ملف

السكن في العالم العربي. بين الحق والضغوطات

تظهر الصورة منطقة سكنية مزدحمة تتكون من مبانٍ متعددة الطوابق مصنوعة من الطوب. المنازل ذات الألوان الداكنة، بعضها يحتوي على نوافذ وأبواب ملونة، مثل اللون الأخضر. هناك أسطح بها أطباق ساتل، مما يشير إلى استخدام خدمات التلفاز. بالإضافة إلى ذلك، يمكن رؤية الملابس معلقة على الحبال في الخارج. الأجواء تعكس حياة المخيمات الحضرية حيث تمزج بين الفقر والتنوع الاجتماعي. السماء زرقاء وصافية، مما يضيف لمسة من الإشراق على المشهد.
حي فقير في القاهرة.
David Evers/Flickr

“أين تسكن؟” قد يبدو هذا السؤال شكليا، لكن جوابه يكشف العديد من المؤشرات عن المستجوب. من خلال معرفة موقع السكن (المدينة، الضاحية، الريف، الحي، إلخ)، وتصنيفه (شقة، منزل)، وطريقة استغلاله (العيش مع عائلة، كزوجين، فرديا، في شقة مشتركة، إلخ)، تتكون بسرعة فكرة عن الشخص المتحدث، لأن السكن علامة اجتماعية قوية تبرز عدم المساواة.

تتأثر كل دولة في العالم العربي من أزمة السكن بطريقة مختلفة عن الأخرى، ويعود ذلك لتاريخها والسياسات المختلفة التي تتبعها كل حكومة. رغم ذلك، نجد نقاطا مشتركة بينها، كصعوبة الحصول على سكن لائق وخطر فقدان السكن. فعلى الرغم من أن دول هذه المنطقة وقّعت على العديد من النصوص القانونية الدولية التي تضمن الحق في السكن الملائم، وخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، لا يزال هذا الحق مهملاً إلى حد كبير. لإبراز حجم المعضلة، نشير على سبيل المثال إلى أن حوالي نصف السكان المصريين لا يحصلون على سكن لائق، أي مسكن آمن وكريم.

رحلة البحث عن السكن اللائق

تتعدد العوامل التي تفسر هذه المشاكل. فقد شهدت العديد من دول المنطقة مثل مصر واليمن والجزائر انفجارًا حضريًا بسبب النزوح الريفي إلى المدن. وحاولت برامج مختلفة تلبية الطلب المتزايد على الإسكان، لكن غالبًا ما يتم استبعاد السكان المعسرين من هذه المبادرات لصالح الطبقات الوسطى.

يضاف إلى ذلك رفع القيود على أسواق الأراضي والعقارات، وهذا لا يسمح للعائلات ذات الدخل المتواضع بالوصول إلى العقارات أو سوق الإيجار. في هذا السياق، يعتبر منح السكن الاجتماعي حلاً للكثيرين، لكنه وضع يعزز نظام الزبائنية. وهكذا تبتعد العديد من العائلات عن السوق الرسمية لبناء منازلها خارج الإطار التنظيمي.

عادة ما يشار إلى هذه الظاهرة باسم “السكن العشوائي”. يشير السكن غير النظامي، أو سكن “الانبثاق الشعبي” كما تسميه أنياس ديبوليه1، إلى حقائق اجتماعية واقتصادية مختلفة: مساكن من الصفائح المعدنية التي تصنف كأحياء قصديرية، أو منازل بالإسمنت يتم بناؤها على أراض زراعية، أو مساكن غير صحية وغير آمنة في مراكز المدن التي يتم احتلالها، أو المنازل التي تم بناؤها على قطع أرضية أكبر من تلك المصرّح بها.

سياسات التخطيط الحضري المتناقضة

إذا كان العيش في سكن لائق يشكل رهانا كبيرا، فإن الاحتفاظ به رهان آخر. فعمليات الإخلاء والهدم ممارسات شائعة. وأسباب هذه المآسي كثيرة ويمكن أن تتشابك. إذ يمكن للتناقضات في سياسات التخطيط الحضري أن تخلق أوضاعا خطيرة بالنسبة للسكان. على سبيل المثال، فالقوانين المصرية التي تهدف إلى تأطير سوق الإيجار، خاصة عندما يتزامن تجميد الإيجار مع رفع القيود عن السوق، تشكل عقبة كبيرة لتجديد العديد من المباني القديمة في القاهرة. وليس من النادر رؤية مباني منهارة أو شبه منهارة في حين ما تزال أسر تعيش داخلها. بالمقابل، نلاحظ عواقب جد خطيرة يمكن أن تترتب عن غياب تدابير متعلقة بالإسكان، وهو ما تُذكِّرنا به مأساة الدويكة بمصر أيضا سنة 2008، والتي راح ضحيتها 107 أشخاص، عندما انقلعت صخور كبيرة من التلة وسقطت على حي عشوائي.

تُضاف إلى ذلك آثار السياسات النيوليبرالية على سوق العقار والأراضي، والتي يعدّ الاستطباق (عملية تحلّ من خلالها طبقة اجتماعية أكثر ثراءً محلّ طبقة شعبية في حيّ ما) -وهي ظاهرة ما تزال محتشمة في المنطقة- أحد نتائجها المنطقية. لأن الاستثمار في حي وتحقيق أرباح بالنسبة لمستثمرين خواص، يتطلب غالبا إخلاء السكان الفقراء وهدم المباني القديمة لبناء مبان جديدة.

هناك تهديد آخر للسكن، وهو الحرب. فالهروب من العنف ومغادرة السكن نتيجة حتمية في كل الحروب. ومن سوريا إلى فلسطين، لا يمكن إحصاء عدد العائلات المهجّرة التي دُمّرت مساكنها، لتتجمع بعد ذلك في مخيمات لاجئين بحثا عن أماكن إقامة مؤقتة.

وجوه قابعة خلف الجدران

أراد أعضاء شبكة إعلام مستقل من العالم العربي استكشاف الجوانب المختلفة لهذه المشاكل. لذا ننشر هنا سلسلة من المقالات التي تهدف إلى كشف الستار الوجوه القابعة خلف الجدران، وسرد المآسي والنضالات، ومساءلة الأسباب الخارجية والداخلية. ينطلق صحافيو الشبكة من أوضاع ملموسة لاحظوها، ويصفون تعقيدات هذه الظاهرة، إذ أن مسألة السكن تقع في مفترق طرق بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي، وتمزج بين الأبعاد الاقتصادية والثقافية. ولكنها على الخصوص، قصة رجال ونساء وأطفال يشكّلون أُسرَا ويبنون ذاكرتهم ويحمون خصوصيتهم.

— تعد أزمة السكن رهانا رئيسيا في الجزائر منذ الاستقلال. وفي محاولة الاستجابة إلى طلب متزايد، تم وضع عدة برامج من بينها "البيع بالإيجار الذي يسمح للطبقات الشعبية بالحصول على سكن اجتماعي. تحلّل لورانس دوفرين أوبيرتان (أوريان 21) أشكال التعبئة التي تقوم بها النساء للحصول على مثل هذا السكن قصد الهروب من وضع غير مريح أو سكن غير لائق أو من الاكتظاظ. فبعيدا عن عمليات الاحتجاج المغطاة إعلاميا، تحتل النساء يوميا قاعات الانتظار في الإدارات، حيث يُقمن روابط اجتماعية ويعبّرن عن مطالبهن في الفضاء العام بالاعتماد على الأسرة ككيان سياسي.

— تعالج غنية خليفي (من موقع “باب الماد”) الموضوع من زاوية أخرى، لتبرز الظلم الهيكلي الذي تواجهه النساء في الجزائر للحصول على السكن (قانون الأسرة، الممارسات الاعتيادية للقضاة، تسجيل السكن باسم الزوج..). وتواجه المطلقات والأرامل والطالبات والأمهات العازبات العديد من العقبات، مثل التمييز والتحرش والعنف الجسدي أو النفسي وقرارات المحاكم على حسابهن.

— يهتم مقال نجلاء بن صالح (من موقع “نواة”) بعملية الاستطباق الجارية في حي أريانة، شمال تونس العاصمة. ففي يونيو/حزيران 2021، أسفر طرد امرأة في الثمانين وعائلتها الذين عاشوا لمدة 60 عاما في منزل وسط المدينة، على تعبئة قوية. غير أن موجة طرد السكان قصد هدم المساكن القديمة واستبدالها بمبانٍ بعدة طوابق لمضاعفة الأرباح تبدو لا رجعة فيها. فالسلطات العمومية لا تحرك ساكنا أمام انتهاكات الحقوق الاجتماعية للسكان.

— تقترح ساندرا الريشاني (Mashallah News) نزهة عبر حي “الخندق العميق” الشيعي، الذي يقع على بعد خمس دقائق فقط من وسط مدينة بيروت. تذهب الصحفية لمقابلة السكان وتجمع شهاداتهم قصد إبراز تاريخ الحي وتطوره. فمنذ النصف الثاني للقرن 19، يتدفق المهاجرون نحو بيروت وخاصة نحو هذا الحي الشديد التنوع (كوسموبوليتي). غير أن أزمة عام 1958 كانت بمثابة نهاية “العصر الذهبي” لهذا الحي والذي شهد تفاقما في التوترات الطائفية. فالخندق الذي يقع على الخط الفاصل بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية أُفرغ من سكانه. ومع نهاية الحرب الأهلية وحين آن الأوان لإعادة إعمار وسط العاصمة، نسي المستثمرون حي الخندق، فتدهور التراث العمراني وبقي العمال الفقراء يتكدّسون به في مساكن متداعية.

— ردا على قانون الإسكان الجديد في مصر، والذي أعلنته حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي في أغسطس/آب 2020، يقدم مصطفى محيي ومحمد طارق (من موقع “مدى مصر”) فيديو يشرح سبب بناء العديد من السكنات خارج الإطار القانوني، ما يجعلها مهددة بالهدم. وقد ساهمت الأزمة الزراعية ورفع القيود عن سوق العقارات في نمو بناء هذه المساكن على الأراضي الزراعية. صحيح أن هناك حلول تهدف إلى تأطير الأحياء العشوائية، لكن الحكومة لا تطبّقها، بل تواصل بناء مدن غير ملائمة لسكان الريف.

— يقدّم لطف الصراري (من موقع “السفير العربي”) دراسة دقيقة حول مخاطر الفيضانات في عدة أحياء من مدينة صنعاء، إذ تواجه العاصمة اليمنية توسّعا حضريا غير مضبوط، يمكن تفسيره بعدة عوامل، كالتدفق الكبير للمهاجرين الفارّين من الحرب، والتناقضات في سياسات التخطيط الحضري، أو تنامي السكنات غير النظامية بتشجيع من المستثمرين. يسمح غياب التخطيط العمراني بتوسيع الأحياء العشوائية على أسرة الوديان القديمة، في حين تسببت الفيضانات الأخيرة في 2020 في أضرار جسيمة في هذه الأحياء، أدت إلى تدمير العديد من المساكن. ويتساءل الكاتب عن الحلول المقترحة من قبل الحكومة في ظل تأثيرات التغير المناخي وخطر تكرّر مثل هذه الحوادث.

الاهتمام بالسكن يعني أيضا النظر إلى المنزل كموضوع سياسي وتاريخي وثقافي. من المستحيل الكتابة عن البيت الفلسطيني دون فهم سياق الاحتلال والاستعمار الإسرائيليين وعواقبهما على سكن الفلسطينيين. يذكّر مقال “فلسطينيات” ما يعنيه فقدان البيت بالنسبة للعائلات الفلسطينية التي طردها الإسرائيليون في سنة 1948، والعودة المستحيلة التي يرمز إليها المفتاح. منذ ذلك الحين تستمر الإجراءات الاسرائيلية (الطرد القسري، هدم المنازل كعقوبة جماعية..) بهدف تعزيز إقامة المستوطنين.

1نحو تعمير ذي انبثاق شعبي. مهارات وإنجازات سكان المدن: مثل القاهرة، 1994، أطروحة أنييس ديبوليه. Vers un urbanisme d’émanation populaire : compétences et réalisations des citadins : l’exemple du Caire, 1994, Thèse d’Agnès Deboulet.