استشراق

الهوس بمصر في صفحات مارسيل بروست

“البحث عن الزمن المفقود” لوحة بارعة للطبقة الأرستقراطية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، يعكس من خلالها مارسيل بروست أحد الأهواء المنسية لتلك الفترة، وسط هذه البيئة الاجتماعية، وهو “الهوس المصري”. هوس ينعكس في اختيار الديكورات والأثاث، وحتى في استعارات الكاتب.

في الصورة، يظهر وجه رجل يتحلى بذقن وشوارب، يعبر عن تأمل أو تفكير عميق. خلفه، توجد مناظر طبيعية تتضمن بحيرة ونباتات مثل النخيل، مما يضفي طابعًا هادئًا. تُظهر الصورة تداخل وجه الرجل مع المناظر الطبيعية، مما يخلق إحساسًا بالتواصل بين الإنسان والطبيعة. الألوان تبدو بالأبيض والأسود، مما يعزز الطابع الفني والقديم للصورة.

عندما بدأت رحلة طويلة امتدت لشهور لقراءة العمل الفذ للروائي الفرنسي مارسيل بروست المطبوع في سبعة مجلدات بعنوان “البحث عن الزمن المفقود”، لم أكن أتصور أنه بعد الانتهاء منه، سيكون الهوس بالمصريات أحد الانطباعات التي أخرج بها من هذا العمل الذي تدور أحداثه في الأوساط الأرستقراطية الفرنسية خلال مطلع القرن العشرين.

تظهر مصر في الكتاب الأول من رائعة بروست والمعنون “جانب منازل سوان” عندما يعرف أحد أبطال الرواية، “شارل سوان”، أن عشيقته “أوديت” تسعى للسفر خارج فرنسا، حيث تخبره الأخيرة أنها ذاهبة في رحلة مثيرة لزيارة مصر قائلة: “نعم، عزيزي، سنرحل يوم 19. سنرسل لك مشهداً من الأهرامات”. تثير المسألة غيرة “سوان”، خاصة عندما يعرف أن “أوديت” ستسافر مع رجل يغار منه هو “فورشفيل”.

لم تكن رحلة أوديت وفورشفيل المتخيلة بعيدة عن الواقع، فقد كانت الرحلات إلى مصر- على ارتفاع تكلفتها - مطلوبة بكثرة في أوروبا وفي فرنسا تحديدًا. إذ يعود الهوس بالمصريات إلى الحملة الفرنسية على مصر أو بمعنى أصح إلى نتائجها، من أعمال أدبية ومعرفية ولوحات. وكان للفنان والمعماري والكاتب الفرنسي دومينيك فيفان دينون دور كبير في تعزيز هذا الهوس بكتابه “رحلة في مصر والصعيد خلال حملات الجنرال بونابرت”، الذي لم يكن الكتاب الأفضل من الناحية العلمية، لكن الأشهر، حيث طُبع منه أكثر من أربعين طبعة كاملة بلوحاته المميزة التي خلبت عقل الفرنسيين..

ويروي دينون عند وصول جيش نابليون إلى طيبة،

وأمام مشهد الأنقاض المبعثرة توقف الجيش تلقائيًا، وأخذوا يصفقون وكأن احتلال أنقاض هذه العاصمة كان هو الهدف من وراء أعماله المجيدة وأنه استكمل غزو مصر، وأمام معبد دندرة الذي كان جزؤه الأكبر مدفونًا في الرمال جاء أحد الضباط ليقول: منذ أن جئت إلى مصر وأنا أشعر بخيبة في كل شيء، ولقد كنت طوال الوقت حزينًا ومريضًا، لكن دندرة أبرأتني، إن ما رأيته اليوم قد خلصني من جميع متاعبي.

يستعيد بروست مشاعر الفرنسيين وقت الحملة الفرنسية على مصر عندما تبدأ الحرب العالمية الأولى في نهاية الرواية، أي في جزئها الأخير المعنون “استعادة الزمن”. فعندما تبدأ الحرب بين فرنسا وألمانيا، يرتدي أرستقراطيو فرنسا ملابس مستوحاة من مصر القديمة لاستعادة أيام حملة نابليون على مصر، مثل الأقمصة ذات الزخارف المصرية، وتنّورات قصيرة فوق ملابسهم العادية، وحتى الصنادل المفتوحة ظهرت، وكان ذلك بهدف محاولة استعادة نفس تلك الروح المعنوية المرتفعة التي صاحبت الفرنسيين عند حملتهم على مصر.

ديكور لبيوت الأرستوقراطيين

الديكور الذي استخدمه مارسيل بروست كمسرح لعرض روايته الضخمة يحمل بدوره بصمة هذا الهوس، لا سيما من خلال الأثاث. في الكتاب الذي نُشر لمعرض متحف اللوفر بباريس تحت عنوان “الهوس بمصر، مصر في الفن الغربي من 1730 إلى 1930”، نرى كيف ازدهرت صناعة قطع الأثاث الفرنسية لتنتج كومودينوات وطاولات وكونسولات وكراسي تحمل غطاء رأس فرعوني مصنوع من البرونز، أو محفورة في الخشب. بل وصل الأمر لظهور قطع أثاث كاملة “مصرية” كما ظهر لون جديد سُمي “أرض مصر” (وهو أحمر برتقالي قاتم) إلى جانب لون “المومياء” (بني أحمر). يظهر هذا البعد في الكتاب الثالث، “جانب منازل غرمونت”، في مقطع تتحدّث فيه “مدام دي غرمونت” عن الأثاث المصري وجمال إحدى القطع:


— وصاحت الدوقة بحدة غريبة: "ولكن عجباً، تعلمين أننا إنما تخلينا نحن لجيلبيرت (وهي اليوم نادمة ندما مريرا) عن قاعة لعب كاملة من الطراز الإمبراطوري ورثناها عن كيوكيو، وهي آية في الجمال! لم يكن المكان يتسع لها هنا، مع أني أرى أنها أكثر ملائمة هنا منها في منزله. إنها شيء في غاية الجمال نصفها اتروسكي، والنصف الآخر مصري. فسألت الأميرة التي كانت لفظة: اتروسكي، لا تعني لها إلا القليل: “مصري؟؟”
— يا إلهي، الإثنان إلى حد ما، كان سوان، يقول لنا ذلك وقد أوضحه لي ولكني، تدرين، جاهلة مسكينة. ثم إن ما ينبغي أن نقوله في الأساس يا سيدتي إن مصر الطراز الإمبراطوري لا صلة لها البتة بمصر الحقيقية، ولا رومانييهم بالرومانيين، ولا ما يقولون عن اتروسك.. ]]“بجوار منازل جارمونت”، “البحث عن الزمن المفقود”، ترجمة إلياس بديوي.]]

ويتكرر ذكر الطراز المصري في الأثاث في نفس الجزء مرات عدة سواء للأثاث المصري أو الرسومات المصرية التي لاقت رواجًا كبيرًا هي الأخرى.

يظهر تأثر بروست نفسه بالفنون المصرية القديمة عندما يستعير الفنون لصياغة مشاعر أو صفات معينة، فالكتاب مليء بتوصيفات مثل “أنف كأهرامات الجيزة” أو “معقدة كاللغة الهيروغليفية” وهي تشبيهات متناثرة في الكتب السبعة.

في الجزء الثالث يشبه بروست مشاعر الراوي الغريبة تجاه الممثلة الشهيرة (في الرواية) “بيرما” بأنها مشاعر تتناقص وتحتاج للكثير من العمل لتبقى كما كانت، مثلها مثل مومياء مصرية قديمة تحتاج لكل ما كانت تمتلكه في الحياة لتبقى كما هي في الأبدية. وفي نفس الجزء يستفيض بروست في وصف “مدام دي غرمونت”، وعندما يصل لوجهها يختار تعبير “كأنها أحد الآلهة المصرية القديمة” ليصفها به. وسيعود بروست لاستخدام نفس التشبيه تقريبًا عندما يصف السيد “لوغران” في الجزء السابع والأخير من الرواية لكن بدلًا من استدعاء صور الإله المصري القديم للتعبير عن الجمال، يستخدمها هنا للتعبير عن الموت.

مصر التوراتية والإنجيلية

كانت لبروست – المعمَّد وفق المراسم المسيحية - أصول يهودية من والدته. ويعود تواجد شخصيات يهودية في روايته إلى قضية “دريفوس”‏ التي وقعت عام 1894 واستمرت حتى عام 1906، والتي تسببت في انقسام في صفوف المجتمع الفرنسي.. كما في صفوف الشخصيات.

تبدأ القضية باتهام النقيب “ألفريد دريفوس الفرنسي” اليهودي بإرسال أوراق سرية للإمبراطورية الألمانية تتضمن معلومات عن الجيش الفرنسي، علما وأنه في ذلك الوقت، كانت العلاقة بين فرنسا وألمانيا في أسوأ حالتها بعد ضمّ ألمانيا لإقليمي ألزاس ولورين، وستستمر هذه العلاقة السيئة لتندلع معها الحرب العالمية الأولى. حُكم على دريفوس بالسجن المؤبّد وتم نفيه، لكن عائلته ورئيس قسم الاستخبارت المضادة أثبتا أن المتورط الحقيقي في هذه القضية هو ضابط فرنسي آخر يُدعى “فرديناند ويلسون ايسترازي”. وفي 1906، اعترفت محكمة التعقيب أخيراً ببراءة دريفوس، بعد أن أحدثت هذه القضية شرخاً في المجتمع الفرنسي.

وكما في الواقع، انقسمت شخصيات رواية بروست بين مؤيد ومعارض. في الجزء الثالث، يتحدّث الراوي عن صديقه اليهودي “بلوش” الذي يتجنب إظهار حقيقة ديانته. أما عندما يدخل أي يهودي لإحدى حفلات المجتمع الأرستقراطي الفرنسي، يصف بروست حالة الاغتراب التي تنتاب الرجل كالتائه في صحراء مصر أثناء رحلة الخروج التوراتية الشهيرة. وفي الجزء الأخير من الرواية، يستدعي بروست لوصف صورة “مادام دي غرمونت” لدى قريباتها بأنها “كموسى الذي نجى من الماء وكالمسيح الذي هرب إلى مصر”.

ليست مصر القديمة فقط هي الموجودة في رواية بروست لكن أيضًا مصر المعاصرة لزمن الرواية، البلد التي شقت قناة السويس، وكانت جزءاً من الاقتصاد العالمي، كما نقرأ عندما يتحدّث الراوي عن “الماركي دو نوربوا” الذي يعمل في إدارة الدين العام المصري، والذي استثمر في أسهم قناة السويس كغيره من شخصيات الرواية الممثلة للمجتمع الأرستقراطي الفرنسي، حيث كانت كانت الشركة آنذاك ملك مساهمين فرنسيين وبريطانيين بالأساس.

ظهر الهوس بمصر من حين لآخر في الرواية كمحاكاة لما كان يدور في المجتمع الفرنسي، لكن بروست شرح بطريقته أن هذا الهوس ليس إلا موضة عابرة، لم يرافقها إدراك حقيقي لا لقيمة تلك الحضارة أو للفن المنتج من خلالها. حتى أن المهوسيين بذلك الفن القديم لا يدركون الفارق بينه وبين الفن الروماني أو أي فن قديم، كما يظهر ذلك في الجزء الثالث من الرواية عندما تقول “مادام دو غرمونت”:

إن هذا النوع، ماذا عساي أقول لك، من... تراجع حملة مصر وكذلك عودة العصور القديمة إلينا، وكل ذلك الذي يجتاح منازلنا من تماثيل أبي الهول التي تجيء لتقف على أقدام المقاعد والحيات التي تلتف على الشمعدانات وربة الشعر الضخمة التي تمد إليك مشعلاً صغيراً لتعلب الورق أو هي اعتلت مطمئنة موقدك واسندت ذراعها إلى ساعة جدارك، وجميع المصابيح التي من طراز “بومبني” [نسبة لمدينة بومبي بجنوب إيطاليا]، والأسِرّة الصغيرة على شكل مراكب التي تبدو وكأنما عثر عليها في النيل ونتوقع رؤية موسى خارجاً منها، وهذه العربات القديمة التي تجري على أطراف طاولات الأسِرّة..