“مسامير الأرض”، أبطال الأدب السوداني

حوار مع عبد العزيز بركة ساكن · بالنسبة للكاتب عبد العزيز بركة ساكن، فإن “النزاعات العرقية” في السودان هي في الحقيقة صراعات طبقية. وقد عبّر شباب الثورة في شعاراتهم عن تماهيهم مع المهمشين الذي يسكنون صفحات روايات الكاتب.

Patrice Lenormand/Zulma

بدأ عبد العزيز بركة ساكن الكتابة في ثمانينيات القرن العشرين عندما كان جعفر النميري على رأس السودان، وقد وصل إلى سدة الحكم عقب انقلاب في العام 1969، وفي وقت كان يخضع الكُتّاب فيه لرقابة عالية. غادر السودان إلى مصر حيث نشر كتبه الأولى التي لقيت نجاحاً كبيراً على الفور لدى القُرّاء السودانيين.

عند عودته إلى بلده، شغل عدة مناصب في الوظيفة العامة قبل أن يُفصل بسبب رفضه تأدية الخدمة العسكرية. فبدأ العمل في المجال الإنساني في المنظمات الدولية. أُرسل خلال هذه الفترة بمهمة إلى دارفور من أجل تدريب جنود حلف شمال الأطلسي والاتحاد الإفريقي في مجال حقوق الإنسان. كان هؤلاء الجنود مسؤولين عن مراقبة سير الحرب في دارفور (2003 - 2009) التي دارت بين القوات الحكومية ومجموعات مرتزقة عرب معروفة باسم الجنجويد من جهة، وبين القبائل المحلية التي صنفتها حكومة الخرطوم كقبائل متمردة من جهة أخرى، وشملت هذه الأخيرة بشكل رئيسي القبائل “الإفريقية”.

عند عودته إلى الخرطوم، روى تجربته في روايته الأكثر شهرة والتي تُرجمت إلى العديد من اللغات “مسيح دارفور” (2013). تمت مصادرة جميع كتبه وأجبرته التهديدات المتكررة التي وُجّهت له على مغادرة البلد. استقر في النمسا حيث حصل على اللجوء السياسي. وبعد عدة سنوات، انتقل إلى فرنسا حيث يعيش حالياً.

تروي رواية “مسيح دارفور” قصة شابة شهدت مذبحة عائلتها في إحدى قرى دارفور التي دمرتها ميليشيات الجنجويد أثناء الحرب. فقررت أن تطلق على نفسها اسم عبد الرحمن وأن تلتحق بالجيش “المتمرد” من أجل الانتقام لعائلتها. من خلال هذه القصة ذات الأصوات المتعددة، تروي شخصيات مختلفة قصتها مثل شكيري صديق البطلة، وهو شاب من دارفور التحق قسراً بالجيش النظامي قبل أن يعتقله المتمردون، وإبراهيم خضر، ابن الأمة السوداء بخيتة “سجم الرماد” التي تم بيعها لتاجر عربي حملت منه فأنجبت طفلاً اسمه إبراهيم، بشرته أفتح بقليل مِمَن حوله، لكنه لم يكن يُعتبر “عربياً”، ثم جاء دور العمة خريفية التي تبنت الشابة عبد الرحمن واستقبلتها عندها بعد أن تعرضت إلى الاغتصاب عدة مرات من قبل الجنجويد في ضواحي مدينة نيالا.

“عرب” مقابل “أفارقة”، تمييز طبقي

نجد النزاع بين مفهوم “العروبة” و“الحس الإفريقي” في السودان في قلب الرواية1. هل هذا النزاع حقيقي أم تم ابتداعه منذ البداية؟

في هذه المنطقة، التي بقيت لعدة قرون إحدى أكبر تجمعات الرّق في القارة الإفريقية، كانت القبائل “العربية” والقبائل “الإفريقية” مرتبطة ببعضها البعض بقوة بفضل قرون طويلة من الزواج المختلط والممارسات المشتركة. يُستخدم مصطلح “عربي” للدلالة على السلالة النبيلة لقريب مزعوم للنبي محمد من جهة، وكمصطلح مهين يصف البدو الفقراء وغير المتعلمين من جهة أخرى. وتكمن المفارقة في أن بعض القبائل “العربية” لا تتحدث اللغة العربية. أما صفة “إفريقي”، فلها إشكالية شبيهة، إذ من المستحيل عملياً التمييز بين القبائل التي تنتمي لفئة القبائل “العربية” وتلك المنتمية للقبائل “الإفريقية”. فأثناء الفترة الاستعمارية، فرضت قبيلتان “عربيتان” من وادي النيل -وهما الجعليين والدناقلة- سيطرتهما بفضل تجارة الرق التي كانت تُعد من أكثر أنواع التجارة ازدهاراً في المنطقة.

بعد استقلال البلد في العام 1956، أخذت نخبة من هذه القبائل والقبائل المجاورة لها زمام الأمور في البلد. ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت دارفور مأهولة فجأة بالسكان بعد أن كانت تعد منطقة شديدة الفقر ومنبوذة من قبل مركز البلد الموجود حول وادي النيل. وكان سكانها في نزاع مع الفئات القوية الموجودة في الخرطوم و“العرب” الذين كانوا يشكلون الدعم العسكري لهذه الفئات في دارفور، فكان عليهم ترويض سكان المدينة “الأفارقة” وإسكاتهم وحتى إبادتهم.

مارتشيلا روبينو. — أنت أصيل مدينة كسَلا في شرق السودان. كيف كانت العلاقات بين القبائل “العربية” والقبائل “الإفريقية” في مدينتك؟

عبد العزيز بركة ساكن. — وُلدت في كسلا لكن حكايتي أكثر تعقيداً. أمي أصلها من تشاد، وبعد الذهاب لأداء فريضة الحج في مكة، بقيت عائلتها في المملكة العربية السعودية ثم انتقلت لتستقر في مدينة تقع على الحدود بين المنطقة التي كانت تُسمّى بالحبشة والسودان. قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، وبسبب المعارك بين الإيطاليين والبريطانيين في المنطقة، انتقلت عائلة أمي إلى السودان إلى أقرب مدينة من الحدود مع إريتريا الحالية. أما والدي، فهو من قبيلة المساليت التي كانت توجد مملكتها المستقلة بين دارفور وتشاد. تضم مدينة كسلا قبائل ذات أصول متنوعة للغاية: من شرق السودان وغربه وشماله، وقبائل قدمت من نيجيريا تملك أراض في المنطقة. لا توجد صراعات بين من نسميهم في مناطق أخرى من البلد بـ“العرب” و“الأفارقة”. إذ تنتمي غالبية قبائل هذه المنطقة إلى مجموعة قبائل البجا الموجودة أيضاً في إثيوبيا وإريتريا، وهم ليسوا “عرباً”. فلا يوجد لدينا في كسلا هذا التمييز العنصري الذي نجده في المدن الكبيرة في الشمال وفي دارفور.

م.ر.ما هو تاريخ هذا التمييز بين “العرب” و“الأفارقة” في السودان؟

ع.ب.س.— وصل العرب إلى السودان على عدة دفعات. ووفقاً للقصص الشعبية، وصلت دفعة كبيرة عند سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر. واستناداً لهذه الأخيرة، وصلت القبائل العربية إلى السودان قبل ستة قرون واستقرت في دارفور2 واختلطت بالقبائل الإفريقية المحلية كالمساليت والفور والداجو والزغاوة وغيرها من القبائل. وأدت الزيجات المختلطة إلى اختلاط هذه الشعوب التي تتشارك منذ قرون الأرض نفسها ولون البشرة ذاته، فأصبح من المستحيل عمليّاً التمييز بين “العربي” و“الإفريقي”. وبعض القبائل التي صُنّفت لاحقاً بالـ“عربية” لم تكن حتى تتحدث اللغة العربية، بل لغاتٍ محلية كلغة الفارتا المستعملة في منطقة النيل الأزرق.

ظهر التمييز بين “العرب” و“الأفارقة” بعد الاستقلال مع وصول الحكومات المتعاقبة لسدة الحكم والتي فرضت تعريب البلد وأسلمته، وأعلنت أن السودان بلداً عربياً ومسلماً. منذ ذلك الحين، ارتبطت العروبة التي تبناها جزء من الشعب والنخبة الحاكمة بالرغبة في السيطرة على إدارة البلد وثرواته. تم تنفيذ سياسة التعريب، في دارفور على وجه الخصوص، بإشراك قبائل عربية أخرى قدمت من النيجر وتشاد ودول الساحل الأخرى، بعد أن سلّحتهم حكومات الشمال العربية الإسلامية ودربتهم على شن الحروب ضد الذين أصبحوا يطلقون عليهم بازدراء لقب “زُرقة” (أي السود).

ورثة العبودية

م.ر.ترتبط قضية العرق في السودان أيضاً بتاريخ الرق. هل يمكننا القول بأنه لا يزال هناك آثار باقية لتجارة الرق في السودان؟

ع.ب.س.— لم يعد هناك وجود للرق في السودان. لكن لا تزال آثاره واضحة وهامة جداً في المنطقة، إذ ترتكز أولى عناصر التراتب الاجتماعي على لون البشرة (الجميع بشرتهم سوداء، لكنها تتباين من شخص لآخر بسبب الاختلاطات التي جرت مع عناصر إثنية بشرتها “أقل سواداً”). على سبيل المثال، لم تخضع قبيلة المساليت للاسترقاق، لكن غالباً ما يُطلق اسم “عبد” على آعضائها حتى يومنا هذا بسبب لون بشرتهم “السوداء الداكنة”. الأمر فيه شيء من التناقض، إذ نعرف أن الرقيق لم يتميّزوا جميعهم بلون بشرة داكنة. وكما نرى في رواية “مسيح دارفور”، الكثير منهم وُلدوا نتيجة معاشرة الأسياد “ذوي البشرة البيضاء” (كالأتراك العثمانيين والمصريين مثلاً) للنساء المستعبدات. ومن آثار تجارة الرق نجد أيضاً أن تجار الرق السابقين لا يزالون يمتلكون ثروات البلد. فالسلطة اضطلعت بدور هام في الصراع القائم بين مصطلح عبد “إفريقي” وحُر “عربي”. يتطرق الأدب السوداني كثيراً لهذه القضية لأنها قضية رئيسية ومعقدة في الآن ذاته، ولا تزال تُعتبر من المواضيع المحظور ذكرها في المجتمع السوداني.

م.ر.تتطرق أحياناً كثيرة إلى هذا الصراع الموجود بين “العرب” و“الأفارقة” في رواياتك حتى وإن كانت تعالج مواضيع أخرى. لماذا هذا الاختيار؟

ع.ب.س.— تجربتي في دارفور أثناء مهمتي التدريبية هي ما ألهمت روايتي. كنت أريد أن أبيّن للناس أن الحرب التي كانت تصفها أكاذيب الحكومة كصراع بين “العرب” و“الزرقة”، بين “البيض” و“السود”، بين الرعاة والفلاحين، ليست سوى صراع بين “المركز” و“الضواحي”، ضواحي دارفور المُهملة منذ عقود. أما روايتي الأخرى “الجنقو، مسامير الأرض” (2009)، فهي تتطرق لنوع آخر من التهميش وهو تهميش العمال الموسميين في الأراضي الزراعية. فهم منبوذون من المجتمع المتمركز حول الخرطوم والذي يعتمد عليهم أيضاً من أجل ضمان بقائه. فمن دون هذه الطبقة العاملة والمُستغلة، لن يكون لدى البلد، ومركزه الأكثر ثراءً وتطوراً على وجه الخصوص، ما يكفي لإطعام الشعب. ولهذا السبب أسميهم بـ“مسامير الأرض”، أي أولئك الذين يمنحونها الاستقرار ويحمونها من الجفاف.

الأدب والثورة

م.ر.هل للأدب القدرة على تصحيح الواقع المزور من قبل السلطات السياسية؟

ع.ب.س.— يمكنه ذلك لو كان متاحاً لعدد أكبر من الناس. لكن غالبية السكان ليس لديهم إمكانية الحصول على التعليم، وقلة من المتعلمين تهتم بالأدب. على الرغم من ذلك، تركت رواياتي أثراً قوياً لدى النخبة الصغيرة المتعلمة والمثقفة. وعندما كتبت “الجنقو، مسامير الأرض”، اكتشف مثقفو البلد وجود العمال الموسميين الذين تدور حولهم الرواية. واليوم، يتم إجراء دراسات جامعية عنهم وتحمل جمعيات للشباب اسمهم. وأثناء المظاهرات التي أدت إلى [سقوط نظام عمر البشير عام 2019-<3033]، كان المتظاهرون يحملون لافتات مكتوب عليها: “الجنقو، مسامير الأرض”، لتدل على تماهي شباب الثورة مع مهمشي المجتمع بسبب محنة الشعب السوداني.

أما “مسيح دارفور”، فحصلت الرواية أيضاً على استجابة هامة للغاية لدى هذه النخبة السودانية المثقفة. فاكتشفت من خلال هذه الرواية أن الصراع القائم في دارفور لم يكن صراعاً عرقياً، بل صراعاً سياسياً استُخدمت فيه النعرة العرقية لخدمة أهداف استراتيجية لحكومة الخرطوم.

استطاع الأدب التأثير على البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية أيضاً في السودان، ولو كان هذا التأثير محدوداً وخفيفاً. لكنه لا يزال بعيد المنال بالنسبة لغالبية المواطنين، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يشكّلون موضوعه الرئيسي. فدور الأدب يبقى ضعيفاً طالما لا يتمتع بعدد كبير من القرّاء ونشر عالي المستوى وحرية تعبير، حيث أنها محدودة للغاية في السودان.

1حول الهوية “العربية” و“الإفريقية” في السودان، اقرأ Francis Deng, War of Visions : Conflict of Identities in Sudan, Brookings Press, 1995.

2وفقا للمؤرخ جرار برونييه، فإن أول استقرار للقبائل العربية في السودان كان أواخر القرن الرابع عشر.