على غلاف “مغامرات جغرافي” طبعت خارطة “الإدريسي” الذي عاش بمدينة فاس، مسقط رأس إيف لاكوست. وصمم الإدريسي، وهو جغرافي من القرن الثاني عشر، خريطته بحيث أظهر الشمال في الأسفل والجنوب في الأعلى. غير أن الخريطة الأصلية تم قلبها هنا حتى تتوافق مع قواعد رسم الخرائط الغربية. وبالتالي ظهرت الأسماء العربية مقلوبة. كما أضيف لها اسمان باللغة الفرنسية، هيرودوت وابن خلدون. وهكذا قام المصمم بتلخيص جيد لجغرافية إيف لاكوست؛ فبعيدا عن استخدامها في شن حرب، فقد استعملت لتحويل موضوع الدراسة بما يتوافق مع نظرة محددة مسبقا.
وإيف لاكوست الذي ولد سنة 1929 هو أحد الجغرافيين القلائل الذين ذاع صيتهم. فقد أسس رائد الجيوسياسية الفرنسية هذا مجلة “هيرودوت” ونشر عند دار ماسبيرو سنة 1976 كتاب “الجغرافية تستعمل أولا لشن الحروب”. هذا الكتاب الجذاب الذي يشكل أول تحليل نقدي للوظيفة الإيديولوجية للجغرافيا، كان يُلوّح في الأفق بالانتهاء من جغرافية المعلمين “وهي مادة مزعجة ولكنها في النهاية جذابة”.
تراجع إلى النزعة المحافظة
اثنتان وأربعون سنة تفصل بين كتابي “الجغرافيا تستعمل أولا لشن الحروب” و “مغامرات جغرافي” مؤكدة المنعطف المحافظ الذي سلكه إيف لاكوست التائه بين هاجسين توأمين وهما الهوية الوطنية والبارانويا الإسلامية. وبدا هذا التحول ملحوظا ابتداء من 1997 مع نشر كتاب عن دار فايار بعنوان “تحيا الأمة (فيف لا ناسيون)، مصير فكرة جيوسياسية”. وظهر أكثر في كتاب “جيوسياسية الأمة الفرنسية”1 الذي ألفه بالاشتراك مع فريديريك أنسال. وقد كتب فيه لاكوست:
بدلا من البدء في الحديث عن العمليات الإسلامية الرهيبة في كانون الثاني/يناير 2015 ثم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 والتي ارتكبها على الخصوص بباريس شباب ولدوا بفرنسا أو بلجيكا من عائلات مغربية أو جزائرية، أرى أن من المجدي أكثر التذكير أولا ببروز مظاهر ذات دلالة عن رغبة في معارضة تقاليد فرنسية في سبعينيات القرن الماضي (...).
من خلال ربطه بين اليسار الراديكالي والهجرة والإسلاموية والإرهاب كان يضفي لاكوست تزكية فكرية على أحاديث البارات. وهو يتبع بذلك نزعة محافظة في الجغرافية الفرنسية لـ “بول كلافال”2 الذي كان يعبر عن قلقه من “الوافدين الجدد” الذين “يتوافدون للعثور على عمل أو للاستفادة من نظام المساعدة الاجتماعية والطبية” وفق “كريستوف غويي”.
سرد مفعم بالتلميحات
هناك سرد مليء بالتلميحات، فضلا عن النوادر المشبوهة المذكورة في “مغامرات جغرافي” ـ لقد كان لاكوست فخورا جدا وهو يذكر جده يؤدي رقصة بطن شرقية سائلا “إن كانت هناك”دي موخير" (نساء) في المغرب ـ من شأنها إثارة الاستغراب من أساليب السرد المنتهجة. فهناك في النص تلميحات ضمنية تسمح له بنسج أحاكي دون الاكتراث بتقديم دلائل مادية. وبخصوص المغرب، فهو يموّه بطريقة سيئة كراهيته تجاه عبد الكريم الخطابي والانتفاضة التي قام بها في الريف بين 1921 و 1926 ضد القوات الإسبانية والفرنسية. يشير الكاتب إلى “(...) مقاتلي عبد الكريم الذين تم تسليحهم من طرف منظمات”خيرية“انطلاقا من جبل طارق”، وهو يقوم هكذا بتحديث للهاجس الفرنسي الذي يرى“اليد الأجنبية”وراء الحروب المعادية للاستعمار، أي يد بريطانيا العظمى المتمركزة على الصخرة.
يبالغ لاكوست في التلميحات المبهمة التي تظهره في مقام الرجل الذي يعلم. وفي مقال جميل أعربت “سيمون وايل” عن تبرمها من هذه الهالات الغرائبية التي تلمح “آه لو كنتم تعلمون ما أعلم!”، وخلصت إلى “نحن نعرف هذه النغمات، سذج أولئك الذين تنطلي عليهم!”.3 كما يربط لاكوست أيضا بين التمرد الريفي والفرانكوية:
تحصل فرانكو آنذاك، وهي مفارقة أسميها اليوم جيوسياسية، على مشاركة فعالة من عدد كبير من المحاربين الريفيين الذين سبق وأن حاربهم، هؤلاء “الموروس” الشرسين وعلى الخصوص آيت أورياغل من قبيلة عبد الكريم.
لاكوست الذي لا يفرق بين الأفراد والجماعات، يندرج في تقليد، للأسف سائد في اليسار الفرنسي، يعمل على تشويه الحركات العربية والمغاربية عبر التلميح إلى تواطئها مع الفاشية. فقد اتهمت الجبهة الشعبية في فرنسا(1936)، حزب “نجم شمال إفريقيا” لمصالي الحاج بالتواطؤ مع الفرانكويين الإسبان والفاشيين الإيطاليين، أما محتجو سطيف (شرق الجزائر) في 8 مايو/أيار 1945، فتم تصنيفهم كعملاء هتلريين في أعمدة جريدة “لومانيتي”، كما قارن “غي مولي” جمال عبد الناصر بهتلر. ويتسرع لاكوست في الأخير:
(...)هناك مشكل بطالة حقيقية في الأندلس حيث أثار الغزو العربي ـ في الواقع بربري ـ والروكونكيستا (حروب الاسترداد) ماتزال حاضرة بعد(...).
هكذا يقوم لاكوست بوصف آفات إسبانيا المعاصرة، من الفرانكوية إلى الاتجار بالمخدرات مرورا بالإرهاب الإسلاموي، جاعلا المغاربيين مسؤولين عنها.
تلاعب مع التاريخ
أقام لاكوست في مدينة الجزائر بين 1952 و 1955 حيث درس في ثانوية بوجو. وقد طرد، حسب قوله، من هذه المؤسسة لأنه كان قد كتب مقالا عن ابن خلدون. وقد شاهد من فرنسا عودة ديغول إلى الحكم:
هناك أدركنا بأن ديغول قد قال فقط لسكان مدينة الجزائر: “لقد فهمتكم!” دون أن يكمل مثل النشطاء المحرضين بعبارة “تحيا الجزائر الفرنسية!”
في الواقع لم يصرخ ديغول بعبارة “تحيا الجزائر الفرنسية” أمام سكان مدينة الجزائر في 4 حزيران/يونيو 1958 ولكنه صرخ بها واضحة ـ مثل المحرضين ـ في مدينة مستغانم في يوم 6 يونيو/حزيران نفسه. وفي استحضاره رحلة إلى كوبا سنة 1967 يقدم لاكوست قراءة غريبة عن نظام الديكتاتور باتيستا الذي طرد من الحكم سنة 1959: “كان ينظر إلى باتيستا بعين السوء من طرف أرباب الأعمال الكوبيين والملاك الكبار الأمريكيين ورجال أعمال جاؤوا من الولايات المتحدة لأنه كان يكافح ضد المافيا”. فباتيستا “حارب” المافيا إلى درجة أن هذا الحامي لمصالح “ميار لانسكي ولوكي لوتشيانو” كان المستفيد الرئيسي منها! وبصفة قطعية يجعل لاكوست من التدخل السوفييتي في أفغانستان عملية ضد “الشياطين” الطالبان ابتداء من 1979 ويؤكد: “(...) في أيامنا هذه يزداد الإسلامويون قوة في حين أن هؤلاء يكرهون ابن خلدون(...)”، ويقوم بتصحيح ترجمة لهذا الأخير دون أن يعرف العربية.
بطاقة عمل جزائرية
يسرد لنا لاكوست لقاءه مع طبيب فرنسي من “واغادوغو” “وهو مستعمر قديم كان قد يتصور أنني أحد الذين سمع عنهم من المستميتين في مناهضة الاستعمار، قررت آنذاك أن أخبره بأنني ولدت في المغرب وقضيت طفولتي هناك وأن والدي كان يعمل جيولوجيا هناك”، وقد “ارتاح” إلى ذلك محدثه. واستعمال بطاقة عمل استعمارية تترك انطباعا مقززا كتلك التي تحدثها الإشارة إلى القطيعة مع متعاون في فريق مجلة “هيرودوت” الجغرافي ميشال كورينمان:
(...)تدريجيا ابتعد كورينمان من اجتماعات هيرودوت، كان ذا شخصية معقدة، فهو من أصل يهودي، وإن لم يذكر ذلك أبدا، والمفارقة أنه كان مؤيدا كبيرا للفلسطينيين ومن ذلك تظهر مواقف متناقضة جدا.
لا يوجد أي تناقض في أن تكون يهوديا ومؤيدا للفلسطينيين ولكن لاكوست الذي اعتاد استعمال الكليشيهات يرى “مفارقة” في هذا. وتمنح له الجزائر فرصة لتقديم دروس جيوسياسية غامضة: “عند وصوله إلى السلطة فرض بوضياف التخلي عن الحزب الواحد، وتشكلت أحزاب عديدة إذن بما في ذلك الجبهة الإسلامية للإنقاذ”. وهنا يظهر التسلسل في الأخبار خاطئا، فعندما وصل محمد بوضياف إلى السلطة في كانون الثاني/يناير 1992 كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد تشكلت بصفة قانونية منذ 1989 وشاركت في الانتخابات المحلية في 1990 وفي الانتخابات التشريعية في 1991. وقد تم حلها في مارس 1992 واغتيل بوضياف في شهر حزيران/يونيو من نفس السنة. ويواصل لاكوست الخلط في التسلسل الزمني:
للأسف، بعد أشهر من ذلك، في 29 حزيران/يونيو 1992، تم اغتيال الرئيس بوضياف علنا على يد أحد حراسه الذي حوكم بعد ذلك بسنوات. وتم إلغاء الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التي فازت في دورها الأول الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وهكذا انتشرت الحرب الأهلية بصفة رهيبة وبدون مخرج حتى سنة 2000.
في الواقع كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فازت في الدور الأول من الانتخابات التشريعية في يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1991، وقد تم توقيف المسار الانتخابي، أي الدور الثاني، في يوم 11 يناير/كانون الثاني 1992 قبل وصول بوضياف إلى السلطة، في يوم 16 يناير/كانون الثاني 1992 وليس بعد وفاته. ليس هناك ما يفرح في وصف تقلبات وترهات أحد الوجوه الأكثر شهرة في مجال الجغرافيا الفرنسية، وليست هناك أية متعة في مشاهدة الطرق المسدودة التي يؤدي إليها اضطرابه الجيوسياسي الفاضح.