأوساط. وكان نبيه بري قد “تحفّظ” عن إطلاق “حزب الله” جبهة “إسناد غزة”، فالمقاومة بالنسبة إليه معادلة دفاعية، وليست هجومية. ولكنه مع ذلك وضع كل إمكانات “أمل” وبالأخص اللوجستية في تصرف “حزب الله”، وفق الأوساط نفسها.

أما الدور الذي لعبه نبيه بري في إطار المفاوضات بوساطة أميركية- فرنسية للتوصل إلى وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، فلم يكن دورا معزولا عن “حزب الله” الذي فوّضه بالتفاوض. حتى أن الأوساط عينها تشير إلى أن ممثلين عن “حزب الله” كانوا موجودين طيلة فترة المفاوضات في مقر نبيه بري في عين التينة ببيروت، لافتة إلى أن “حزب الله” كانت لديه تحفظات على مهلة الستين يوما لانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، ولكن بري أخذ الأمر على عاتقه على اعتبار أن الأولوية كانت لإبرام الاتفاق ووقف الحرب. وتقول تلك الأوساط أن بري كان شديد التأثر على رؤية كل ما بناه في الجنوب خلال نحو ثلاثين عاما يتهاوى أمام عينيه، ولذلك كان يريد وقف الحرب بأسرع وقت. وتشير هذه الأوساط عينها إلى أن الانتكاسة الفعلية بالنسبة لـ“الثنائي الشيعي” لم تكن اتفاق وقف إطلاق النار الذي مكّن إسرائيل من الاحتفاظ بحرية حركة في الأجواء اللبنانية، ولا حتى اغتيال نصر الله، بل سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وتقول إنه لو سقط النظام قبل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار لامتنع “الثنائي” الشيعي عن الموافقة عليه.

كل هذا خلق معادلة جديدة أمام الكتلة الشيعية في لبنان، على اعتبار أنها باتت تواجه، وفق تلك الأوساط، تحديان خطيرين: الأول من الجنوب، مع استمرار الاغتيالات والضربات الإسرائيلية، والثاني من الشرق والشمال، ويتمثل بالتداعيات المحتملة لحالة العداء بين الحكم السوري الجديد و“حزب الله”. ولذلك بدأ يتصاعد في أوساط كل من “أمل” و“حزب الله” الكلام عن خطر وجودي يتهدد الشيعة في لبنان. وهنا تضيء الأوساط عينها على تمايز في قراءة كلا الطرفين للظرف الشيعي الراهن. فبري يرى أن الأولوية هي حماية الوجود الشيعي، بينما يرى “حزب الله” أن الأولوية هي لحماية سلاحه ومقاومته. ولكن هذا التمايز لا يعني أن أيا من الطرفين يمكن أن يتساهل مع فكرة فك التحالف بينهما أو زعزعته. وتنقل هذه الأوساط عن قيادي رفيع في “أمل” أن نبيه بري كان سيفضل أي اتفاق مهما كان سيئا من أجل الحفاظ على الوحدة السياسية داخل الطائفة الشيعية، على أي اتفاق مهما كان جيدا إذا كان سيؤدي إلى انقسام بين “أمل” و“حزب الله”. كل هذا مع عودة الحديث، ضمن الأوساط الشيعية، عن ربط مصير السلاح بمستقبل النظام اللبناني نفسه، وحصة الكتلة الشيعية فيه، وهو ما يعيد إنتاج الصراع السياسي- الطائفي على السلطة.

حذر المؤسسة العسكري

ولعل هذا الموقف يشكل مدخلا مهما لقراءة الوضع الشيعي الراهن، وخصوصا لجهة الموقف من قرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح بيد الدولة وتكليف الجيش بتنفيذ ذلك. ففي الجلسة التي عقدتها الحكومة في الخامس من سبتمبر/أيلول 2025، نجح نبيه بري في إيجاد مخرج “متوازن” للأزمة المتفاقمة، بين رئيسي الحكومة والجمهورية المتمسكين بمبدأ “حصرية السلاح”، وبين “حزب الله” الذي يشرطه بالانسحاب الإسرائيلي، وإعادة أسرى الحرب الأخيرة، وإعادة الإعمار. علما أن “حزب الله” يميز جزئيا تعامله مع كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، إذ يبدو أكثر مراعاة للأول، بينما يهاجم الآخر بشراسة، متهما إياه بالخضوع للأوامر الإسرائيلية والأميركية، حتى أن مناصريه وزعوا صورا له مذيلة بكلمة “خائن”.

لكن التسوية التي أبرمت عشية جلسة مجلس الوزراء المذكورة لم تكن بدفع داخلي وحسب، إذ تشير الأوساط عينها إلى أن إمارة قطر دخلت “بالوكالة” على خط الوساطة، وهو أمر يحمل دلالات بالنسبة للموقف الأميركي من تطورات ملف “حصرية السلاح” داخل مجلس الوزراء، لناحية أن واشنطن نفسها تتحسب لأي تصعيد داخلي غير محسوب ضدّ “حزب الله” يمكن أن يؤدي إلى انفجار أمني في البلد. وكانت التسوية قد قضت بـ“ترحيب” الحكومة – دون إقرارها - بخطة الجيش، الذي اكتفى بوضع مراحل لتطبيق نزع السلاح جنوب الليطاني أولا، دون تحديد تاريخ نهائي ومع الوعد بتقديم تقارير شهرية للحكومة عن عمله. وهكذا تم تأجيل موعد الحسم في موضوع لتسليم السلاح، وهو الأمر الذي كان يعارضه “حزب الله” بشدة ما دام لبنان تحت وطأة العدوان الإسرائيلي، داعياً الدولة لوضع خطط مواجهة مع تل أبيب، عوض خطط “تجريد المقاومة من سلاحها”. وفي المقابل انسحب الوزراء الشيعة من جلسة مطلع سبتمبر/أيلول فور دخول قائد الجيش رودريك هيكل لعرض خطته. مع العلم أن كلاًّ من “أمل” و“حزب الله” يرغبان في تحييد الجيش عن الصراع السياسي الدائر بشأن "حصرية السلاح. كما صرّح رودريك هيكل أكثر من مرة أن الجيش لن يدخل في مواجهة مع أي طرف لبناني، في إشارة إلى عدم استعداده لتنفيذ خطته لحصر السلاح بالقوة.

ويشير المصدر نفسه، والذي تحفظ عن ذكر اسمه، إلى أن “حزب الله” كان قد أرسل عشية تلك الجلسة “إشارات أمنية معينة” فُهمت من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية على أنها رسالة من قبل “حزب الله” مفادها أنه مستعد للتصعيد وقلب الطاولة في حال خرجت جلسة مجلس الوزراء في 5 سبتمبر/ أيلول بقرارات تصعيدية ضده. كما ساد ترقب مالي، خشية تأثير التوتر الأمني المحتمل على سعر صرف الليرة اللبنانية.

تريث أمريكي

كل ذلك دفع إلى الاعتقاد بأن الأميركيين لا يرغبون في مزيد من الضغط على الوضع الداخلي اللبناني، خشية أن يؤدي التصعيد المحتمل لـ“حزب الله” ضد الحكومة إلى تضييع الإنجاز الذي حققوه بإقرار مجلس الوزراء أهداف ورقة المبعوث الأميركي توماس باراك، بعد التعديلات التي أدخلها الجانب اللبناني عليها، في 5 أغسطس/آب 2025، من ضمن ما يسمى أمريكيا “متابعة تثبيت وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل الموقف في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024”، والذي نص على حصر السلاح بيد القوى المسلحة الرسمية.

إلا أن التسوية التي حصلت في مجلس الوزراء، واحتوت الانقسام الداخلي، لم تقدم أي أجوبة عن كيفية مواجهة المعضلة اللبنانية الراهنة، والمتمثلة باستمرار إسرائيل في احتلال خمس نقاط حدودية في الجنوب اللبناني ومواصلة هجماتها في لبنان من دون أي رادع. حتى أن باراك الذي ترعى بلاده تنفيذ وقف إطلاق النار قال خلال زيارته ما قبل الأخيرة إلى لبنان أن واشنطن لا تستطيع إملاء أي أمر على إسرائيل، وفي تصريح له في29 نوفمبر/تشرين الثاني أكد السفير الأميركي الجديد في لبنان، اللبناني الأصل ميشال عيسى، أن “إسرائيل لا تحتاج إذنا منا للدفاع عن نفسها”.

وهذه المقاربة الأميركية المنحازة إلى إسرائيل بحجة أن “حزب الله” لم يسلم سلاحه إلى الجيش اللبناني كما ينص اتفاق وقت إطلاق النار الموقع في نوفمبر الماضي- في وقت أن إسرائيل تواصل خرق هذا الاتفاق وباعتراف قوات “اليونيفيل”- لم تمنع واشنطن من فرملة اندفاعة بنيامين نتنياهو للتصعيد ضد “حزب الله” بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من خلال دفع الحكومة اللبنانية للقبول بمشاركة مندوب مدني من قبلها في اجتماعات “لجنة الإشراف على وقف الأعمال العدائية” والتي تعرف بلجنة “الميكانيزم” (ترأسها أميركا وتضم مندوبين عسكريين لفرنسا وقوات الأمم المتحدة في لبنان، إضافة إلى الجيشين اللبناني والإسرائيل)، مقابل ثني إسرائيل عن شن حرب جديدة ضدّ “حزب الله”، مع العلم أنها تواصل قصفها داخل الأراضي اللبنانية وإن بوتيرة أقل كثافة مقارنة بالأشهر الماضية.

هذا التطور المتمثل بضم مدني لبناني هو سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة سيمون كرم، إلى اجتماعات “لجنة الميكانيزم” مقابل إيفاد إسرائيل مثلا مدنيا لمدير مجلس الأمني القومي، سرعان ما استغله نتنياهو للحديث عن التأسيس لتعاون اقتصادي مع لبنان، وهو ما رد عليه رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام بالقول إن لبنان ليس في صدد الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل. لكن الخلاصة الرئيسية هي أن نتنياهو الذي يواجه ضغوطا داخلية على خلفية خضوعه للمحاكمة في قضايا فساد، في وقت تزداد في الداخل الإسرائيلي الأصوات التي تتهمه بالخضوع لإملاءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أراد أن يصور مشاركة موفد مدني لبناني في اجتماعات لجنة “الميكانيزم”، كما لو كان خطوة أولى نحو تطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، في محاولة لتبرير تراجعه عن التهديد بشن حرب جديدة ضدّ لبنان. مع أن توسيع لجنة “الميكانيزم” لم يبدد المخاوف بشأن هذه الحرب الإسرائيلية المحتملة، في سياق ما قبل الانتخابات التشريعية المزمع انعقادها في إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2026.

فمن يسبق في لبنان، هل مسار “السلام” أم مسار الحرب؟ في لحظة تختلط فيها الأوراق في المنطقة، فمن التقارب السعودي والتركي مع إيران الذي يمكن أن ينعكس على لبنان من تخفيف حدة التشنج الداخلي حول سلاح “حزب الله”، إلى موقف إدارة ترمب الذي يبدو أنه يميل إلى خفض التصعيد الإسرائيلي في سوريا ولبنان مقابل قبول حكومتي البلدين بالسعي لإبرام اتفاقات أمنية مع إسرائيل، إلى محاولة نتنياهو للنجاة سياسيا وقضائيا بإبقاء خيار التصعيد مفتوحا، إلى موقف “حزب الله” الذي يرفض المفاوضات المباشرة مع إسرائيل معتبرا أن توسيع وفد لبنان في “لجنة الميكانيزم” هو تنازل مجاني لإسرائيل، بينما حليفه الأقرب نبيه بري وافق على هذا التوسيع، ما يطرح سؤالا عن كواليس موقف “حزب الله” إزاء كل هذه المتغيرات.

في المحصلة، إذا كان من الصعب تجاوز الإشكالية الذي يطرحها سلاح “حزب الله” في الداخل اللبناني، فإنه من المستحيل تجاهل الخطر الإسرائيلي في جنوب لبنان، في وقت تستمر إسرائيل في احتلال خمس نقاط حدودية، كما تواصل قصفها للأراضي اللبنانية، وتسعى لإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان، وهذا لوحده كاف لمقاربة لبنانية مختلفة لسلاح “حزب الله” لا تنكر إشكالية استعصاءات التعايش بين الدولة و“المقاومة” المستمر منذ عام 1969 - بعد توقيع “اتفاق القاهرة” بين “منظمة التحرير” والجيش اللبناني- ولكن لا تنكر أيضا مخاطر الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية، وانعكاساتها في الجنوب اللبناني.

1قانون أميركي صدر عام 2012 يهدف إلى معاقبة الأفراد والجهات المتورطة في الفساد المالي أو انتهاكات حقوق الإنسان