ملف

على دروب العربية

نبدأ اليوم بنشر الملف الخاص باللغة العربية، بوتيرة مقال أو اثنين كل يوم على مدى أسبوع
ولقد تم إعداد هذا الملف في إطار الأنشطة التي تقوم بها شبكة إعلام مستقل من العالم العربي، بمشاركة كل من نواة، مغرب إيميرجان، حبر، ماشالله نيوز، الجمهورية.نت، السفير العربي، أوريان21 .

© Dalal Mitwally

كيف ننظر اليوم الى هذه اللغة القديمة التي ترقى الى فجر الزمن الميلادي؟ أما زالت لغة الشعر، الذي كان يعتبر أسمى الفنون في الجزيرة العربية ما قبل الإسلام ؟ أم هي لغة النص القرآني، الذي أرسى قواعدها وجعل انتشارها كونياً؟ هل هي لغة إدارة الدولة، الموروثة من الامبراطورية الأموية ، أم أنها تَرِكة الامبراطورية العباسية التي جعلت منها ناقلاً للعلوم والفلسفة، بالموازاة مع أدب رفيع، من ضمنه ما سمي ب“مرايا الملوك”؟ أما زالت موضع الحنين الى الأندلس حين لعبت دور ناقل المعرفة الى أوروبا عبر ترجمة تراث القدماء الى اللغات الأجنبية؟ أهي قبل أي شيء آخر لغة الصحافة الشرق أوسطية التي جددتها النهضة العربية وجعلتها أكثر مرونة ؟ أم هي أداة للتعريب القسري في بلدان المغرب العربي ذات الأصول البربرية؟ أهي فعلاً اليوم إحدى اللغات الأكثر شيوعاً على الانترنت؟ أهي أكثر من غيرها مطبوعة بالازدواجية، بين لغة رسمية تتشارك بها كل الدول العربية ولهجة عامية، تختلف حسب البلدان؟ أم هي في نهاية المطاف وبكل بساطة، وأياً كان شكلها، وكسائر اللغات أداة تواصل، يمكن أن يكتسبها فرنسيون في أوروبا أو عمال مهاجرون من آسيا وأفريقيا في البلدان العربية؟ تتناول المقالات التالية اللغة العربية من زوايا عدة ، تختلف فيها النظرة بل وتتعارض فيما بينها أحياناً، مما يضفي على الملف طابعاً حياً ثرياً.

شريط الفيديو الذي وضعه لمين لسود من مجلة نواة يتطرق الى ضرورة إعلاء شأن اللغة المحكية في الحياة اليومية في تونس وقدرتها على الإنتاج الفكري ونقل المعرفة، في مواجهة ما يعرف باللغة الفصحى المعتبرة تقليدياً لغة العلم والتعليم. ويعتبر المتحدثون الذين قابلهم واضع الشريط أن المحكية التونسية هي لغة قائمة بذاتها، وأنها لغة الشعب مقابل لغة النخبة، بل وتعبر عن صراع الطبقات، وأنه لا بد من ترجمة النصوص الأجنبية إليها. بل وأن لغة الأرشيف التاريخي الذي يرقى الى القرن السادس عشر والسابع عشر ليست اللغة الفصحى الصافية، إذ تحتوى حسب المتحدثة على الكثير من الكلمات العامية. المتحدث الأخير وحده اعتبر أن اللغة العربية هي ما يربط تونس بمحيطها العربي وبتراث مشترك معه وأن الانقطاع عنها هو بمثابة عزل البلاد عن محيطها، وأن رفع شعار تعميم اللهجة العامية ليس منزهاً عن النوايا المبيتة.

ينحو مقال نبيل المنصوري من مجلة مغرب إيميرجان المنحى نفسه، أي إسباغ قيمة عالية على اللغة المحكية بل ويذهب الى حد التعارض الجذري بينها وبين اللغة الرسمية من حيث الدور الذي تؤديانه. يجعل من العامية “صوت الشعب” في مواجهة لغة عربية متماهية مع السلطة، تمثل الاضطهاد والقمع. ويستند الصحفي في منطقه هذا إلى ما حدث في إحدى التظاهرات الشعبية، التي أطلق فيها أحد المتظاهرين شعاراً بالعامية لم تفهمه مراسلة التلفزيون وحثّته على التكلم “بالعربية”، فثار عليها غاضباً قائلاً إن العربية ليست لغته. واشتهر شعاره الذي لم تفهمه الصحفية “يتنحاو ڨاع” حتى دخل مرجع الويكيبيديا. ويعتبر الكاتب أن العامية هي “اللغة الوسيطة” الوحيدة القادرة على توحيد الشعب في بلد يشهد تعدد اللغات من أمازيغية وفرنسية وعربية. ولذلك فلا بد من إعطائها حقها في كافة المجالات.

يتناول مقال شاكر جرار من مجلة حبر تباين اللهجات التي ينطق بها سكان الأردن ولا سيما صوت “القاف”، بما يُبين أن مسألة العاميات مسألة أكثر تعقيداً مما يبدو للوهلة الأولى. فمن الصعوبة بمكان اعتبار “العامية” منظومة واحدة متجانسة، لها دور ثابت في المجتمع. ولقد وضع جرار دراسة متعمقة متأنية، مستندة إلى الشواهد، وفيها الكثير من الطرائف. نلمس عبرها كيف يمكن للفظ القاف أن يتباين حسب المنطقة الجغرافية، والأصل العرقي، والطبقة الاجتماعية، والسكن الحضري أو الريفي، والجندر، بل وخيار المتحدث في تبني شخصية معينة، فِي ظروف معينة، وأوساط معينة. ولا تقتصر أهمية المقال على الدراسة اللغوية-الاجتماعية، بل تتعداها إلى استعراض تاريخي مشوق لصناعة الهوية الثقافية الأردنية بخلفية أيديولوجية، والى بحث مفيدحول أوضاع المرأة والتعليم.

مقال ميشلين طوبيا من مجلة ماشالله نيوز ينبهنا بدوره إلى أن الأمور ليست ثابتة، فالعامية نفسها يمكن أن تكون أداة قمع تارةً، ووسيلة تحرّر تارةً أخرى ، حسب الجهة التي تستخدمها. فهي لدى الأسياد في لبنان لغة تعنيف، لغة الشتائم والأوامر والإساءة اللفظية، فيما تصبح بين أيدي الخادمات المهاجرات اللواتي يتعلمنها لغة صمود في وجه الاستغلال وأداةً فعالة لحماية حقوقهن. اللغة بالنسبة لهن أولاً وقبل أي شيء مسألة بقاء، للتواصل مع المحيط المباشر، ثم للتواصل مع الزميلات الوافدات من بلدان مختلفة، سريلانكا، أثيوبيا، مدغشقر. وهي ضرورة لاكتساب الاستقلالية في التحرك ولحماية أنفسهن من المضايقات في الشارع. وإيصال صوتهن بشكل أفضل في مسيرات الاحتجاج. بل أن بعضهن يتعلمن الفصحى من أجل إدراك بنود عقد العمل وفهم نشرات الأخبار على التلفزيون.

وكما أن اللهجة المحلية تتوقف في وظيفتها على من يستخدمها وكيفية استخدامها فإن اللغة الفصحى أيضاً تستخدم من قبل السلطة لتعزيز سطوتها على الشعب. هذا ما يبينه لنا مقال محمد جلال ونائلة منصور من مجلة الجمهورية، الذي يتفحص بعض العبارات المفضلة لدى النظام السوري، الذي يحيط نفسه، شأنه شأن كل الدكتاتوريات، بأجواء من العظمة والأبهة. واللغة الفصحى توفر له بما لها من جلال القدرة على تفخيم الخطاب. فعندما يقول أحد القادة: “أهيب بكم” فهو لا يقصد بها :“أناشدكم، أناديكم” بل يمعن عبرها في الترهيب وفرض الأوامر. فالعبارة تكتسي في نظام الطغاة لهجة التهديد والوعيد. وكذلك الأمر بالنسبة لعبارات أخرى مشتقة من فعل “هاب” ككلمة “الهيبة”، والتي لو استخدمت في سياق شاعري لجعلتنا نرى جمالاً راقياً وسحراً أخاذاً ولكن استخدامها من قبل البعض يقصرها على الذكورية الفجة بل والعنيفة، وعلى تجريم “التعدي على هيبة الدولة”، مما جعل ثورة 2011 تُحدث قطيعة مع هذا الخطاب الملتبس، فتخرج بشعارات أكثر التصاقاً بسيادة الشعب مثل “الكرامة”.

المقال الذي وضعته منى علام من مجلة السفير العربي يؤكد بدوره على الفكرة القائلة بأن المعنى ليس أسير الكلمة، بل يتأثر بالسياق، سياق الظروف التي يأتي فيها الخطاب وكذلك سياق النص الذي تأتي فيه الكلمات. تتطرق منى علام إلى القراءات النسوية، لدى مثقفات غربيات وعربيات، بخصوص بعض العبارات من سورة النساء التي تطرح إشكاليات (“قوامون” و“نشوزهن” و“اضربوهن”) وهي قراءات تعيد النظر في التفسير التقليدي التراثي الثابت. قد تختلف نظرة كل منهن وتتعارض ولكن محاولاتهن، التي تصل أحياناً حد “التخريجات” اللغوية تبقى جديرة بكل اهتمام.

من لغة القرآن في صدر الإسلام ننتقل مع أحمد وائل و مجلة مدى مصر إلى اللغة العربية الحديثة. ومن السلطة السياسية والدينية إلى السلطة الأكاديمية. حيث تواجه اللغة في عصرنا الحالي إشكالية التطور السريع للحاق بركب العلوم الاجتماعية والإنسانية والتقنيات المستوردة. وقد يتمثل الحل أحياناً بتبني ألفاظ المصطلحات الأجنبية كما هي، سيما عندما تفرض نفسها في التداول العام وينتشر استخدامها، عِوَضاً عن التشبث باشتقاق غير مقنع في بعض الحالات. ولقد راسل الصحفي مجمع القاهرة، أحد أهم المجاميع اللغوية في العالم العربي (رغم ما يعتري عمله من بطء وبيروقراطية) ، بصفته مسؤولاً عن وضع المعاجم وتحديثها. ليستفسر من المسؤولين عن ترجمة بعض الكلمات الأجنبية الشائعة. واقترح الأخذ ببعض الاستعمالات الواردة بكثرة في العامية المصرية، والتي تؤدي الغرض منها، ولا سيما في مجال الإنترنت. كان الرد رد بأن المسألة قيد الدرس وقد تأخذ وقتاً.

وجود اللغة العربية في الفضاء الافتراضي موضوع تطرق إليه كذلك مقال مجلة أوريان21 حول “اللغة العربية خارج أراضيها”. فوجودها على الإنترنت في المرتبة الرابعة بين الغات الأكثر تداولاً يطرح عليها بعض التحديات مثل سلامة النحو والصرف بالنسبة للفصحى وكذلك الحد من الفوضى المصطلحية، المتمثلة بالترجمات العديدة المختلفة للكلمة الأجنبية الواحدة. أما تواجد الفصحى بشكل متزايد في الوسائل السمعية البصرية فقد وسع من الميادين التي تتصف فيها بالمشافهة، وجعلها تتعايش مع اللهجات العامية وتتفاعل معها. اللغة العربية خارج أراضيها هي أيضاً في أوروبا “لغة الآخر”، ولا سيما في فرنسا حيث يحاول اليمين أن يقدمها على أنها “لغة طائفة” وليست إحدى اللغات الحية الكبرى في العالم. في حين يعتبر الكثير من الفرنسيين أنه من الضروري التشجيع على تدريسها من باب الانفتاح على التنوع الثقافي لا بهدف إحلالها محل الفرنسية كما تزعم بعض الحملات المفضوحة.

النتيجة التي يمكن أن نستخلصها هي ضرورة الخروج من الثنائيات التبسيطية التي تحمل على الاعتقاد بوجود صراع جوهري بين لغة وأخرى، بين العربية والفرنسية، أو بين العاميات والفصحى. فعلاوة على كون معارك الهوية مفتعلة ومدمرة، نحن نعيش اليوم في عالم متعدد اللغات، من العبث أن نُغَلِّب فيه لغة على أخرى، فلا الحروب الأيدولوجية القومية تفيدنا ولا الشعبوية اللغوية المتسمة بشيء من الأبوية . ثمة بعض الآثار الإيجابية للعولمة، منها استعادة اللغة العربية حيويتها، في كل أشكالها، وتحفيز النقاش بشأنها.