مسلسل

السيسي “المسيح المخلّص” في “الاختيار 3”

بعد أن تطرّق الجزء الأوّل من مسلسل “الاختيار” إلى عمليات الجيش المصري في سيناء، والثاني إلى أحداث فضّ اعتصام رابعة الذي قاده الإخوان المسلمون، من قبل الجيش والشرطة المصرية، يعود المسلسل في جزئه الثالث بالأحداث للخلف ليتطرّق إلى مرحلة حكم الإخوان وعلاقتهم بالمشير عبد الفتاح السيسي. رواية ببصمة عسكرية خاصّة.

تلمّع مشاهد مسلسل “الاختيار 3” صورة ودور الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال الفترة التي سبقت “ثورة 30 يونيو” أو الانقلاب، وتظهره كمخلص وعبقري، يرفض الانضمام إلى الإخوان خلال حكمهم لكنه في نفس الوقت متديّن ووطني، وأب مثالي وزوج عصري. لكن رُغم هذه الصورة المثالية، شعُر السيسي بالحاجة إلى تبرير ما ظهر في المسلسل كموقف إيجابي من الرئيس المعزول محمد مرسي خلال فترة حكمه الأولى. فعلاً، فقد صرّح الرئيس المصري خلال إفطار رمضاني جماعي في 26 أبريل/نيسان 2022، تعليقًا على أحداث المسلسل التي وصفها بالدقيقة:

سبب النجاح والتغيير هو أنه لم يكن هناك خيانة ولا تآمر ولا عدم إخلاص.. الإخلاص كان لله والوطن، لم أقف مع الرئيس مرسي الله يرحمه، كنت واقف مع مصر.. لو تآمرت عليه يبقى أنا تآمرت على البلد وعلى 100 مليون مصري وضيعت حياة ومستقبل 100 مليون.

مرسي صديق السيسي؟

ركّز الرئيس المصري في كلمته حول المسلسل على القلق الذي قد يشعر به جزء من المشاهدين بعد أن ظهر السيسي مخلصًا لمرسي، وسعى لكيلا يبدو أن ما جرى مخطَّط له، أو أن السيسي اتفق مع رئيس الدفاع السابق المشير طنطاوي على أن يسحب البساط من تحت رجلي الرئيس محمد مرسي. لذلك أظهره المسلسل مطيعاً وناصحاً، بل وحتى صديقاً للرئيس الذي توفّي فيما بعد في سجون السيسي في 17يونيو/حزيران 2019. حتى أن شخصية عبد الفتاح السيسي تقول في إحدى حلقات المسلسل وهو يتحدّث غاضبًا للقيادي في الإخوان خيرت الشاطر: “سيبوا الرئيس بحاله”. يبالغ المسلسل في تصوير الانقلاب كثورة بريئة وأنها كانت خيار الناس، وفي شيطنة الإخوان، وفي ملائكية ومثالية السيسي وكذلك كمال مظهره الذي لعب دوره الممثل “ياسر جلال” والذي يزيد طوله عن طول الرئيس بفارق معقول، وتبدو عضلاته مفتولة. هذا ال المثالية جعل الشخصية تتحول إلى مادة للسخرية، بل صار البعض يكتب الشكاوى على وسائل التواصل الاجتماعي إلى ياسر جلال بدلا عن رئيس الجمهورية، تهكّما. لكن الخلط بين رمزية الممثل وشخصية الرئيس جعل انتقاد المسلسل يبدو كخيانة وطنية. بل إن المشاركة في مسلسل “الاختيار 3” أصبحت بمثابة التجنيد الاختياري ليثبت الممثلون والممثلات إخلاصهم للدولة ورؤيتها. وكان أحدهم هذ العام الممثل السوري جمال سليمان الذي لعب دورًا ثانويًا لا يناسب اسمه، والممثل الشاب العالمي أمير المصري، بطل الفيلم البريطاني “ليمبو” (2020)، الذي لعب دور شاب يريد تغيير حكم الإخوان.

تسريبات... تُدين النظام

كلّف المسلسل الملايين في وقت تعيش فيه مصر أزمة مالية وغلاء غير مسبوق للأسعار. تشارك في إنتاجه إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية -وهي الإدارة المسئولة عن المراكز الإعلامية والنفسية للقوات المسلحة-، أي أنه صُنع تحت الرقابة المباشرة للرئاسة والمخابرات العسكرية. ما يفسّر احتواء المسلسل على مقاطع فيديو مسرّبة تم انتقاؤها بما يناسب السياق، وتم تحريرها وقصها، كما ركّزت على شخصية خيرت الشاطر، بهدف أن يحمّله المسلسل ذنب جميع التجاوزات التي حصلت في عهد مرسي، ويخفّف وزر ذلك عن مرسي، باعتباره “صديق” السيسي، دون أن يفسّر الأسباب التي أدّت بمحمد مرسي إلى السجن. وهكذا، يقوم طاقم العمل مرّة أخرى وكما في الجزءين الآخرين لـ“الاختيار” بنقل صوت الدولة وحدها.

كتابة مسلسل يستعين بمصادر مخابراتية ليس عيبا في حدّ ذاته، فقد فعل منتجون أمريكيون ذلك عشرات المرات في أعمالهم عن العراق وأفغانستان. لكن العيب ألا يكون للمسلسل علاقة بالعمل الفني، ولا بحقيقة ما حدث على أرض الواقع، بل صُنع ليروي سرديّة عين واحدة، تُظهر الآخر -أي الإخوان- غارقا في الخبث واللؤم والغباء معًا، علاوة عن كونه غير وطنيّ، على الرغم من كونه جاء نتيجة انتخابات نزيهة كانت صنيعة ثورة.

من المهم هنا الإشارة إلى مسألتين هامتين تخصان هذه التسريبات، الأولى -وهي مفارقة ساخرة- أن فريق دفاع المرشح السابق للرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح، صاحب الفكر الوسطي والملقى في السجون المصرية في ظروف صحية سيئة، وجد في التسريبات مادة قد تساعد على تحرير أبو الفتوح، فقد استخدمها ليثبت أن الأخير لم يكن متآمراً مع الإخوان، إذ تظهر شخصيّته في الحلقة الثالثة وهي تحذّر من سيطرة الإخوان عن الحكم، بل وتقول إنه لو كان القرار بيدها لاختارت ممثلا عن المؤسسة العسكرية ليحكم.

الإشارة الثانية تخصّ الحلقة 26، وقد عُرض فيها تهديد خيرت الشاطر للسيسي خلال اجتماع في مبنى إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع قبل خروج مظاهرات 30 يونيو/حزيران. خلال هذا المشهد، هدّد الشاطر بأنه سيستعين بالحركات الجهادية، وأن محمد الظواهري قال له بأن تنظيمه لن يسمح بسقوط الشرعية في مصر“. أمام أهمية هذا المشهد يتساءل صحفي معارض مقيم في لندن فضّل عدم الكشف عن هُويّته:”لماذا لَم يعرض المشهد الحقيقي، على الرغم من أنه من الواضح أن كل الاجتماعات كان مسجلة؟ تُرى هل لأن هذا ليس ما حدث بالحقيقة؟“ويضيف:”هذا المشهد يجافي الحقيقة تمامًا، إذ لم لدى الإخوان علمٌ بأي انقلاب أو أن هناك تخطيط من العسكر لحدوث مواجهة".

تزيد هذه التسريبات من مساحة التوثيق الذي بدأ يكبر مع الجزء الثاني للمسلسل (رمضان سنة 2021)، والذي يطمح أن يصبح طريقة لـ“تقديم التاريخ” والحصول على شرعية. لكن يبقى العمل يتيم الانتماء، فلا هو عمل فنيّ متكامل، ولا هو وثائقي تاريخي، بل لا يتعدّى المسلسل مستوى الدعاية السياسية التي تقدّمها الوسائل الإعلامية المصرية، والتي تغذيها الصحف من خلال عناوين “تشويقية” من حلقة إلى أخرى على غرار “انتظروا التسريب المفاجأة”، وكأن الأحداث لا تزال جارية، أو أن الناس لا تعرف وجهة نظر الدولة.

قناع الانقلاب العسكري

كذلك، لا يمكن إهمال اللقطات من أعمال الحركات الجهادية الدموية حول العالم، والتي عرضها المسلسل خلال حوار الشاطر والسيسي، في محاولة للقول إن هذا ما كانت ستؤول عليه مصر لو بقي الإخوان في الحكم، واتهامهم بجميع أعمال العنف التي شهدتها البلاد منذ تلك الفترة.

ليس هذا التضليل الوحيد، فقد حوّل المسلسل الكثير من النشطاء -مثل نشطاء حركة “كفاية” و“6 أبريل”- إلى مستأجرين من قبل أجهزة الدولة ضد الإخوان -والحال أنهم كانوا يعارضون كلا الطرفين-، بينما جمّل صورة النشطاء الذين يعملون فعلا لدى المخابرات وساعدوا الداخلية للسيطرة على الشارع، على غرار حركة “تمرّد” التي كانت تقوم بتوزيع الاستمارات بطريقة منظمة وحجز قاعات، وهي تدابير تحتاج أموالاً ولا يمكن أن تكون صنيعة حركة قامت للتو، بل بدعم من أجهزة الدولة.

وهذه محاولة أخرى لجعل “ثورة يونيو” قناع الانقلاب العسكري، فتظهر كاحتجاج شعبي يرفع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، فتنسى الأجيال الجديدة أول مرة صرخت الحشود بهذا الشعار في يناير/كانون الثاني 2011. كأن يقول أحد نشطاء “تمرّد” في المسلسل:“أنا قلقان أكثر منك مليون مرة، بس خلاص بدأنا ونزلنا والناس كلها عرفتنا، الثورة طلعت وملهاش رجوع، و30 يونيو قربت خلاص”.

وتسخر الناشطة ميرفت موسى على حسابها في “فيسبوك” كيف حوّلها المسلسل إلى “بنت” تعمل لدى المخابرات المصرية، وإظهار كثير من النشطاء المستقلين الذين لم يكونوا ينتمون إلى حركة الإخوان أو إلى الدولة أنهم يعملون لديها بالخفاء. إذ لا يعترف المسلسل بثورة “25 يناير” التي أطاحت بحكم حسني مبارك، بل يجمعها مع الإخوان طوال السردية الدرامية.

الفرق بين المسلم والإخواني

يحاول المسلسل إقحام بعض الحبكات الفرعية التصاعدية دراميًا حول تصادمات المجتمع مع ثقافة الإخوان، كالتي تحدث بين الموظفين حين يتم ترقية أحدهم غير كفؤ لكونه ينتمي إلى الجماعة، أو خوف المسيحيين وسعيهم للهجرة، فضلا عن الإشكاليات بين معلمي المدارس، واعتراض وزير الثقافة على عروض الأوبرا المصرية. حتى ورش صناعة الملابس النسائية أصبحت لا يرتادها سوى المحجبات المؤدلجات اللواتي يرفضن انضمام غير المحجبات إليهن.

صحيح أن أيدلوجيا الإسلام السياسي تركّز كثيرا على هذه المظاهر، وتسعى لفرض هويتها على الشارع بهذه الطريقة، إلا أن المسلسل قدّم هذه المشاهد بكثير من العنصرية والجهل والصور النمطية.

ملخص هذه المشاهد أنه يجب التفريق بين المسلم والإخواني، بين مواطن شريف “يبلّغ الأمن عن أي مشبوه”، وإخواني يعيش في كنف الصمت، بين حجاب وآخر، وبين صلاة وأخرى. أو ما عبّر عنه أحد قادة “تمرّد” في المسلسل قائلا: “بيقولوا خلي الإخوان في الحكم لأنهم بيصلوا فرض، طب ما احنا كمان بنصلي زيهم”.

في أحد المشاهد يدخل رجل ملتحي الصيدلية ليشتري دواء، فيمتدح الإخوان ويتحدث عنهم بحماس، لكنه يسحب الوصفة المكتوبة من يد الصيدلاني حين يتبيّن له بأنه وزوجته التي تعمل معه مسيحيّان، فيخرج بغضب، فيما تحاول امرأة محجبة كانت تنتظر دورها التخفيف عنهما. يحاول هنا المسلسل القول بأن التدين المصري يختلف عن التدين الاخواني. لكن التدين في مصر هو في الحقيقة تديّن شعبي، لم يكن مسيّسا، وقد بدأ التفريق بين الفئتين خاصة بعد حظر الإخوان وحبسهم.

السيسي، أو يسوع المخلص

مع اقتراب موعد “ثورة يونيو”، يزداد ظهور شخصية السيسي في المسلسل كالمسيح المخلص، إذ يكتب بياناً باسم القوات المسلحة يحاول من خلاله إنقاذ مصر قبل أن تسقط في حرب أهلية، ويطالب “صديقه” مرسي أن يتصالح مع المعارضة والداخلية قبل أن تدخل البلاد في نفق مظلم.

من الواضح أن الهدف من المسلسل هو تطهير اسم السيسي، خاصة أن عرضه تزامن مع العفو عن العديد من سجناء الرأي بعد سنوات من الاعتقال دون محاكمة. كما تكلّم خلال الإفطار الجماعي الذي جمعه ببعض عناصر المعارضة ما عدا الإخوان، وبممثلين عن منظمات غير حكومية، عن “الحوار الوطني” لأول مرة منذ أعوام، ليبدو وكأنه يهيئ لبداية جديدة. لكن في نفس الوقت الذي تم فيه الإفراج عن السجناء، يتم اختطاف آخرين مثل الصحافية صفاء الكوربيجي التي تعمل في التلفزيون الحكومي “ماسبيرو”، بعد أن بثت عدة مقاطع فيديو تحدثت فيها عن أزمة العاملين في المؤسسة وسوء الأوضاع المعيشية. وعلاء عبد الفتاح، أحد “شباب الثورة”، الذي حُكم عليه ظلماً والذي يُعامل معاملة سيئة في السجن، وهو اليوم يواصل إضراب جوع للشهر الثاني على التوالي.

وهذه الأجهزة هي الخيط الذي يقود للحقيقة في مسلسل الاختيار3. فبالموازاة لما يحيكه المسلسل عن الإخوان، تدور الحبكة الرئيسية حول ثلاثة ضباط، هم أحمد عز، وكريم عبد العزيز، وأحمد السقا، الذين يكرّسون جهودهم لتتبع وتفكيك خلايا الإخوان بمعية وأعوانهم وأجهزتهم وجواسيسهم. وهكذا نستنتج من رسالة المسلسل أن الإخوان كانوا مجموعة من السذج أمام ما كانت تفعله الداخلية بموافقة المؤسسة العسكرية ومباركتها. أي أن هذه الدولة “الوطنية” داخل الدولة قامت فعلا بالانقلاب.. نزولا عند مطالب الشعب؟

ومن هنا نفهم جميعًا لماذا أراد السيسي تبرير كونه الفتى المخلص الناصح لمحمد مرسي، فهو لم يكن يومًا سوى حصان طروادة الذي حمل في بطنه الانقلاب، منذ أن صلى الفجر أمام الإخوان وسلّط الضوء على زوجته المحجبة كأنه يقول لهم: “أنا منكم فخذوني”.