في الخامس عشر من أيار/مايو 1997، رحل عنا في دمشق، بعد حياة قصيرة لم تتجاوز السادسة والخمسين عاماً، الصديق سعد الله ونوس، أحد أبرز المثقفين والمسرحيين النقديين العرب. في هذه المساهمة، التي أهديها إلى ذكراه، سأعالج التحوّلات التي طرأت على نظرته إلى المسرح ودوره في المجتمع ؛ وأبدأ بالإشارة إلى أن سعد الله ونوس، وقبل أن يكون رجل مسرح، كان رجل فكر وصاحب مشروع ثقافي. أما المسرح، فكان الأداة التي مكّنته من التعبير عن هذا المشروع وما يحتويه من قضايا وهموم. ولم يكن اختياره المسرح اختياراً عشوائياً، بل كان اختياراً واعياً نبع من قناعة تولّدت لديه، منذ وقت مبكر، بأن هذا الشكل من أشكال التعبير الفني يوفّر أكثر من غيره “فسحة للتدرب على الإصغاء وتجاوز المونولوغ إلى حوار يتبادل فيه الناس الأفكار”؛ وتبادل الأفكار “هو الذي يفضي إلى المستقبل”، كما كان يحب أن يقول.
ولم تبق نظرة سعد الله إلى المسرح ودوره في المجتمع جامدة، بل تطوّرت بحكم التغيّر الذي طرأ على المسرح نفسه. ففي بداية تجربته المسرحية، كان طموحه أن يصنع مسرحاً للجماهير يكون نتاج فعل جماعي يلعب فيه الحوار داخل المجموعة المسرحية، وبين هذه المجموعة والمتفرجين، دور المحرك. إذ كان على المتفرج، في تصوّره آنذاك، أن لا يكتفي بموقع المشاهد السلبي، بل كان عليه أن يتدخل مباشرة في العمل المسرحي، بحيث يسهم الحوار المركّب، الذي يدور داخل صالة العرض، في تغيير العقلية السائدة لدى جمهور المتفرجين ويعمق وعيهم الجماعي بالقضايا والمشكلات التي يتناولها العمل المسرحي.
وبانطلاقه من فكرة أن المسرح كان سياسياً منذ نشأته، وهو يحافظ على وظيفته السياسية حتى عندما يبدو غير مكترث بالسياسة، ألح سعد الله، في تلك المرحلة المبكرة من تجربته، على ضرورة أن تمتلك المجموعة الهادفة إلى إرساء قواعد حركة مسرحية في بلداننا العربية الوعي اللازم بطبيعة دورها السياسي، وأن تدرك حقيقة أن الصراع الذي ستعكسه في مسرحها هو صراع اجتماعي في المقام الأول.
وعلى قاعدة هذا الفهم لعلاقة المسرح بالسياسة، تبنى سعد الله مفهوم “مسرح التسييس” بصفته مسرحاً يتوّجه إلى جمهور مستلب الوعي، ويهدف، عبر أشكال اتصال مبتكرة، إلى “تسييس” هذا الجمهور بما يهيئه للتغيير والثورة (بيانات لمسرح عربي جديد، بيروت، دار الفكر الجديد، 1988).
وكما يذكر سعد الله ونوس في حواراته مع ماري الياس (“الطريق” البيروتية، كانون الثاني – شباط 1996)، فإن أعمال تلك المرحلة (“حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، و“الفيل يا ملك الزمان”، و “الملك هو الملك”) كان يجمعها ملمح عام هو إيمان بالقدرة على التدخل في التاريخ وأحداثه، وهو إيمان نبع من افتراض أن توسيع هامش الديمقراطية في المجتمعات العربية أمر ممكن، وأن فرص الحوار متاحة، وأن الآفاق مفتوحة أمام نمو تدريجي في الوعي يفضي إلى فعل، أو على الأقل إلى شعور بضرورة الفعل. ويمكن القول إن تلك المرحلة في تجربة سعد الله انتهت مع مسرحية “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، التي كتبها سنة 1978، وحاول فيها أن يرصد الرحلة الشاقة التي ينبغي على الإنسان العربي البسيط أن يقطعها كي يتوصل إلى الاقتناع بأن قول “امشِ الحيط الحيط وقل يا رب السترة” لا يقود إلى السترة، وأن سبب آلام حنظلة “هو حنظلة” نفسه، وأن “حياة حنظلة لا يغيّر مجراها إلاّ حنظلة”، الذي عليه أن يدرك أن كل ما حوله يعنيه لأن فيه مصيره.
ومنذ منتصف الثمانينيات، صار سعد الله ونوس يعبّر عن نظرة جديدة إلى المسرح ودوره، إذ اعترف، بعد أن كان قد توقف عن الكتابة المسرحية لسنوات، أن أمله خاب في إمكانية إسهام المسرح، من خلال دوره في تفتيح الوعي، في تهيئة شروط إطلاق حركة تغييرية قريبة أو كامنة في أفق منظور. وأكد، في الحوار الذي أجراه معه نبيل حفار (ونُشر في العدد الثاني لسنة 1986 من مجلة “الطريق” البيروتية)، أن هذا الأمل قد تراجع ليحل محله اعتقاد بأن المسرح ليس في وسعه أن يكون عامل تغيير “فوري وراهن”، الأمر الذي يفرض عليه – أي على المسرح – أن يتواضع وأن يتخلى عن أوهامه بفعالية سياسية مباشرة، ليندرج في إطار حركة تنويرية عامة قد تكون هي “ملاذ” المثقفين العرب.
ففاعلية المسرح باتت مرتبطة، وفقاً لنظرته الجديدة هذه، بنجاحه في أن يكون “وسيلة معرفية” توسّع أفق المتفرج معرفياً، و“وسيلة جمالية” توقظ في ذهنه قابلية للذوق والتذوق تكون مختلفة عن القيم التي يعممها الفن والإعلام السائدان. وإذ أقر سعد الله بمكانة المسرح “الهامشية” في المجتمع –التي ساهمت في تكريسها، في رأيه، الرقابة والتحوّلات التي طرأت على المجتمع وعلى وسائل الإعلام والاتصال – فإنه شدّد على ضرورة أن يبتعد المسرح “المهمش” عن “الشعبوية”، بحيث يتحوّل “من مركز تلقين إلى مركز تساؤل وتأمل، يزداد جرأة في استكشاف الفرد والمجتمع”. وهكذا، لم يعد سعد الله معنياً بصورة مباشرة –كما كان في السابق – بجمهور المسرح وتركيبه الاجتماعي والثقافي، ولا بالبحث عن الوسائل التي تضمن أفضل تواصل معه، كما لم يعد يتصوّر في ذهنه، عند الكتابة المسرحية، جمهوراً من طبيعة محددة يحتل مقاعد المتفرجين في صالة العرض.
وفي ظني، فإن هذا التخلي عن الطموح السابق إلى بناء مسرح للجمهور، وفّر لسعد الله ونوس هامشاً أوسع من الحرية عند الكتابة، التي اغتنت بذلك كثيراً، وتعمقت مضامينها، وتعددت رؤاها وصارت تلجأ إلى استعارة أساليب أجناس أدبية أخرى، ولا سيما الرواية. وما لا شك فيه، فإن تغيّر نظرة سعد الله إلى المسرح ودوره ارتبطت، ارتباطاً جدلياً، بالتحوّل الذي طرأ على نظرته إلى المثقف ودوره. فحتى نهاية السبعينيات تقريباً، ظل مقتنعاً بأن على المثقف العربي أن ينخرط، بصورة مباشرة، في العمل السياسي، بمفهومه الضيق، إلاّ إن المراجعة الشاملة التي قام بها في الثمانينيات دفعته إلى إعادة النظر في علاقة الثقافة بالسياسة، بحيث صار يرى أن المسرح لن يزدهر وينجح في تجاوز أزماته ومعوقاته “ما لم تتوافر سياسة ثقافية تستوعب وتلبي حاجات مجتمع مدني قائم على الديمقراطية والتعددية”، معتبراً أن في مقدور المثقف الإسهام في توفير شروط ولادة مثل هذه السياسة الثقافية إن هو عاد إلى الاضطلاع بدوره النقدي في المجتمع، وهو دور أصبح، في نظره ، أشد أولوية وإلحاحاً من الانخراط في العمل السياسي اليومي. أما غياب أو تغييب هذا الدور النقدي للمثقف العربي، فقد أرجعه – كما ورد في حواراته مع ماري الياس – إلى توجّه هذا المثقف، ولا سيما في مرحلة ما بعد الاستقلال، نحو حرق المراحل وخضوعه لسيطرة الأفكار الجاهزة المغلقة، الأمر الذي تسبب في انقطاع الصيرورة التاريخية بين مثقفي عصر النهضة، أيام الاستعمار، ومثقفي الدولة الوطنية، وجعل العرب يعجزون عن المراكمة الثقافية ويعودون، في كل مرحلة، للبدء من نقطة الصفر.
ولن يكون المثقف العربي بقادر – كما أكد سعد الله ونوس – على استعادة ذلك الدور النقدي، الذي كان له في زمن مضى، ما لم يمارس حريته ويحبها، ويقتنع بحقيقة أن الوجود الفردي إذا اغتنى لن يمزق شمل الجماعة بل سيعزز وحدتها، وذلك على اعتبار “أن الاستثناء والتفرد هما اللذان يجعلان من الجماعة قوة إنسانية لا مجرد جمع من الأرقام”. وعندها ستنفتح أمام هذا المثقف آفاق فسيحة كي يسعى إلى إنجاز المهمة، التي كان عبد الله العروي قد طرحها أمامه بعد إقراره بعجز البرجوازيات العربية عن إنجازها، ألا وهي مهمة اكتساب مبادىء وأفكار عصر التنوير الأوروبي والعمل الدؤوب والمبتكر لنشر هذه المبادىء والأفكار والتأسيس لها في الواقع العربي. وبسيره على خطى المفكر المغربي، الذي ترك تأثيراً ملموساً عليه، اعتبر سعد الله أن هذه المهمة ما زالت، في الواقع، تنتظر من يقوم بها، بل هي غدت ملحة ومصيرية بالنسبة للمستقبل العربي في ضوء التدهور الذي ألمّ بالعرب. وبما أن مفكري النهضة العربية كانوا سباقين إلى السعي من أجل إشاعة هذه المبادىء والأفكار، يصبح من واجب المثقف العربي اليوم أن يعمل على استعادة مشروع أولئك الرواد النهضويين وترهينه على قاعدة سيرورة فكرية قابلة للمراكمة.
فرفاعة رافع الطهطاوي كان، كما لحظ سعد الله، قد بلور مشروعاً للتمدن شمل السياسة والاجتماع والثقافة، ووضع تصوراً متكاملاً عن شروط تجاوز التخلف وتحديث المجتمع، فخلّف لنا “أكمل مشروع نهضوي قبل الحقبة الاستعمارية”. وقد نجح هذا الشيخ النهضوي المصري في وضع ذلك المشروع لأنه لم يشغل نفسه في تبرير التخلف، أو الاعتذار عنه، أو اصطناع مواجهة بين الأنا والآخر، بل انغمس في الممارسة، إدارة وترجمة وكتابة، وربط ربطاً جدلياً بين الوطنية والتمدن، معتبراً “أن إرادة التمدن تنشأ من حب الوطن، وحب الوطن إنما تغذيه الحقوق التي يوفرها التمدن ولا سيما الحق في الحرية والمساواة والعدل”. أما النهضوي التونسي خير الدين، فقد كان، في نظر سعد الله، أفضل من كشف عن خطر “النظرة التلفيقية” التي تفصل بين أوروبا العقل والعلم والصناعة وبين أوروبا البضائع والسلع، فترفض الأولى في الوقت الذي تتهافت فيه على الثانية، وكان من أوائل النهضويين الذين أدركوا أن اقتباس المؤسسات والنظم السياسية الحديثة لا يتعارض مع الهوية وإنما يتعارض مع مصالح النخب الحاكمة (“قضايا وشهادات”، نيقوسيا، العدد الثاني، صيف 1990). وفي مرحلة لاحقة، جاء طه حسين ليقدم لنا مشروعاً “تنويرياً جذرياً” لم يعرف تاريخنا المعاصر مثيلاً له، وكان من أبرز ملامحه، كما رأى سعد الله: نقل النظرة إلى التراث من الحيز اللاهوتي، الذي يقدس الماضي، إلى الحيز التاريخي الذي يرى الماضي صيرورة موضوعية ينبغي أن تخضع لمناهج التحليل والنقد، ومواجهة التزمت الديني ورفض مداخلة الدين للسياسة، والإيمان بوحدة الثقافة الإنسانية، التي لا تلغي الخصوصية بل تثريها وتوسع آفاقها، وإدراك العلاقة العضوية بين التنوير وبين الأرضية السياسية والاجتماعية، “إذ لا تقدم دون عقلانية، ولا عقلانية دون علم، ولا ازدهار للعلم دون حرية، ولا حرية دون علمانية، ولا علمانية دون تحديث الدولة وإشاعة الديمقراطية وإقامة المجتمع المدني القائم على فكرة الوطنية والتوزيع العادل للمنافع الاقتصادية والسياسية” (“قضايا وشهادات” ، العدد الأول، ربيع 1990).
غير أن المأساة كمنت، في نظر سعد الله، في أن القوى التقدمية العربية، في مرحلة ما بعد الاستقلال، لم تدرك أن المشروع التنويري الذي حمله أولئك الرواد ينبغي أن يكون مشروعها هي، وأن عليها تبنيه والعمل على تطويره، فكانت النتيجة انتكاسة مشروع التقدم “انتكاسة مفجعة”، واضطرار المثقفين العرب إلى “المراوحة التاريخية” أمام إشكاليات كان لديهم الزاد الضروري لتخطيها.
تلك كانت القناعة التي توصل إليها سعد الله ونوس وصار يعبر عنها في المساهمات الفكرية المتميزة التي قدمها لكتاب “قضايا وشهادات”، الذي أطلقه، بالتعاون مع الراحل عبد الرحمن منيف وفيصل دراج وجابر عصفور في ربيع العام 1990، ليكون، كما جاء في مقدمة العدد الأول منه التي كتبها هو نفسه، كتاباً دورياً “يتوخى الدفاع عن العقل، والمجتمع المدني، والفكر التاريخي والاستقلال والتقدم، ويحلم بإحياء محاولات التنوير العربي”. ومنذ ذلك الوقت، بات سعد الله مهموماً بالإشكاليات التي تصدى لها الرائد النهضوي ووقف المثقف المعاصر عاجزاً أمامها، فظلت، منذ ما يزيد عن القرن، تنتظر الحسم، ليس بسبب قصور المثقف العربي الذاتي عن المراكمة التاريخية فحسب، بل كذلك لأن الواقع العربي، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، قد أبقاها معلقة. ويمكن القول إن مقاربات ونوس، في كتاب “قضايا وشهادات”، لإشكاليات القديم والجديد، والحداثة والتحديث، والتراث والمعاصرة، والأنا والآخر، ومعالجاته لقضايا التبعية والحرية والثقافة الوطنية، أغنت عدّته الفكرية وعمقتها وجعلته يعكس هذه الإشكاليات والقضايا، بصورة أدبية جميلة، في أعماله المسرحية الأخيرة.
فإشكالية الحداثة والتحديث، على سبيل المثال، كانت حاضرة بقوة في عملين من هذه الأعمال وهما: “ملحمة السراب”، التي كتبها سنة 1995، و“الأيام المخمورة”، التي كتبها سنة 1997 ، قبل أشهر قليلة من رحيله المبكر.
ففي “ملحمة السراب”، يقف سعد الله موقفاً نقدياً حازماً، مما يمكن أن نسميه بـ “التحديث البرّاني” الذي اجتاح المجتمعات العربية فقضى على قيمها الأصيلة المتوارثة لكن من دون أن يُحل محلها قيم الحداثة الحقيقية، وهذا التحديث السطحي والتابع هو الذي حمله إلى الضيعة “عبود الغاوي”، الذي أراد، مستفيداً من سياسة الانفتاح الاقتصادي، أن يجعل من قيم السوق القيم الوحيدة السائدة، وأن يصنع من الفلوس والسلع والاستهلاك تقدماً وهمياً، أغوى سكان الضيعة كلهم باستثناء معلم المدرسة “بسام” الذي تساءل: “أهو تقدم وازدهار أن نبيع أراضينا، التي كانت تطعمنا، كي نشتري بثمنها طعاماً مستورداً وأجهزة تخطف العقل والطاقة؟ أو تقدم أن يتحوّل الفلاحون إلى خدم وماسحي أحذية؛ أو تقدم أن تنهار القيم وتتفكك الروابط بين الناس ونغدو جميعاً سلعاً في هذه السوق المتوحشة؟”، وباستثناء “الزرقاء” التي وقفت، أمام هذا التقدم الوهمي، تتحسر على أيام الماضي قائلة: “على أيامنا كانت الحياة أسهل، صحيح أننا كنا نشقى في الأرض على مدار الفصول الأربعة... ولكن الهموم كانت بسيطة والحاجات قليلة، ورغم الفقر والتعب كنا نشعر بالاطمئنان”.
أما في مسرحيته الأخيرة، “الأيام المخمورة”، التي تضمنت فصلين توقفا عند الإشكالية ذاتها، وهما فصل “التمدن والرقي” وفصل “المفاخرة بين الطربوش والقبعة”، فلم يكتف سعد الله بكشف طبيعة التحديث البراني، الذي لا يصنع، إذ يقتصر على تغيير الملابس التقليدية بالملابس الحديثة، تمدناً ولا رقياً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أبرز كيف أن العرب أضاعوا الكثير من وقتهم وجهدهم وهم يتماحكون حول ما إذا كان عليهم تملك مظاهر ذلك التحديث أم لا. ففي فصل “المفاخرة بين الطربوش والقبعة” يدير سعد الله الحوار المعبّر التالي بين “الأراجوز” و“الصبية”: "الأراجوز: وتفرّج يا سلام على الأمة ذات الهمة، أرادت أن تستعجل النهضة وأن تحقق التقدم في قفزة، فأنفقت عقداً من الزمان في السجال بين الطربوش والقبعة؛ الطربوش رمز الدين. الصبية: والقبعة رمز التمدين. الأراجوز: أتمسك بالطربوش لأنه التعبير الوافي عن ديني وقوميتي. الصبية: لم تذكر الكتب أن الرسول وصحابته لبسوه أو أوصوا به. الأراجوز: ولكن آباءنا وأجدادنا وأجيالاً من السلف الصالح لبسوه فصار ميزة وهوية. الصبية: ما الطربوش إلاّ لباس تركي يقمع الرأس قمعاً، وفي الصيف يحجب التفكير تحت ضباب من البَخر واللهب. الأراجوز: ما القبعة على رأس الشرقي إلاّ فكرة هزمت فكرة، ورذيلة قالت للفضيلة: أنا جئت فاذهبي... الطربوش هو الأصل. الصبية: والقبعة هي العقل".
وعلى الرغم من أن الموقف، الذي عبّرت عنه هاتان المسرحيتان من إشكالية التحديث، قد يوحي بسيطرة نوع من الحنين إلى الماضي التقليدي على مشاعر كاتبهما، فإن العودة إلى كتابات سعد الله الفكرية تظهر لنا بجلاء أن المبدع الراحل، ظل، طوال حياته القصيرة، بعيداً كل البعد عن الماضوية، متطلعاً إلى المستقبل وحده، مدركاً، كأسلافه من النهضويين العرب –كما أشار إلى ذلك بوضوح في دراسته عن الحداثة والتحديث المنشورة في العدد الثاني من كتاب “قضايا وشهادات” – حقيقة أن التحديث هو “عملية شاملة ومترابطة تبدأ من اللغة وتنتهي بالفرد ومغزاه الإنساني” وأنه “عملية معقدة لا يمكن إنجازها لا بالتحايل ولا بالوهم” وأن “القبعة رغم مزاياها لم تعصرّن الرأس التي ترتديها ولم تحدّث الحياة” في المجتمعات العربية، ذلك لأن التحديث الذي شهدته هذه المجتمعات لم يكن شاملاً “يشمل كل بنى المجتمع، من التعليم والحقوق المدنية وحتى التصنيع”، بل بقي مظهرياً مزّق أنسجة المجتمع ورصّعها بالأنماط والمظاهر الحداثية: البنايات والسيارات والفيديوهات“، فكان بذلك وسيلة” لإنجاز التبعية الكاملة للغرب".
وفي الواقع، وخلافاً لعدد كبير من المثقفين العرب الذي وقعوا في السنوات الأخيرة أسرى إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة، اعتبر سعد الله أن تاريخنا هو بالضبط تراثنا، وأن هذا التاريخ لم يُكتب بعد، وكتابته تقتضي منهجاً علمياً نقدياً، ينحّي سطوة المقدس ودواعي الأيديولوجيا التعبوية، ويلقي الأضواء على ما يتضمنه هذا التاريخ “من لحظات مضيئة وأخرى مظلمة، هي، في النهاية، تراثنا وعلامات وجودنا في الزمن”. وفي مسرحيته المتميزة “منمنمات تاريخية”، التي أرادها – كما ذكر في حواره مع ماهر الشريف الذي نُشر في مجلة “النهج” صيف العام 1995 – تأملاً فردياً في التاريخ “يطمح إلى التحوّل، عبر المشاهدة والحوار، إلى تأمل جماعي في التاريخ”، حاول سعد الله أن يطبّق ذلك المنهج في تعامله مع فصل من فصول تاريخنا العربي، فأبرز لنا وجهاً آخر، لم نكن نعرفه، في شخصية ابن خلدون، مبيناً، من جهة، تهافت “المثقف التقني” أو الاحترافي الذي يُسخّر علمه “في خدمة أهواء الأمير أو السلطان” ويجعل منه “حقلاً مغلقاً مقطع الروابط بالمجتمع والقيم”، ومثبتاً، من جهة أخرى، أن النظام الخلدوني المغلق “أدوار الدول” يقصي الأمل، ودائريته تحبط الفعل الإنساني الحر. وفي تعامله النقدي ذاك مع التراث، كان سعد الله وفياً لمعلمه طه حسين، الذي نقل في كتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر سنة 1926، النظرة إلى التراث من الحيّز المقدس إلى الحيز التاريخي. وكان من الطبيعي أن تشغل قضية الحرية، بصفتها المدخل إلى كل نهضة وتحديث، مكانة بارزة في أعمال سعد الله ونوس المسرحية الأخيرة. والواقع، أن هذه القضية كانت دائمة الحضور في كل أعماله، إلاّ إن نظرته إليها وطريقة تعامله معها تعمقتا كثيراً في مسرحيات التسعينيات. فالحرية لم تعد حرية الجماعة فحسب، بل باتت، في الأساس، حرية الذات الفردية “التي تعصف بها الأهواء والنوازع وترهقها الخيارات”، الذات الفردية الواقعة في قبضة سلطات متنوعة، تشمل إلى جانب السلطة السياسية، سلطة المجتمع وسلطة المؤسسة الدينية وسلطة الرجل. ونظراً إلى أن المرأة هي الأكثر معاناة من قمع كل هذه السلطات في مجتمعاتنا الذكورية، فقد أعار لها سعد الله اهتماماً خاصاً وماثل بينها وبين الحرية، عاكساً، لا سيما في مسرحيتيه “طقوس الإشارات والتحولات” و“الأيام المخمورة”، طموحها – ممثلة بـ “مؤمنة” التي تحوّلت “ألماسة” في الأولى، وبـ “سناء” زوجة “عبد القادر الطحاوي”في الثانية – طموحها إلى التحرر والانعتاق من كل القيود الاجتماعية التي تكبلها.
وبعد، فقد عاش سعد الله ونوس حياة قصيرة لكنها حافلة بالإبداع الثقافي، لم يكن فيها بعيداً، بتشاؤمه أحياناً وتفاؤله غالباً والتزامه دوماً، عن صورة الفنان والمثقف الملتزم التي رسمها في أعماله المسرحية: عن صورة “داريو”، في “ميدوزا تحدق في الحياة”، الذي تخوّف من أن يؤدي التطور العلمي، المنفلت العقال، إلى “توحيد السلطة وتكثيفها في بؤرة واحدة كلية القوة” تقضي على الجمال الإنساني، ففتح كمانه كي يعزف، لكنه بعد أن وضعه على خده أسقط يده في يأس وهو يتساءل: “ولمن سأدع اللحن؟ لأجيال الكيمياء؟”، وذلك قبل أن يحطم الكمان وهو يصرخ: “لا جدوى، أزفت الساعة. لا جدوى، أزفت الساعة” فـ “الأرقام ستخرّب الجمال، وتعدم الجميع”؛ وعن صورة “عبد العليم”، في “عندما يلعب الرجال”، الذي رأى أن “جديد الأشياء”، يظل أفضل من قديمها غالباً، وأن التغيّرات “طبيعية”، وأنه “رغم كل التعقيد الظاهر في الحياة من الممكن في وقتنا الحاضر، أكثر من أي وقت مضى، معالجة فوضى الأشياء”؛ وعن صورة “اسماعيل الصفدي”، في “الاغتصاب” المهداة إلى ناجي العلي ومهدي عامل وفواز الساجر، “اسماعيل” المعلم المتواضع الأصل والمال، الذي خاطب جلاده قائلاً: “إن بعض الفلسطينيين يشحذون خيالهم كي يتصوروا دولة كريمة تتسع لي ولك. دولة حقوقنا فيها متساوية، وحرياتنا مكفولة. ويحلمون بأنك ذات يوم ستهدم هذا المخفر الحضاري وستقبل بالحقوق التي توفرها المواطنية لا القوة”؛ أو أخيراً عن صورة معلم القرية “بسام الراضي”، في “ملحمة السراب”، الذي قدّر أنه “لو توفر الوعي والإرادة لكان في الإمكان إيجاد الطريق الصحيح الذي يخلّص من الفقر ويوفر التقدم والكرامة”.
ومع أن سعد الله ونوس كان شاهداً في سنواته الأخيرة، كما اعترف هو نفسه في دراسته عن “الثقافة الوطنية والوعي التاريخي” المنشورة في الكتاب الرابع من “قضايا وشهادات” (خريف 1991)، على بروز الشك في فكرة التقدم، وعلى تهمّش دور المثقف، على الصعيدين الكوني والعربي، وتآكل إمكانياته، إلاّ إنه لم يتخلّ عن قناعته بأن فكرة الصيرورة “تظل، مع ذلك، المضمون الجوهري لكل وعي تاريخي” وأن التاريخ “لن ينتهي، وعلينا أن نخوض غماره وأن نعي حركته واتجاهه”، كما بقي مصراً على أن يحمل المثقف النقدي، كسيزيف، الصخرة وأن يتسلق الجبل، قابلاً بهامشيته، رافضاً فكرة موته، مواصلاً عمله، دون أن “تساوره الأوهام حول دوره”، ولكن دون أن يترك، في المقابل، “الهزيمة تتسلسل وتهزم وعيه”.