فيلم “السفراء” للمخرج الناصر القطاري هو بلا شك أول انتاج سينمائي تونسي يطرح موضوع الهجرة كموضوع مركزي. هذا الشريط الطويل الذي أنتج وعرض سنة 1975 صور حياة وأوضاع المهاجرين التونسيين- والمغاربة عموما- الذين توافدوا على فرنسا أفواجا منذ أواسط سنوات 1960. خلال تلك الفترة كانت الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله خيارا سياسيا واقتصاديا تدعمه ضفتا المتوسط. في بداية الفيلم نجد مشهدا يصور كيف “يؤطر” مسئولون رسميون عمالا يستعدون للهجرة إلى فرنسا في إطار اتفاقية بين البلدين، مقدمين لهم نصائح ومعتبرين إياهم “سفراء” تونس في بلدان المهجر.
سرعان ما سيكتشف هؤلاء “السفراء”، بعد وصولهم إلى “سفاراتهم”، ان الواقع ليس ورديا كأحلامهم أو كالصورة التي رسمها لهم المسئولون. أبطال الفيلم وهم من ذوي المستوى التعليمي المتدني يكلفون بأعمال شاقة مقابل أجر ضعيف ويتعرضون لممارسات عنصرية تصل إلى حدود القتل. كل هذا دون أن يتمتعوا بحماية من أي جهة رسمية أو غيرها. كما استطاع “السفراء” أن يلتقط ويؤرخ لبداية تشكل وعي المهاجرين المغاربة بوضعهم وبضرورة التضامن فيما بينهم والتحرك من أجل الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم وحتى وجودهم. قطع شريط “السفراء” مع الخطاب الرسمي حول الهجرة، التي كان يسوقها كحل سحري، وكذلك مع صورة المهاجر المحظوظ والثري كما ترسخت في المخيال الشعبي.
سنة 1978 صدر شريط ثان يعالج نفس المسألة تقريبا ولكن بطريقة أقل حدة وبأسلوب هزلي نوعا ما: “السبت فات” للمخرج لطفي الصيد. تناول لطفي الصيد -بخفة وطرافة- مسألة الاختلاف الثقافي بين الوافد والمحلي وما ينجر عن ذلك من سوء فهم ومشاكل. أما شريط “ظل الأرض” للطيب الوحيشي (1982) فلقد كان النفس السوسيولوجي فيه قويا وجليا، من خلال تصوير الحياة اليومية لعائلة تعيش في منطقة فقيرة ومهمشة يضطر أبنائها إلى الرحيل نحو المدن التونسية الكبرى أو نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
في الثمانينات أيضا سنجد مخرجين يتناولون موضوع الهجرة بعيدا عن المحرك الاقتصادي ومن منظورات مختلف، محاولين تصوير شخصيات غير نمطية لمهاجرين تونسيين تختلف خلفياتهم ومساراتهم وغاياتهم. فمثلا اختارت المخرجة ناجية بن مبروك من خلال شريطها الروائي “السامة” (1983) أن تتحدث عن قصة امرأة اختارت طريق الهجرة ليس هربا من البطالة أو الفقر ولكن حتى تتمكن من التحرر من قيود المجتمع المحافظ الذي يخنقها.
“غدوة نحرق”
بعد “الثلاثين المجيدة” (1945-1975)، بدأت أوروبا الغربية تعيش انحسارا اقتصاديا وتراجعت حاجتها إلى اليد العاملة الأجنبية مما جعلها تتبع سياسات هجرية متشددة وانتقائية. منذ أواسط الثمانينات، بدأت أغلب دول المغرب العربي تعيش أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة تفاقمت في التسعينات مع تكدس طالبي العمل حتى من حاملي الشهادات العليا. وتزامن ذلك مع فرض أوروبا التأشيرة على المغاربة الراغبين في الوصول إليها، ما سيخلق ظاهرة الهجرة غير النظامية أو “الحرقة” كما تسمى في الدول المغاربية.
هذه التغيرات في مسارات الهجرة سنجد لها صدى في الأفلام التونسية. شريط “بزناس” (1992) للمخرج نوري بوزيد تطرق إلى موضوع مسكوت عنه في المجتمع التونسي وهو “دعارة الذكور” التي تمارسها فئة من الشباب يرتبطون بسائحات متقدمات في السن مقابل المال أو على أمل الحصول على تأشيرة وأوراق إقامة في بلد أوروبي.
يزداد المشهد قتامة مع فيلم “غدوة نحرق” (1998) للمخرج محمد بن اسماعيل، فبدلا عن صورة المهاجر الذي يعود إلى بلده في عطلة الصيف مرفوقا بزوجة أجنبية جميلة وممتطيا سيارة فارهة، نجد ان بطل الفيلم “لطفي” الذي هاجر إلى فرنسا منذ عشرين عاما يعود مريضا ومنهكا إلى تونس بعد ان فشل في تحقيق أحلامه. كما يخفق “لطفي” في تقبل وضعه الجديد ويقرر الهجرة مجددا، لكن هذه المرة أصبحت الأمور أكثر تعقيدا ما يجبره على المخاطرة بحياته وعبور البحر بطريقة غير قانونية. أما المخرج علي العبيدي فلقد اختار في 2007 عنوان “اللمبارة” (أي سفن الصيد الصغيرة بلغة البحارة التونسيين، كناية عن المصباح الذي تستعمله في عملية الصيد) لشريطه الذي يسلط الضوء على الأسباب الذي تدفع مجموعة من التونسيين (رجالا ونساء) إلى الهجرة غير النظامية عبر ركوب “قوارب الموت” التي تنطلق سرا في الليل من السواحل التونسية نحو السواحل الإيطالية.
بعض المخرجين اختاروا أن يعالجوا مسألة الهجرة من منظور العائدين لتونس بعد سنوات من الغربة. مثلا ركزت المخرجة كلثوم برناز من خلال شريطها “الكسوة” (1998) على معاناة البطلة “نزهة” والصعوبات التي تجدها للتأقلم من جديد مع بيئتها الأصلية-العائلة والتقاليد المجتمعية- بعد سنوات من “التحرر” قضتها في المهجر. أما المخرج حمادي غربال فلقد ركز شريط “سفرة يا محلاها” (2009) على قصة شيخ تونسي يعود إلى وطنه بعد أن قضى معظم حياته في ملجأ مخصص للعمال المهاجرين الفقراء في ضاحية باريسية. وربما هذا هو الفيلم التونسي الوحيد الذي تفطن لهذه الفئة من المهاجرين التي تشمل عشرات آلاف التونسيين الذين تركوا البلاد وهم في زهرة العمر ليعودوا إليها بعد التقاعد مرهقين وأحيانا وحيدين.
ما بعد الثورة: “جسد غريب”
التغيير السياسي التاريخي الذي عرفته تونس في يناير 2011 مثل انطلاقة جديدة للسينما التونسية فبالإضافة إلى كثافة المادة التي يمكن تصويرها، فقد انفتحت أفق جديدة أمام المخرجين. لكن النشوة لم تدم طويلا، ففي الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2011، ركب أكثر من 30 ألف تونسي “قوارب الموت” نحو السواحل الإيطالية، وتبعتهم موجات من الهجرة غير النظامية في السنوات التي تلت. تطور الأوضاع في تونس والمنطقة العربية عموما أنتج “هجرات” جديدة، من بينها المهاجرون إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
مثلا، صوّر رضا الباهي في شريطه “زهرة حلب” (2016) رحلة أم تبحث عن ابنها الذي ذهب للقتال في سوريا. أما فيلم “خسوف” (2016) للمخرج فاضل الجزيري فقد تطرق، من خلال حبكة بوليسية، إلى موضوع شبكات تسفير “الجهاديين” التونسيين إلى سوريا. واختارت المخرجة رجاء العماري أن تمزج في شريطها “جسد غريب” (لنفس السنة) أن تطرق لعدة مواضيع في إنتاج واحد: هجرة غير نظامية، الغربة، إقامة غير قانونية، إرهاب، ذكورية، إلخ.
في السنوات الأخيرة، لم تعد تونس فقط دولة “مصدرة” للمهاجرين، بل تحولت أيضا إلى دولة عبور، كما يظهر ذلك في شريط “آخر واحد فينا” (2016) للمخرج الشاب علاء الدين سليم، وهو باكورة أعماله السينمائية الطويلة. شخصية الفيلم الرئيسية مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء يسعى للوصول إلى سواحل أوروبا مرورا بتونس. زادت المعالجة الفنية التي اختارها المخرج -كانعدام الحوارات- من فرادة الفيلم، فهو لم يسع إلى توثيق أو تحليل ظاهرة بل صور إنسانا لا يعترف بالحدود ويريد أن يتنقل عبر العالم بكل حرية.
وفي حين يركز أغلب المخرجين التونسيين على البطل المهاجر، اختارت المخرجة سارة العبيدي أن توجه الكاميرا والحكاية نحو “أبطال” آخرين معنيين بمسألة الهجرة بدرجة أولى، وهم آباء وأمهات المهاجرين غير النظاميين. إذ سلطت في شريطها الروائي الأول “بنزين” (2018) الضوء على “سالم” و“حليمة” اللذان اختار ابنهما الهجرة غير النظامية للهروب من قريته الفقيرة والمنسية التي تعيش من تهريب البنزين.
ولعل أكثر الأفلام التونسية “طرافة” في معالجة مسألة الهجرة هو شريط “شرش” (2018) للمخرج وليد مطار. عنوان الفيلم هو التسمية العامية التي يطلقها البحارة التونسيون على الريح التي تأتي من شمال المتوسط وتسبب لهم صعوبات في تحصيل قوتهم. يصور الفيلم الحياة اليومية لبطلين أحدهما فرنسي “هيرفي” والآخر تونسي “فؤاد”. الأول يعمل في مصنع أحذية فرنسي يقرر مالكوه تسريح العمال ونقل الأنشطة إلى إحدى ضواحي العاصمة تونس بحثا عن أيادي عاملة أقل تكلفة، والثاني شاب تونسي فقير يتم انتدابه للعمل في المقر الجديد للمصنع ليقوم بنفس العمل الذي كان يقوم به “هيرفي” لكن بأجر زهيد، فيصبح مهووسا بفكرة “الحرقة” إلى فرنسا. استطاع المخرج بذكاء وحس إنساني مرهف أن يخلق تقاطعا بين قصتين تبدوان متوازيتين، بين ضفتي البحر المتوسط.
جوائز في المهرجانات
أهمية الهجرة بالنسبة للمجتمع التونسي يفسر حجم حضور هذا الموضوع في السينما، فالإحصائيات الرسمية لوزارة الخارجية التونسية لسنة 2018 تقول ان قرابة المليون ونصف مليون تونسي يقيمون خارج البلاد، أغلبهم في بلدان أوروبية، أي حوالي 13% من مجموع السكان.
العامل الثاني عملي، فالهجرة موضوع “جذاب”! فهو يجلب المتفرجين إلى قاعات السينما، لا سيما شعوب الضفة الشمالية للبحر المتوسط، وهي سوق أهم. تحضر الهجرة بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام والخطاب السياسي وفي العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والقارة الأفريقية، ما يزيد من حظوظ رواج الأفلام ونيل جوائز محلية ودولية.
منذ سنة 1976، تحصل فيلم “السفراء” على “التانيت” الذهبي لأيام قرطاج السينمائية والجائزة الخاصة للجنة تحكيم مهرجان لوكارنو، بينما فاز فيلم “ظل الأرض” (الطيب لوحيشي، 1982) على عدة جوائز في مهرجانات كان“وواغادوغو وموسكو وتاورمينا. كما حصد فيلم”آخر واحد فينا“(علاء الدين سليم، 2016) على عدد كبير من الجوائز في مهرجانات”قرطاج“و”موسترا“وغيرها، وكذلك فعل فيلم”شرش" الحائز على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية وجائزة الحريات في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية وتكريمات أخرى.
لا يمكن الحديث عن الجوائز دون الحديث عن التمويل. فالسينما التونسية تعتمد بشكل كبير على الدعم المالي المقدم من جهات أوروبية رسمية وغير رسمية، وقد يكون من الأسهل الحصول على تمويل أجنبي عندما تقترح مشروع فيلم يعالج مسألة تمس وتهم الجهات المانحة. هذا لا يعني أن المخرجين “انتهازيون”، لكن غياب صناعة سينما أو سوق كبيرة في تونس يجعل مسائل الرواج والتمويل مهمة جدا.
أوروبا، القلعة الحصينة
هذا البعد لا ينقص من التزام هؤلاء المخرجين. فالهجرة ليست مجرد أرقام (أكثر من 30 ألف مهاجر غرقوا في البحر الأبيض المتوسط منذ سنة 2000)، بل هي وقبل كل شيء مسألة سياسية واقتصادية واجتماعية. أغلب الأفلام التونسية التي عالجت هذا الموضوع انتقدت -بشكل مقصود أم لا- النظام السياسي الذي فشل اقتصاديا وتنمويا وعجز عن توفير مقومات الحياة الكريمة لأجيال من الشباب التونسي. ولا يقتصر هذا النقد على دولة الانطلاق بل يشمل أيضا دول الوصول، من عنصرية وتهميش الستينات والسبعينات وصولا إلى “أوروبا القلعة الحصينة” وسياساتها الهجرية المتشددة.
يمكن أن نضيف عاملا رابعا يفسر الحظ الوفير لموضوع الهجرة في الإنتاج السينمائي التونسي وهو التجربة الشخصية. فالأغلبية الساحقة من السينمائيين التونسيين تلقت تكوينها الأكاديمي وتدربت في الدول الأوروبية (فرنسا، ايطاليا، بلجيكا)، وجزء كبير منهم عاش فيها لسنوات طويلة واستقر هناك حتى. أي بعبارة أخرى، الكثير من المخرجين التونسيين هم بحد ذاتهم مهاجرون أو عاشوا تجربة الهجرة ويعرفون جيدا ماذا تعني، وسمعوا وعايشوا حكايات مهاجرين آخرين.
موضوع الهجرة حاضر بقوة في السينما التونسية منذ أكثر من أربعة عقود ويبدو انه سيظل كذلك في السنوات القادمة فأعداد المهاجرين-النظاميين منهم كما “الحراقة”- في ارتفاع مستمر. كما اهتم عدة مخرجين أوروبيين بهذه المسائل وعالجوها من زوايا نظر مختلفة. وقد يساعد إنتاج ضفتي المتوسط فيما يخص قضايا الهجرة في فهم كيف ينظر “الآخر” للـ“آخر”.