بورتريه

على خطى مصري شيوعي يهودي

مسيرة دامت قرابة قرن من الزمن عبر تاريخ مصر، من الملكية إلى الجمهورية، ومن الاحتلال البريطاني إلى الاستقلال الوطني وتأميم شركة قناة السويس. أو كيف يمكن أن يكون أحدهم مصريًا ويهوديًا وشيوعيًا في نفس الوقت.

الصورة تظهر شابًا واقفًا على شرفة، يبدو مبتسمًا ومسترخيًا. يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا طويلًا. الخلفية تتضمن حائطًا وبعض التفاصيل المعمارية مثل النوافذ والحواجز. تعكس الصورة أجواءً من السعادة والبساطة.
صورة لألبير آرييه شابّ.

“هل يأخذ أحدهم بلده معه وكأنه يحمله في نعل حذائه؟” التفكير بدانتون1، وبالثورة الفرنسية التي كان شغوفًا بها خلال تعلّمه في المدرسة الثانوية الفرنسية في القاهرة، جعل ألبير آرييه يرفض المقايضة التي اقترحتها عليه الشرطة: التخلي عن جنسيته المصرية مقابل إطلاق سراحه وترحيله إلى إسرائيل. سيدفع هذا المصري والشيوعي واليهودي ثمنًا باهظًا مقابل قناعاته، إذ قبع في السجن وفي المعسكر لأكثر من عقد، بين عامي 1953 و1964.

في مذكّراته التي نُشرت في عام 2022 بعد أشهر قليلة من وفاته، يسترجع آرييه مساره الاستثنائي بجميع المقاييس. ويعيد إحياء حقبة منسية من تاريخ لطالما تم تزويره وأسماء مناضلين وهبوا حياتهم – بالمعنى الحرفي والمجازي للعبارة – من أجل مثلهم العليا. ومن خلال مشاركتي في أمسية تم تنظيمها في 18 مارس/آذار بالقاهرة حول هذا الكتاب، كنتُ شاهدًا على الاهتمام الذي تحظى به هذه التجربة من قبل الأجيال الصاعدة. وقد نحلم بأن نرى شوارع وساحات تسمّى بأسماء ألبير ورفاقه ممن شاركوا في كفاح الشعب المصري مثل شريف حتاتة، ديدار فوزي، ميمي كانال، هنري كوريال، شحاتة هارون، كلير هزان، شهدي عطية الشافعي، بدر، رفعت السعيد، وغيرهم.

ألبير آرييه – أو “تيتي” كما كان يناديه رفاقه – وُلد سنة 1930 في قاهرة متعددة الثقافات والجنسيات، كان يعيش فيها – لكن بشكلٍ غير متساوٍ - مصريون وأجانب، مسلمون ويهود ومسيحيون، ومواطنون عثمانيون وأوروبيون. درس في المدرسة الثانوية الفرنسية بباب اللوق، الأمر الذي منحه انفتاحًا على العالم وعلى الثقافة والسياسة الدولية، دون أن يغيّر من حبّه لبلاده. أو كما يقول جان جوريس2: “قليل من الأممية يُبعدك عن الوطن، والكثير منها يُرجعك إليه”. اختلاطه بأساتذة ماركسيين وخاصة الحرب العالمية الثانية التي تابع أحداثها بشغف على الرغم من صغر سنه، عزّزا تربيته السياسية، فكتب: “جيلي وجيل العديد من المصريين جاء إلى الماركسية على صوت مدافع ستالينغراد3”.

وهكذا، وبطريقة تكاد تكون طبيعية، التحق ألبير بإحدى المنظمات الشيوعية العديدة التي كانت موجودة آنذاك في مصر، والتي لعبت -رُغم الشجارات والانقسامات - دورًا فعّالاُ في معركة التحرّر الوطني ضد البريطانيين، سيما بين شتاء 1945 وربيع 1946 ومن خلال إنشاء اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.

منعرج إنشاء إسرائيل

بعد حرب 1948 وإنشاء دولة إسرائيل، احتدّ القمع ضد الشيوعيين، ما أدّى إلى إضعاف الحركة، خاصة وأنهم ساندوا قرار تقسيم فلسطين. ووجب التنويه هنا إلى أن هذه المساندة لم تكن بسبب تواجد يهود في الحركة الشيوعية – مثلما كتب البعض – لكن بسبب قرار الاتحاد السوفياتي. وفي 1947، لا يمكن تصوّر أن تقوم أي منظمة شيوعية بتبني موقف يخالف موقف الحزب الشيوعي السوفياتي. كذلك، كان الشيوعيون مقتنعين بأن الكفاح الحقيقي ضد الإمبريالية يجب أن يتم خوضه في مصر، وأن التدخل العسكري المصري في حرب 48 كان بالأساس فرصة بالنسبة إلى الملك فاروق لصرف انتباه الشعب عن كفاحه ضد البريطانيين – وهذا صحيح. وقد اتهم الملك الشيوعيين بـ“الصهيونية”، رُغم مقاومتهم لهذه العقيدة، في حين تركت السلطات الحركة الصهيونية تواصل نشاطها بصفة قانونية في مصر خلال الثلاثينيات وحتى سنة 1948!

اعتقال معظم كوادر الحركة الشيوعية مكّن ألبير من لعب دور مهم في الجهاز الحزبي، رُغم أن عمره لم يكن يتجاوز آنذاك 18 سنة. كانت أوقاته مليئة، إذ كان يباشر دراسته في الجامعة صباحًا، ويشتغل بعد الظهر في متجر أبيه – New London House – الذي كان يبيع مستلزمات رياضية، والذي كان يعدّ من ضمن زبائنه عناصر من الجيش وحتى من قيادات الإخوان المسلمين، رُغم كون صاحب المحلّ يهوديًّا. أما في المساء، فكان ألبير يأخذ معه في كل مرّة، على متن سيارته، اثنين من قادة الحركة الشيوعية ممن نجوا من المداهمات. كان يمكنهما الالتقاء فقط في هذه الظروف المحفوفة بالمخاطر، وكان ألبير يقود سيارته طوال الليل، ويُكمل تدريبه السياسي من خلال الاستماع إلى نقاشاتهم.

مع وصول حزب “الوفد” إلى السلطة في 1950، خفّ القمع. شارك الشيوعيون في الكفاح المسلّح ضد الجيش البريطاني في قناة السويس، وعملوا على تنظيم الطبقة العاملة وتطوير الاتصالات مع الضباط الذين تأثروا جدًّا بالهزيمة ضد إسرائيل، والتي كانوا ينسبونها إلى الملك فاروق. رُغم ذلك، وفي نفس تلك السنة، تم إسقاط الجنسية المصرية عن هنري كوريال – الذي كان القائد الأساسي لأهم منظمة شيوعية، “حدتو” (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) - وتمّ ترحيله قسراً إلى إيطاليا. وعندما قال هنري للشرطة أن الحكومة تغيّرت مع وصول “الوفد” لسدّة الحكم، كانت الإجابة: “الحكومة آه، مش الشرطة”. فعلا، كل السلطات المتعاقبة، من الملك حتى مختلف الرؤساء، استعملت أجهزة الشرطة السياسية المعادية للشيوعيين والتي أنشأها البريطانيون. فعلاً، وقبل أن تصبح ممارسة وطنية، كان البريطانيون أول من تبنّى إسقاط الجنسية كوسيلة قمع ضد “العناصر التحريضية” – وكانوا غالبًا من اليونانيين أو الأرمن اليهود -، كما أظهرت ذلك أبحاث ريم نجيب4.

الضباط الأحرار والرفاق

في 23 يوليو/تموز 1952، انقلب “الضباط الأحرار” على الملك فاروق، ذلك الحاكم المكروه والفاسد، وأعلنوا بعد سنة قيام الجمهورية. ساندتهم “حدتو”، لكن العلاقات بين المنظمتين ظلّت متضاربة، كما تدلّ على ذلك هذه الحادثة التي يرويها ألبير. فمطبعة “حدتو” هي الي كانت تطبع – بطريقة سرّية - مناشير “الضباط الأحرار” بداية الخمسينيات. أغلب تلك المناشير كان حول مصر، لكن بعضها كان يندّد كذلك بالحرب الأمريكية على كوريا، وهو أمر نادر في تلك الفترة خارج المعسكر الشيوعي. رُغم ذلك، قامت الشرطة السياسية بحجز المطبعة في أغسطس/آب 1952 ومصادرة الآلات. وكان من بين الموقوفين أرمني، كان مسؤولاً على تسليم المناشير لأحد عناصر “الضباط الأحرار”. وقد اكتشف وهو في السجن، من خلال الصور التي كانت تُنشر في الجرائد، أن الضابط الذي كان يتواصل معه لم يكن سوى.. عبد الناصر نفسه! وبعد مصادرة آلة الطباعة، وضعتها السلطة المصرية.. في متحف الثورة، دون أن تذكر أنها كانت للشيوعيين.

بالنسبة لـ“حدتو”، كان لا بدّ من مساندة “الضباط الأحرار” لأنهم كانوا وطنيّين ومناهضين للإمبريالية. كما كانوا يعدّون في صفوفهم بعض الشيوعيين – ذلك أن جميع التيارات كانت موجودة، سيما الإخوان. لكن تم التراجع عن هذه المساندة الأوليّة بعد حدث مهم لعب دورًا سلبيًّا جدًّا، وهو الحكم بالإعدام على عاملين اثنين إثر إضراب بمصنع في كفر الدوار في أغسطس/آب 1952.

الأهم من ذلك كان موقف الحركة الشيوعية الدولية. إذ لمّا وصل الضباط الأحرار إلى الحكم، كان جوزيف ستالين لا يزال على قيد الحياة، وكانت نظرة الاتحاد السوفياتي للعالم ثنائية بحتة. وبالنسبة للشرق المتوسط، يمكن اختزال هذه النظرة في فكرة أن المنطقة كانت محل صراع بين الاستعمار البريطاني “القديم” و“الإمبريالية” الأمريكية “الجديدة”. وكان الاتحاد السوفياتي – المتوجّس عادة أمام الانقلابات العسكريّة - يرى وراء عبد الناصر ظلّ الولايات المتحّدة الأمريكية.

كذلك، كان عبد الناصر متوجّسًا من كل تنظيم شعبي مستقلّ، ومن كل حركة خارجة عن سيطرته. وهذه إحدى مفارقات الفكر الناصري التي أودت به. فعبد الناصر تبنّى جميع شعارات وأهداف الحركة الشعبية منذ عشرين عامًا، مثل الاستقلال الوطني الحقيقي، والإصلاح الزراعي، وحقوق العمال والنساء، إلخ. لكنه وفي نفس الوقت، سيطر بطريقة سلطوية على جميع الحركات الي نادت بهذه التغييرات، ومنها الحركة الشيوعية. هذا الخيار أدّى إلى فشل الحركة الناصرية، وفشل الحركة الشيوعية الي انحلّت سنة 1965 والتحقت بالاشتراك الاتحادي العربي. انضمت الحركة للتنظيم الطليعي الذي كان من المفروض أن يضمّ أكثر العناصر وعيًا لتعميق الإصلاحات. لكن تصوّره كان بيروقراطيًا، وكان تحت سيطرة الأجهزة الأمنية، ما منع حدوث أي تعبئة حقيقية أمام وصول السادات للرئاسة سنة 1970، أو وجود أي معارضة ناجعة لسياسة الانفتاح.

تجربة المعسكرات

حاول الشيوعيون إنشاء جبهة معارضة واسعة، بما في ذلك مع الوفد والإخوان المسلمين، ضد ما وصفوه بالديكتاتورية، لكن دون نجاح يُذكر. وفي يناير/كانون الثاني 1953، أُطلقت موجة من الاعتقالات التي سحقتهم بشكل شبه كامل. واعتُقل ألبير.

يخصّص ألبير جزءًا كبيرًا من كتابه لهذه الفترة، وهي فترة مأساوية – فهو أمر مأساوي أن يُحرم أحدهم من أهله وأقاربه فقط لأنه كان يدافع عن أفكاره السياسية. لكنه، وفي نفس الوقت، يصف تلك الفترة بأنها أجمل فترة في حياته، لأنه تعرّف فيها بطريقة أفضل على مصر وعلى المصريين “الغلابة”، ووجد نفسه مع أشخاص عاديين، حرّاس و“حراميّة”، ومناضلين ومجرمين.

اكتشف ألبير خلال تلك الفترة أسوأ وجه لـ“طبيعة الإنسان”، لكنّه شهد أيضًا لحظات تضامن رائعة، تلك اللحظات التي تمنح الشخص القدرة على المقاومة، والتنظّم، ومواصلة العيش رغم المعاملات القاسية والتعذيب، وفكّ العزلة.

في المعسكرات، نظّم الشيوعيون جامعة شعبية. وكان هناك حتى قسم لمحو الأمية، بشرط وحيد، وهو أن يكون لكلّ سجين ورقة وقلم. وكان حرّاس السجن وسجناء الرأي العام يأتون لتعلّم القراءة والكتابة، ومنهم حتى من التحق فيما بعد بالمدارس الابتدائية والثانوية.

أهالي السجناء هم من جعلوا هذه المقاومة ممكنة. فبفضل المال الذي كان هنري كوريال ومجموعته من المغتربين في فرنسا يجمعونه، كان الأهالي يرسلون إلى السجناء – علنًا أو بطريقة سرّية – ما تيسّر من الغذاء والكتب والصحف. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، خلال أحد آخر لقاءاتي بألبير في القاهرة، حدّثني الأخير عن الدور المركزي الذي لعبته أمي “روث” كجهة اتصال لتمرير هذه الأموال. وكان الأمر يثير استياء الشرطة التي لم تتمكّن أبدًا من إثبات مسؤوليتها.

من أهم عمليّات “التسريب” التي حصلت إدخال جهاز راديو للسجن، وهكذا تمكّن السجناء من متابعة الأخبار والاستماع لخطاب التأميم لعبد الناصر في 26 يوليو/تموز 1956. وقد سانده الشيوعيون في ذلك، ولعب المناضلون دوراً في المقاومة ضد العدوان الثلاثي في بورسعيد. أُفرج عن بعضهم بعد تلك الأحداث، لكن آخرين، مثل ألبير، قضّوا ست سنوات أخرى في السجن. وقد استخلص درساً من هذه التجربة: لا شيء يبرّر إزالة دولة القانون، والوصاية على القضاء، والسجن في ظروف لا إنسانية، والتعذيب.

يهودي ومصري

استهوت الصهيونية ألبير لفترة ما، حتى أنه ذهب مرتين لفلسطين قبل إنشاء دولة إسرائيل. لكنه سرعان ما أدرك أن مصر هي وطنه الوحيد، أرض ميلاده التي اختارها كذلك أرضاً لوفاته. كان مصريّاً، رغم الداء والأعداء. التحق ألبير بالرابطة اليهودية ضد الصهيونية ولم يتجاوز عمره 15 سنة. خلافًا لبقية يهود العالم العربي، كان اليهود المصريون من أصول مختلفة، منهم من استقر في مصر منذ قرون، ومنهم من استقر في القرن 19 كمواطنين عثمانيين. نادراً ما كانت فلسطين حلماً بالنسبة إليهم. فما عدا أقلية صهيونية، وكما كتب جيل بيرو في كتابه حول هنري كوريال (Gilles Perrault, Un homme d’exception) “لم يكن أي منهم يشعر بالحاجة إلى وجود دولة يهودية أو إلى ترتيل عبارة ’السنة المقبلة في أورشليم’، والحال أنه يكفي ركوب قطار الساعة 9 و45 دقيقة للذهاب هناك”. رغم ذلك، جرفت موجة التاريخ اليهودَ معها، وتسارعت الموجة مع إنشاء دولة إسرائيل.

لم يؤدثّر وصول “الضباط الأحرار” إلى السلطة على يهود مصر، لكن اشتداد الصراع مع إسرائيل انطلاقًا من 1954-1955 جعلهم في وضع غير مستقر. صحيح أن إسرائيل نفسها استعملت بعض اليهود كـ“طابور خامس”، مثلما حصل مع “فضيحة لافون”: ففي يوليو/تموز 1954، نظّم الموساد عمليات ضد المصالح الأمريكية والبريطانية في مصر، بهدف أن يتم إسناد العمليات لأنصار الحركة الوطنية وإفساد علاقات البلدين مع مصر. وقد تم تفكيك الشبكة وإعدام بعض أعضائها وسجن آخرين.

في هذه الأجواء، أثارت العديد من العناصر في أجهزة الدولة ووسائل الإعلام الشكوك حول اليهود، بل وانزلقت نحو معاداة السامية. كما جدّت اعتقالات عشوائية لعديد اليهود، وتمت مصادرة أملاكهم وترحيلهم من البلاد، بتهمة أنهم “صهاينة”. يروي ألبير متحدّثا على أحد رفاقه، وهو يهودي أشكنازي يُدعى إسرائيل فرونكين: “علمتُ فيما بعد أن رفاقه أقنعوه بمغادرة مصر، بحجّة أنه لم يكن هناك مكان لليهود في الحركة الشيوعية المصرية. هكذا واجهتُ للمرة الأولى تصوّراً للشيوعية لم أعهَده. لسوء الحظ، كانت تلك المرة الأولى وليست الأخيرة”.

في المقابل، يروي ألبير آرييه حادثة معبّرة جرت في المعسكر: “تلقّى أحد شباب فضيحة لافون ضربة سوط في وجهه من عند أحد الحراس، وكان رجلاً غاشماً يُدعى عبد اللطيف رشدي. طلب الفلسطينيون (كان هناك العديد من فلسطينيي غزة في المعسكرات، سيما شيوعيين) من جميع السجناء السياسيين أن يتضامنوا مع المعتقلين”الصهاينة“. من سخرية الأقدار أن حسن الجبالي – وهو القيادي الشيوعي الفلسطيني الذي دافع عنه – قُتل بعدها بسنوات في غزة على يد الإسرائيليين”. كان ألبير يعتقد أن الجميع يستحق معاملة إنسانية، مهما كانت أفكاره.

الحياة بعد السجن

ليس من السهل أن يعيد أحدهم بناء حياته بعد السجن. فقد تغيّر البلد، ورحل الأصدقاء، وتفرّق رفاق السجون. لكن ألبير نجح في إعادة بناء حياته، والاعتماد على “خبرته الزراعية” لتطوير شركة لتصدير الخضروات. كما تزوّج وأنجب طفلين، سامي وهاني. وقد كرّس نهاية حياته لجمعية “La Goutte de lait” (قطرة الحليب)، التي تم إنشاؤها في بداية القرن العشرين لمساعدة الأطفال اليهود المصريين الفقراء (لا سيما من خلال تقديم الحليب لهم في فطور الصباح). كما عمل من أجل الحفاظ على التراث اليهودي، ذلك التراث الذي نُسي ظلمًا، إذ كان يعتقد أنه جزء لا يتجزأ من التاريخ المصري. بالنسبة لأي صحفي يصل إلى القاهرة، وخاصة بالنسبة للفرنسيين، كانت شقة ألبير في “وسط البلد”، والمطلّة على ميدان التحرير، محطة أساسية للإحاطة بما يجري في البلاد. وكان “تيتي” يتقاسم دور المرشد هذا مع صديقه المحامي اليهودي والشيوعي شحاتة هارون. من ناحيتي، كنتُ في كل رحلة من رحلاتي أذهب إلى منزله وأتجاذب معه أطراف الحديث عن مصر وعن أوروبا، أو حول الأوضاع في فيتنام أو بولندا، أو حول تاريخ فرنسا الذي كان يعرفه أكثر من أي شخص آخر. والويل لمحاوره لو نسي هذه الحادثة أو تلك من تاريخ الجمهورية الثالثة! ابتعد ألبير عن الشيوعيين في الثمانينات، إذ كان يرى أنهم يعيشون خارج تغيّرات العالم، مقتنعين بأن انهيار الاتحاد لم يكن نتيجة فشل هذه التجربة، بل نتيجة “مؤامرة صهيونية”. لكنه بقي رغم كل شيء وفيًّا لقناعاته. وقد تبنّى في كتابه تلك الكلمات التي جاءت على لسان صديقته كلار هزان، التي وُلدت كذلك في مصر لكنها أُجبرت على المنفى، والتي قالت على فراش الموت:

كانت لنا آمال وأحلام كبيرة بعالم أفضل تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وحتى إن لم نستطع تحقيق تلك الأحلام، فربما يأتي آخرون بعدنا ينجحون في تحقيق ما فشلنا نحن فيه.

1رجل سياسة فرنسي وأحد الوجوه الأساسية للثورة الفرنسية.

2رجل سياسة فرنسي، من رواد الحركة الاشتراكية.

3معركة مفصلية خلال الحرب العالمية الثانية بين جيش الاتحاد السوفياتي وجيش الرايخ الثالث، جرت أحداثها بين 11 يوليو/تموز 1942 و2 فبراير/شباط 1943.

4ريم نجيب، “The Ideological Deportation of Foreigners and “Local Subjects of Foreign Extraction” in Interwar Egypt” (New Texts Out Now) », Arab Studies Journal, Vol. XXVIII, No. 2, 2020.