سينما هيني سرور، ضدّ إرهاب الجماليات وذئاب المال

موفّى شهر أبريل/نيسان، نظمّت المكتبة السينمائية التونسية برمجة خاصة تعود على تجربة المخرجة السينمائية اللبنانية هيني سرور من خلال عرض جميع أفلامها وبحضورها. وقفة على أهم مراحل حياتها.

هيمي سرور، بيروت 2018.
أنور عمرو/وكالة فرانس برس.

عشرة، عشرون، خمسون، مائة، مائة وخمسون… خمسمائة… ثمانمائة ثمانمائة كيلومتر مشيا على الأقدام للوصول إلى ظفار… إلى ثورة ظفار.

ذهبت هيني سرور إلى ظفار، باحثة عن المعنى الحقيقيّ للثورة كما تراها هي، وكما يجب عليها أن تكون. ثورة ضدّ الغطرسة والإمبريالية، تحمل في استراتيجيات معاركها حربا من أجل المرأة ومعها. لن تكتمل بالنسبة لهيني سرور أيّ ثورة تهدف إلى تحرير شعب دون أن تلتحم بها غاية تحرير المرأة، ليس كموضوع، بل كشريك. حملت هناك النّساء السّلاح وخُضن المعارك بدل انتظار المحاربين في المنازل والخيمات كما في الحروب التي رمنسها التاريخ.

ذهبت إلى هناك صحبة فريقها، حاملة معها الكاميرا والكثير من الخيبات، بما فيها نكسة حزيران وخطابات اليسار العربي الموغلة في العنصرية والمتمثّلة أساسا في مقولات الحكومة المصرية إثر خسارة يونيو/حزيران 1967 وخطاب صوت العرب الذي اعتبرته معاديا للسامية. هي المنتمية إلى الديانة اليهودية ومتبنية الفكر الأممي مدافعة عن القضية الفلسطينية ومعادية للكيان المحتل.

سئمت سرور المقولات المدعية للنسوية في ظاهرها والغارقة في الذكورية في طياتها باعتبار أغلب قياديّي اليسار العربي أنّ تحرير المرأة ليس أولوية ضمن برامج الإصلاح السياسي والاجتماعيّ الذين كانوا مقدمين عليه.

ذهبت إلى هناك مبدؤها: “من ليس معنا فهو ضدّنا” وفلسفتها: “الإيديولوجيا تحكم الكاميرا”1

“السينما المباشرة” في خدمة الثورة

من ضجيج بيروت الستينيات وصخبها الفكريّ والسياسيّ، تكوّنت قناعات هيني سرور التي عاصرت كثافة الأحداث والتحوّلات السياسية التي شهدتها المنطقة في تلك الفترة. بيروت التي اشتعلت كجمرة في أذهان مثقفيها ومبدعيها وسكّانها، وكبركان من الرهانات الجيوسياسية لأعدائها والطّامعين فيها، صنعت من هيني سرور شعلة من التمرد والتطرّف في الحريّة والدّفاع عنها، لا تحرق فقط الأعداء، بل تأتي على المحايدين والمدّعين.

على هذه الأرض، ذات التنوّع النسبيّ التي تسمى بيروت، كانت لي القدرة على استيعاب الكم الهائل من الأفكار التي تعجّ بهذه العاصمة. هكذا، وعلى عكس غالبية أخواتي العربيات، لست مدينة بقناعاتي السياسية والفنية لأخ أكبر أو أب أو زوج أو حبيب2.

وُلدت في بيروت سنة 1945 حيث درست علم الاجتماع في المدرسة العليا للآداب، ثم انتقلت إلى فرنسا لدراسة “علوم الأعراق” في جامعة السربون. كانت تشتغل على الدكتوراه وتعمل في نفس الوقت كصحفية حين اكتشفت الجبهة الشعبية لتحرير عمان وسمعت من خلالها عن أحداث ظفار في جنوب عمان.

لم تكن حينها هيني سرور الباحثة والصحفيّة الماركسية فكرا ووجوديّة فقط، بل كانت تلميذة جان روش، حيث تمكّنت من مواكبة درس أسبوعيّ حول “السينما المباشرة” (cinéma vérité) تحت إشراف صانع “الأنثروبولوجيا البصرية” ورائد “سينما الحقيقة” التي ستتّخذ محلّها في جانب من أعمالها.

خلال ستّين دقيقة، وفي مشاهد تتراوح بين الأبيض والأسود والألوان، تقدّم هيني سرور للتاريخ الوثيقة الوحيدة التي تشهد عمّا حصل هناك، خاصة في ظلّ التعتيم الممنهج على نضالات الجبهة الشعبية في إقليم ظفار والتي امتدت على تسع سنوات.

أخرجت من تحت القصف بظفار فيلم “ساعة التحرير دقّت” سنة 1974، لتكون بذلك من أوائل النساء المخرجات في العالم العربي، وأوّل امرأة عربيّة تشارك في مسابقة مهرجان كان السينمائي. الموضوع ثورة ظفار، لكنّ الأبعاد والرهانات مكثّفة وكثيرة، حيث تختصر منطقة الخليج - حيث عُمان - في ذلك الحين ثلثي احتياطيات النفط في العالم وتزود ربع إنتاجه، وهو ما جعل منها محل طمع القوى الإمبريالية منذ عقود، انجذبت سرور لهذه الوضعية الشائكة خاصة مع وجود تنظيم كان الأول من نوعه في التفكير في قضايا المرأة كجزء لا يتجزأ من المعركة ضدّ الإمبريالية، واعتبارها أولويّة لا مطيّة.

التقنية في خدمة المضمون

بلقطات ثابتة ملونة، تقدّم هيني سرور في بداية الفيلم ملخّصا للوضع العام في المنطقة المحررة ظفار، يصاحبه صوت أغنية بنفس عنوان الفيلم يقول مطلعها: “ساعة التحرير دقت برّه يا استعمار… سوف يتحدى وجودك شعبنا الجبّار”.

تعلن المخرجة منذ اللحظة الأولى عن خطّها التحريريّ وهويّة عملها، نحن أمام فيلم نضاليّ مضمونا وشكلا. تعبّر سرور عن انحيازها المطلق للثورة مضمونا من خلال نصّ الصوت المصاحب المنتصر للثوّار والجبهة، وتتّحذ من تقنية المونتاج شكلا وسيلة لتأكيد الموقف وتمريره إدراكيّا في ذهن المشاهد نحو تحليل وفهم سياسيّين لما يحدث. خلال القسم الأوّل، تقدّم المخرجة بالتفصيل “جرائم الإمبريالية” في عمان، وتبيّن دور “حلفائها المحليّين” على مستوى الحكم. ثم تستفيض في القسم الثاني من الفيلم في نقل وقائع الحرب ومعاركها، وتثري معطياتها بوثائق تلفزيونية تبيّن سطوة البريطانيين في الخليج العربي. تلعب تقنية تصحيح الألوان دورا جوهريّا في الفيلم، حيث تخصّص هيني سرور الأبيض والأسود في لقطات الحديث عن جرائم العدو، وتضفي الألوان على نضالات الجبهة، وتقول في هذا الشأن: “أعتقد أنه من الخطورة سياسيًا عدم التمييز بين قوى القمع وقوى التحرير من حيث الصورة والصوت”3.

على الفيلم أن يشبه موضوعه، هكذا تؤمن هيني سرور التي لا تقبل فكرة السّهل والمتاح، وتحفر بكلتا يديها في عمق كلّ تفصيل من تفاصيل صناعة الفيلم حتى تنحت منه شكلا محاكيا للثوار الذين عملت معهم ومن أجلهم، حيث قامت بدمج “التقليد الشفهي العربي” في عملية معالجة الصوت لتشبه تماما ثقافة الشعب وطريقته في النطق والكلام.

اتخذ الفيلم ما يقارب العشر سنوات من عمر هيني سرور، فإثر صدوره في 1974 سنين بعد الانتهاء من تصويره، تم العمل على ترميمه وإعادة عرضه في نسخة رقمية جالت بدورها العديد من المهرجانات الدولية وضخّت الدماء مجدّدا في شرايين الفيلم، وقد عرض مؤخرا في تونس بفضل برمجة خاصة من تنظيم المكتبة السينمائية التونسية تعود على تجربتها السينمائية من خلال عرض جميع أفلامها وبحضورها، وقد كان ذلك بين 25 و29 أبريل/نيسان 2023.

حيث يلتحم السياسي بالشخصي

“نعم أشعر أنّني مهدّدة، لأنّني أعرف أنّ قمع النّساء هو الأقدم على مرّ التاريخ. لذلك فهو الأكثر تجذّرا”4.

لهذا السبب اختارت هيني سرور السينما التي أحبتها بقدر الرسم والباليه، لكنّها شكلت بالنسبة لها وسيلة التعبير الوحيدة التي لها أن تقول كل شيء، بما هي فنّ متكامل يلتحم به السياسيّ والشخصيّ. الصورة لغة وفعل سياسي بالأساس، وفي التحامها مع الخطاب الشفويّ المباشر، لها أن تختصر العالم وتعيد تشكيله كما تشاء. لم تشأ سرور إعادة تشكيل الواقع بقدر ما أرادت نقله بما يعرّي النقاب الغليظ الذي يسجيه وبما من أن شأنه أن يضفي رقما لمعادلة البروباغاندا الإمبريالية ليعيد المتفرّج حساباته حول ما يرى وما ينقل إبيه بشكل مكثّف حدّ الدمغجة والتوجيه.

في تجربة هيني سرور كان السينما فعلا نسويّا كذلك، فعملها كمخرجة، يعطيها السلطة المطلقة للتفكير والممارسة حيث لا مجال للوصاية و للإملاءات الذكورية و الميزوجينية ولا مكان للمدافعين عن ترتيب الأولويات لتكون قضية تحرّر المرأة في آخر السلم إن وجدت.

اكتشفت هيني سرور الفكر الماركسي في سن السادسة عشر بفضل أستاذ الأدب الفرنسيّ بالمدرسة التي كانت ترتادها في بيروت. كانت تفضّل خفية انجلس، لكنّها احتفظت بذلك لنفسها كما احتفظت برغبتها في صناعة الأفلام. في كلّ فرد من أفراد عائلتها فنّان دفين أو مدفون، لم يكن والدها يقبل لقب الفنّان رغم أنّ أنه كان يغنّي بشكل مذهل ولا والدتها رغم موهبتها في الرسم. وفي هذا الجوّ من “الكبت الذاتي”، استطاعت أن تكتشف ما في عائلتها من رهافة وحساسيّة وما في قلبها أيضا من ميل نحو التفرّد في التعبير والخلق.

أنقذها التعليم في فرنسا من الزواج المبكّر وحياة الخضوع التي كانت لتعيشها لو بقيت في بيروت، لكنّ التزامها المطلق ببلدها وبواقع النساء فيه، جعلها تعود ف يكلّ مرّة لخوض الحرب من جديد، وهذه المرة مع النساء ومن أجلهنّ.

في 1984، وبعد معارك ضارية مع المموّلين والمنتجين، قدّمت سرور للعالم وثيقة بغاية الأهمية الجمالية والسياسية “ليلى والذئاب”. “هو قصّة لبنان المنهار بسبب العنف الطائفيّ الذي يعيشه تتدفق صوره بحثًا عن الهوية السياسية والتاريخية للمرأة في الشرق الأوسط”5.

كما حملت هيني سرور خيبة اليسار العربي إلى ظفار لترى بعينها أن سببا للمقاومة يوجد في مكان ما وأخرجت “ساعة التحرير دقت”، حملت في “ليلى والذئاب” عار “صبرا وشاتيلا” الذي يلاحق لبنان الذي تشظّى بسكاكين الطائفية والحرب الأهلية. صنعت فيلما في “لحظة يعدّ فيها مجرّد البقاء على قيد الحياة انتصارا” وبحثت فيه عن المرأة في صورها الكثيرة ومعناها الأوحد: القوة والجمال6. .

صورة من “ليلى والذئاب”، 1984.

طوال الفيلم، تتجول امرأة عربية في مناظر لبنان وفلسطين بين الواقع والخيال، نكتشف معها تاريخًا مخفيًا للنضال، ودلائل عن قوة المرأة العربية عبر التاريخ. حفرت هيني سرور من خلال “ليلى والذئاب” في الذاكرة الجماعية للنساء، وتجوّلت بنا عبر العصور والأنظمة القديمة والراهنة في إعادة كتابة لتاريخ المرأة “من وجهة نظر أنثوية ونسوية”.

“الآنسة سرور، أنت كاذبة. تقولين إنك صنعت هذا الفيلم قبل 30 عامًا في أرض الزيتون. هذا غير صحيح، صورته أمس على شاطئ طنجة” هكذا افتتح النقاش خلال عرض للفيلم في المكتبة السينمائية بطنجة في أبريل/نيسان 2018 إثر عقود من صدوره. فيلم طلائعيّ، كتب في فترة لم تزل تتمتع بها المرأة اللبنانية بحريتها الجسدية والفكريّة، لكنّه يصوّر مأساة الرجعية القادمة ووقعها القاتل على نساء البلد.

منحازة حد النخاع

تقول هيني سرور أنّ فيلم “ساعة التحرير دقت” لم يكن ليكتمل لولا مساعدة الطاهر شريعة، المدافع الشرس عن السينما الوطنية والمناضلة في تونس والعالم ومؤسس أول مهرجان سينما أفريقي وعربي، أيام قرطاج السنيمائية. كما كان شريعة يقف وراء إنجازها لسيناريو “ليلى والذئاب” في فترة ترؤسه للوكالة التعاون الثقافي والفني. تعترف السينمائية مباشرة بفضل الطاهر شريعة، ومن خلال أفلامها بفضل الخيبات على مسيرتها.

عاشت على أكثر من أرض، حملت الجنسية اللبنانية والبريطانية، ورفضت قطعا زيارة والديها في الكيان المحتل بعد أن انتقلا للعيش به خوفا على حياتهما خلال الحرب الطائفية بلبنان.

منحازة حد النخاع، لم تصنع الكثير من الأفلام، لكنّها استطاعت أن تقاسم العالم قناعتها بالتحرّر، والتزامها بخط راديكاليّ في تحقيق الثورة. لم تبحث هيني سرور في مسيرتها عن مجد بقدر ما سعت لتخليد أمجاد الآخرين. كانت ومن معها الفريق الوحيد الذي استطاع الوصول إلى الخط الأحمر بظفار ونقل يوميات الثورة في “ساعة التحرير دقّت”، وهي المخرجة الوحيدة التي قامت بتصوير حياة الشيخ إمام في منزله الشخصي وخلال حفلاته الممنوعة في أوائل التسعينات. بُترت الكثير من أحلامها بسبب سلطة المال في عالم السينما، ولم تتمكن من إخراج فيلم “الشيخ الذي يغني” إلى العالم واقتصر الفيلم على مونتاج لمقاطع ممّا قامت بتصويره عرضت في شكل فيلم قصير. أجهضت شركات الإنتاج حلمها في القيام بفيلم عن طنيوس شاهين زعيم الفلاحين الموارنة في جبل لبنان الذي قاد ثورة الفلاحين في منطقة كسروان ضد الإقطاعيين بين 1858 و1860.

خلال مسيرة صعبة تخوض فيها المخرجة حروبا على جميع الجبهات، بدأت مع العائلة الصغيرة الرافضة للفن كمهنة ونمط عيش، وجزءا من المجموعة اليهودية التي رأت في نضالها شذوذا وتغريدا خارج السرب، وبلد وعالم ثالث أهدرا حلمها في وطن عادل للنساء. وليدة الحروب ورائدتها، تبقى هيني سرور أحد عناوين السينما المناضلة ضد إرهابيّي الجماليات النظيفة وذئاب المال.

1هيني سرور، “امرأة، عربية.. ومخرجة” « Femme, arabe… et cinéaste » dans Paroles… elles tournent !, Musidora, Éditions des Femmes, 1976..

2نفس المصدر.

3« Heiny Srour », interview de Guy Hennebelle et Monique Martineau Hennebelle in Cahier Out of the Shadows, Courtisane festival, 2020.

4هيني سرور، "امرأة، عربية.. ومخرجة « Femme, arabe… et cinéaste » dans Paroles… elles tournent !, Musidora, Éditions des Femmes, 1976..

5« Heiny Srour », interview de Guy Hennebelle et Monique Martineau Hennebelle in Cahier Out of the Shadows, Courtisane festival, 2020.

6« Before the Wolves », interview de John Akomfrah, in Out of the Shadows, Courtisane Festival, 2020.