يأخذنا الكاتب من خلال شخصية رحّال العْوينة التي تحتل مساحة مركزية في الرواية، في رحلة لتفكيك أعطاب المجتمع المغربي وعِلل سياسات البلاد. على مدار الرواية، يُسرب الكاتب تدريجياً خيوط شخصية رحّال: الخجول والجبان الذي “يتحاشى الأضواء” و“لم يكن يفتك بخصومه وغرمائه إلا في الحلم”، الشاب المؤمن بسوء طالعه الوراثي، العذري الذي ظلّ “يربط” العلاقات من طرفٍ واحد، الرّجل الذي “تحاصره السيناريوهات السوداء” والمرعوب من القمع والموت.
لكل واحدة من نقاط الضعف هذه جوانب قوة يكتشفها رحّال، ومعه القارئ: فمعاناته في ربط العلاقات على سبيل المثال، جعلته يطور قدرات خارقة في البحث في تفاصيل الأشخاص، وهو ما يجعله أقرب ما يكون إلى مخبر، إذ كان “يجد نفسه غارقا في تقارير دقيقة شاملة يتطوع لإعدادها عنهم لصالح صداقته الغامضة معهم. لكن الصداقة لا تعني الحب دائما”.
فجأة يجد رحال نفسه ـ وهو الذي ألِف تحاشي الأضواء والتحرك من وراء الستار ـ في خضم ما كان يهرب منه: البوليس والسياسة. ليجد نفسه “مجبراً” على الاشتغال في حملة انتخابية لحزب الملك والتعاون مع المخابرات ضمن جيشها الإلكتروني.
“حرية التشهير” بدل حرية التعبير
تفتح “هوت ماروك” بجرأة، بروز وسائل إعلامية إلكترونية تابعة للسلطة، متخصصة في التشهير والقتل الرمزي للمعارضين. تناسلت هذه المنابر الإعلامية بشكل ملحوظ في المغرب ـ على غرار ما يوجد في بلدان أخرى من المنطقة عقب رياح ما يسمى بـ“الربيع العربي”- ليس “هوت ماروك” سوى أحد هذه المواقع الإلكترونية التي تتوفر على “جيش من الجزّارين بسكاكين إلكترونية جاهزة على الدوام”، للتصدي لهؤلاء “اليساريين العدميين” و“الإسلاميين الحالمين بالخلافة” وباقي “أعداء الوطن” من المعارضين الصحافيين الذين “يسيئون استغلال مناخ حرية التعبير الذي ينعم به البلد”، والعمل من أجل تفادي “انحراف” النقاش العمومي على الإنترنت. جرائد تحظى بدعم كبير وحماية من المتابعات القضائية ولا تحترم حتى حق الرّد، أو “الحق في الأنين” وفق تعبير أحد شخصيات الرواية.
اكتشف رحّال بشكل متأخر القدرة التدميرية للإشاعة. فبعدما كانت شبه حاجة فيزيولوجية خلال أيام الطفولة المدرسية (الخربشة على جدران مراحيض المدرسة كانت تساعده على تجاوز عسر التبرز الذي يعاني منه والانتقام من الأساتذة والتلاميذ الذين كانوا يعاقبونه أو يسخرون منه)، ثم هواية للتسلية وتزجية الوقت خلال “تجاربه المهنية” الأولى، بات تقمص الأسماء المستعارة وتسديد الضربات المؤلمة وسيلة بالنسبة له للتحكم أخيراً في حياته -هذه الحياة التي اكتشف فجأة أنها “موجودة في مكان آخر”... على الإنترنت: “لم يفعل ولد الشعب أكثر من صياغة تعليق بسيط جدا على جائزة ابن الونان التي عادت تلك السنة للشاعر وفيق الدرعي فانقلبت الدنيا رأسا على عقب. الوزير اعتذر عن الحضور. والشاعر المتوج قاطع الحفل. الجهة التي منحته الجائزة أصدرت بيانا تشتمه فيه. وحفنة من مشردي الإنترنت تجمعوا في إحدى جنبات المسرح الوطني بالعاصمة وأخذوا في ترديد الشعارات. كسرت الشرطة أضلع ستة منهم واعتقلت ثلاثة آخرين. وجاء في قصاصة لوكالة الأنباء أن المعتقلين الثلاثة حاولوا الانحراف بالوقفة عن مسارها الاحتجاجي السلمي برفعهم شعارا يطالب بإسقاط النظام”.
هكذا تمكن رحّال من فهم خوارزمية فيسبوك بعدما فشل في فك خوارزمية الحياة. فشهرته الافتراضية التي بناها من خلال قيادة معاركه الدونكشوتية “ضد العالم والناس”، تواسيه وتغطي على فشله الواقعي، ليجد نفسه أخيراً في قلب الفضاء العام بعدما كان على هامشه، وليصبح فاعلاً بعدما كان مفعولا به، وجانياً بعدما كان ضحية. إلّا أن “مخلوقاته الافتراضية” التي يصنعها ويتفاعل معها حد الانصهار قبل أن يتركها تنفصل عنه وتتحرك باستقلالية، سرعان ما انفلتت من بين يديه، فأثارت اهتمام البوليس السياسي وجذبت إليه “ثعالب الإنترنت وثعابينها وعقاربها”، فكان صعباً تفادي “الاحتراف”: “إنه يشتم تبعا لتعليمات، ومع ذلك يشتم من قلبه وبكل جوارحه. هل هناك إخلاص في العمل أكثر من هذا؟ أن تنخرط بتفان في شتم أشخاص لا علاقة لك بهم فقط لأنك ملزم بأداء واجبك على أكمل وجه؟”
غابة مجتمعية تحت الاستبداد
استخدم الكاتب بشكل كثيف قاموس الحيوانات (ما لا يقل عن الأربعين حيوانا)، وذلك إمّا لوصف الأفراد وخِصالهم أو حتى لتسمية الأحزاب السياسية (حزب الناقة، حزب البلشون، إلخ.). غابةٌ مجتمعيةٌ وسياسيةٌ تعيش فوضى طاحنة: من تدهور قطاعات التعليم والصحّة والسّكن والقضاء، إلى اقتصاد الريع والفساد الانتخابي وتدجين الأحزاب السياسية، مروراً بالدعارة والبطالة والجفاف والتلوث والهجرة والحريات الفردية والعنف الجامعي (تناحر الفصائل الطلابية المختلفة، اليسارية والإسلامية على الخصوص). لم يترك ياسين عدنان معضلة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إلا وتناولها بسخرية لاذعة وأسلوب بسيط ومشوق.
رغم تنبيه الكاتب المعتاد إلى أن أحداث الرواية “من نسج الخيال” وأن شخصياتها “لا تمت إلى الواقع بصلة”، إلّا أنه من الصعب على المتتبع للشأن السياسي المغربي ولو قليلاً ألّا يربط بين بعض أحداث الرواية وشخوصها مع أحداث وشخصيات مغربية حقيقية. هنا بدا ياسين عدنان بالفعل ضعيف الحيلة حتى أن خياله لم يستطع تجاوز واقع البلاد. فقد تناولت الرواية فترة نهاية العقد الأول من القرن الحالي ومحاولة فؤاد عالي الهمة -صديق الملك ومستشاره الحالي- السيطرة على المشهد السياسي بإنشائه حزب الأصالة والمعاصرة (“حزب الأخطبوط” في الرواية)، الذي وُصف حينها بـ “الوافد الجديد” (“الرقم الجديد” في الرواية)، بهدف التصدي للإسلاميين (“حزب الناقة” في الرواية): “حزب تم تلفيقه في ظروف غامضة من طرف جهات أكثر غموضاً حشدت له شرذمة من اليساريين المتقاعدين والنسويات المتهتكات ورجال الأعمال الفاسدين ولفيقا من الأعيان وعصابة من أشهر سماسرة الانتخابات في البلد، كما استقطبوا له الانتهازيين من مختلف الأطياف، وذلك بهدف واحد هو منع الناقة من الوصول إلى الحكم.”
ومن جديد، نجد رحّال في قلب حملة انتخابية سابقة لأوانها لحزب (صديق) الملك في مواجهة الحزب الإسلامي. حملةٌ تفنن ياسين عدنان في رسمها بشكل كاريكاتوري، كاتخاذه من أكلة الحلزون المعركة الحاسمة في الانتخابات، وهي أكلة يبيعها باعة متجولون في عربات، استغل حزب الملك قضيتهم من أجل كسب الانتخابات عبر توزيع عربات عليهم من أجل نيل أصواتهم، فما كان ردّ الإسلاميين إلا إصدار فتوى تحرّم تناول الحلزون وهكذا باتت الأكلة قضية انتخابية. وقد استعملها الكاتب في الرواية لمعالجة مواضيع ضعف الأحزاب والعزوف عن المشاركة السياسية وغياب التناظر الفكري والإيديولوجي، بالإضافة إلى تفشي الرشوة والزبونية والمحسوبية، وحتى فشل البرامج التنموية الملكية، على غرار “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”.
نجحت “هوت ماروك” في اقتحام تابوهات اجتماعية وسياسية قليلاً ما يُتجرأ على التطرق إليها في الرواية المغربية وخارج الرواية. كوميديا حيوانية غنية وساخرة تنم عن بحث كبير (تاريخ، عمران، سياسة...)، مكّن عدنان من الغوص في أعماق أعطاب المجتمع المغربي كما في جذور المشاكل السيكولوجية لرحّال. لكن، إذا توفق الكاتب في فك سرّ انطوائية الأخير وما بات عليه، فإن أسرار عُقد الأول تبقى مستعصية على الفهم والحلّ على حدّ سواء. بعد الاستنجاد بالحيوان لفهم الإنسان، بمن نستنجد الآن؟