جنوب فرنسا، ملجأ لأرشيف الأفلام الفلسطينية

منذ سنة تقريبا، صارت المكتبة السينمائية بمدينة تولوز بجنوب غرب فرنسا تحتفظ بنسخ رقمية من أعمال سينمائية فلسطينية تم تصوير جلها في سبعينيات القرن العشرين من قبل مُخرجين مناضلين. تُعتبر هذه الأفلام كنوزاً من التراث الثقافي والسياسي الممهّد للعودة إلى فلسطين، وقد تم تجميعها من قبل المخرجة السينمائية خديجة حباشنة.

في الصورة مجموعة من الأشخاص يجلسون في قاعة، ومن بينهم طفلان يجلسان أمام رجل يرتدي كوفية. يبدو أن الجميع يستمع أو يشاهد شيئًا ما في الفعالية. الأطفال يظهرون تفاعلهم بالتصفيق أو الاستمتاع بالعرض. الرجال في الصورة يبدون مهتمين ومسترخين. الجو يبدو احتفاليًا أو حيويًا.
بيروت، 1979. مشهد من الفيلم الوثائقي “أطفال بلا طفولة” لخديجة حباشنة، يظهر فيه ياسر عرفات إلى جوار أبو إياد.

طفلان يلعبان الكجة في غبار مخيم للاجئين، مقاتل يشق طريقه في أحد الأزقة وبيده رشاش، امرأة مشغولة في المطبخ، خطوات بطيئة لرجل عجوز يتفقد حقله من أشجار الزيتون، نظرات تَحَدّ يرسلها شاب يرمق جنوداً من الجيش الإسرائيلي، مثقف يحلّل آخر المفاوضات الدبلوماسية..

مشاهد بالأبيض والأسود، أغلبها طاله التلف. شريط بصوت مشوش أو غير واضح في بعض الأحيان. لكنها صور ذات أهمية كبرى، فهي أرشيف سينمائي يحكي قصة فلسطين من الداخل، بين الاحتلال والصراع، من نهاية الستينيات إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي. جزء من هذا الأرشيف لم يُنشر من قبل، وبعضه غير معروف بما يكفي، وكثير منه في مأمن بالمكتبة السينمائية بتولوز منذ سبتمبر/أيلول 2023.

من البندقية إلى الكاميرا

تمت رقمنة ما مجموعه 34 فيلمًا – باعتبار ما تم ترميمه -، بما في ذلك الأفلام القصيرة والمتوسطة والطويلة. وهي أفلام وثائقية حصراً، صوّرها مخرجون فلسطينيون. في آذار/مارس 2024، تمكّن الجمهور من اكتشاف جزء من هذه الثروة خلال أمسيتين، في 8 و9 آذار/مارس، بعنوان “أرشيف في المنفى”، كجزء من الدورة العاشرة لمهرجان لسينما الفلسطينية في تولوز. وفي كلتا الأمسيتين، وأمام جمهور غفير في كل مرة، كانت المخرجة الفلسطينية خديجة حباشنة حاضرة، والتي يعود إليها فضل إخراج هذه الأفلام إلى النور، بعد أن أنفقت العشرين سنة الماضية في بحث وعمل متواصلين لتجميع وحفظ تلك المادة.

تبدأ القصة في صيف 1982. حيث غادرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والفدائيون الفلسطينيون المحاصَرون من قبل الجيش الإسرائيلي بيروت على متن قارب، تحت حماية قوة متعددة الجنسيات. غادروا وقد تركوا كنزًا صغيرًا في العاصمة اللبنانية: مكتبة أفلام تحتوي على أشرطة من إنتاج فلسطينيين وفلسطينيات، أنتجتها أو شاركت في إنتاجها مختلف تشكيلات منظمة التحرير الفلسطينية (خاصة حركة فتح، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وكذلك صانعو أفلام أجانب من أصدقاء الثورة الفلسطينية. كما تحتوي المكتبة أيضًا على أرشيف كبير من المواد السينمائية غير المكتملة والتي صوّرها مخرجون فلسطينيون وأجانب منذ عام 1967. كانت خديجة حباشنة ضمن القافلة التي غادرت لبنان. تسترجع المخرجة ذكرياتها في حوار مع فريق “أوريان 21” وهي بعمّان:

كان بحوزتنا ما بين 85 و90 فيلماً في المكتبة السينمائية ببيروت، والكثير من اللقطات التي توثق نشاطات حركة المقاومة: مواجهة مع الصهاينة، الحياة اليومية وأوضاع الناس في المخيمات، مظاهرات، اعتصامات، نشاطات اجتماعية وثقافية، دورات تدريبية على السلاح، التدريس في المخيمات، وما إلى ذلك. كل أنشطة الثورة.. ولكن كان هناك الكثير من الوثائق المتراكمة، ولم نتمكن من أخذها معنا عندما ركبنا القارب.

تم إخراج أولى الأفلام في عام 1967 على يد مخرجين فلسطينيين من بينهم مصطفى أبو علي، زوج خديجة حباشنة، وهاني جوهرية وسلافة جاد الله. وفي العام التالي في الأردن، كان هؤلاء وراء تأسيس “وحدة أفلام فلسطين”، وهي هيكل تابع لحركة فتح، والتي أصبحت في عام 1970 معهد السينما الفلسطينية تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية.

سواء كانت أفلامًا مكتملة أو حتى مجرد بكرات تصوير خام، فإن معهد السينما الفلسطينية يحتفظ بمواد سينمائية أخرجها وأنتجها مخرجون “عزموا على الالتزام بالخط الفلسطيني المقاوم، ويكون ذلك بالنسبة لهم عبر السينما والتصوير الفوتوغرافي”، كما يوضح هوغو دارومان، الحاصل على دكتوراه في الدراسات السينمائية والمتخصص في السينما الفلسطينية. كان توثيق النضال من أجل التحرر الوطني ونشره ودعمه مسألة سياسية ملحة بالنسبة لهم. وكانت صورهم وأفلامهم، التي غالبًا ما يكون فيها الانتقال من البندقية إلى الكاميرا ملموسًا، لتجد مكانًا في “السينما الثالثة”، التي سُميت هكذا نسبة إلى اسم الحركة السينمائية التي ظهرت في أمريكا اللاتينية خلال الستينيات.

وإلى جانب الأفلام التي أنتجتها تنظيمات مختلفة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، هناك أعمال أخرى عن فلسطين أخرجها أو شارك في إنتاجها مخرجون فيتناميون وسوفيات وكوبيون..

جل هذه الأفلام وثائقيات، “في ذلك الوقت، لم يكن بإمكاننا إنتاج أفلام روائية”، كما تشرح خديجة حباشنة، “فهي تتطلب الكثير من المال ولم يكن من السهل توزيعها في دور السينما. لذلك، قمنا بشكل أساسي بإخراج أفلام وثائقية تم عرضها في المهرجانات..” أُرسلت نسخ من هذه الأفلام إلى تمثيليات منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، وإلى رفاق الثورة في العالم العربي وأوروبا، وإلى مجموعات من الأصدقاء السينمائيين. وفي كل مكان في العالم تقريبًا، وعُرضت المشاهد في النوادي والمراكز الاجتماعية ضمن حلقات نقاش ولقاءات. وبحسب حباشنة: “في السبعينيات، كانت السينما الفلسطينية أهم السينمات النضالية في العالم”.

أرشيف سرقه الجيش الإسرائيلي

رغم الرحيل الفلسطيني في 1982، بقي أعضاء معهد السينما الفلسطينية في بيروت، وحاولوا الحفاظ على جميع الأفلام والأرشيفات الأصلية للمعهد في مأمن. لكن بعد بضع سنوات، اختفى أثر البكرات التي اختفت خلال الحرب التي لم تنتهِ إلا سنة 1990.

كشفت الباحثة الإسرائيلية رونا سيلا التي تعمل على “التاريخ المرئي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني” عن هذه الاختفاءات في مقال نُشر في 2017 بعنوان “مُصادَر في بيروت، الأرشيف المنهوب لمعهد السينما الفلسطينية وقسم الفن والثقافة”1. حيث كانت تُحفظ الأفلام في استوديو روك في بيروت، ولكنها اختفت بدءًا من سنة 1982، بينما اختفت البكرات الخامة، التي انتقلت من أحياء الفخّاني إلى الحمراء في بيروت، في عام 1986، أثناء تدهور الوضع في معسكرات اللاجئين بالعاصمة اللبنانية. هذا وكشفت نتائج أبحاث رونا “المعتمدة على مصادر متنوعة، أن عدة أفلام من معهد السينما الفلسطينية التي كانت في أستوديو روك تمت مصادرتها من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية لتكون بالتالي في يد إدارة الأرشيف العسكري الإسرائيلي”، تؤكد رونا سيلا، مُشيرة إلى أنه على العكس من ذلك لم يتم تأكيد “مصادرة” إسرائيلية - أي سرقة - “للأرشيف [السينمائي الفلسطيني]”.

بالنسبة لهوغو دارومان، فإن “الفرضية الأكثر احتمالًا، حتى لو لم تُؤكد رسميًا من قبل السلطات الإسرائيلية، هي أن إسرائيل هي التي تحتفظ حتى اليوم بهذا الأرشيف”. في الواقع، من الصعب التحقق من ذلك رغم أنه ووفقًا لموقع “الجريدة المدنية” فإن وزارة الدفاع الإسرائيلية تعترف بأن الأرشيف العسكري يحتوي على 158 فيلمًا تمت مصادرتها خلال حرب لبنان في عام 1982.

اعتباراً من سنة 2004، قررت خديجة حباشنة الشروع في البحث عن هذه الأفلام المفقودة. أراد زوجها مصطفى أبو علي، الذي كان يعيش في رام الله، وهو مخرج الفيلم الكلاسيكي “ليس لهم وجود” (1974)، في إشارة إلى العبارة التي قالتها غولدا مائير عام 1969، والتي تنفي وجود الشعب الفلسطيني، أن يعيد إنشاء مكتبة أفلام فلسطينية. وعندما توفي في سنة 2009، واصلت خديجة أعمال البحث والتجميع بنفسها. وعلى مدى أكثر من خمسة عشر عامًا، سافرت خديجة في جميع أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتبادلت العديد من الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية. وتلخص ذلك بقولها: “اتصلت بأكثر من مائة شخص، من أحزاب سياسية ومسؤولين وتمثيليات سابقة تحولت الى سفارات، ممن يُحتمل أن يكون بحوزتهم نسخ. جمعنا حوالي ستين فيلمًا، وكان لدينا من بينهم 30 فيلمًا”. في عام 2012، علمت أن الأرشيف السمعي البصري للحركة العمالية الديمقراطية (AAMOD) قد استعاد أرشيف الحزب الشيوعي الإيطالي، ومن بينها فيلم عن مجزرة ومعركة ومقاومة مخيم تل الزعتر 1976 في لبنان. في سياق البحث، ظهرت أفلام أخرى من تلك الفترة، محفوظة في برلين وتونس على وجه الخصوص، لكن الكثير من بين الأفلام التي وجدتها حباشنة، وجب إنقاذها وحفظها من جديد.

تناغماً مع المدينة الوردية

في عام 2018، تمت دعوة المخرجة للحضور في الدورة الرابعة من مهرجان السينما الفلسطينية في تولوز (والتي تُلقّب في فرنسا بـ“المدينة الوردية”) والمشاركة في جلسة نقاش حول مسألة الأرشيف. كانت تبحث حينها عن شراكات وأماكن لحفظ كل ما قامت بتجميعه. وبعد عام واحد، التقى فرانك لوريه، المدير المفوض للمكتبة السينمائية بتولوز بالمخرجة في القدس ثم في رام الله. “نحن أمام مشروع مذهل، فقد قضت جزءًا كبيرًا من حياتها في البحث عن نسخ من الأفلام، ولا يمكننا تركها وحدها في ذلك..”، كما صرح هذا الأخير.

تم افتتاحها في 1964، تحتوي المكتبة السينمائية بتولوز، ثاني أكبر مكتبة سينمائية وطنية في فرنسا بعد باريس، على واحدة من أهم مجموعات الأفلام في أوروبا، بحوالي 53 ألف نسخة من الأفلام. ويضيف فرانك لواريه: “وفي تولوز، لدينا أرشيف نضالي كبير تاريخيا”، حيث يرى أن الأفلام التي جُمعت من قبل خديجة حباشنة “تُثير اهتمامًا كبيراً” حيث يردف:

إن العمل الذي نقوم به، نحن، هو في المقام الأول عمل مؤرخي السينما. يجب أن يتم معالجة هذه الأفلام، تحليلها وعرضها للطلاب والباحثين، بقدر الإمكان. شخصيا، أصر دائمًا على أن يتم عرضها مع خبراء يعرفون تاريخ الموضوع الأصلي. فقد شارفت هذه الأفلام على الاندثار، ودورنا هو إنقاذها.

وقد تم رصد ميزانية قدرت بحوالي خمسين ألف يورو لجمعها وإحضارها إلى مدينة تولوز من عمّان ومن القاهرة (حيث لا تزال هناك سبعة أفلام متضررة للغاية بحيث لا يمكن ترميمها ورقمنتها). وستكون هناك حاجة إلى خمسة عشرة ألف يورو إضافية للمرحلة الثانية التي تتضمن توزيع وعرض الأفلام. وبالإضافة إلى المكتبة السينمائية بتولوز، تشارك أيضاً وزارة الثقافة الفلسطينية والقنصلية العامة الفرنسية في القدس ومركز جميل للفنون في دبي مختلف أطوار المشروع حيث أنه وبموجب الاتفاقية الموقعة، تتعهد المكتبة السينمائية بالجنوب الغربي بالحفاظ على أرشيف هذه الأفلام إلى أن يتوفر لفلسطين هيكل قادر على استعادتها وحفظها في ظروف جيدة سواء تعلق الأمر بالمسائل اللوجستية أو السياسية.

اكتشفت أسماء العطاونة، الصحفية الفرنسية الفلسطينية ومراسلة وكالة الأنباء الإسبانية في قطاع غزة من 1997 إلى 2000، وجود هذه الأفلام في مهرجان سينما فلسطين في شهر آذار/مارس الماضي. وبأكثر تخصيص، تمكنت من مشاهدة فيلم “مشاهد من الاحتلال في غزة”، وهو فيلم وثائقي مدته 13 دقيقة صوّره مصطفى أبو علي عام 1973، والذي يُظهر عنف الاحتلال وبأس المقاومة الفلسطينية في القطاع الذي نشأت فيه وما زالت تعيش فيه عائلتها:

خلال طفولتي، كانت الصور الوحيدة التي أشاهدها عن فلسطين هي تلك التي كانت تظهر في الأخبار، طالما كانت تأتي من منظور خارجي، من الإسرائيليين أو من الصحفيين الأجانب. أما هنا، فالفلسطينيون هم الذين قاموا بالتصوير والتوثيق. هذه صور من زمن آبائي وأجدادي، وهي تؤكد كل القصص التي انتقلت إليّ شفهيًا في العائلة. المنفى، والعنف، والدمار... كما لو أنهم كانوا يجسدون ما أخبروني به. عندما رأيتهم، كان الأمر أشبه بتجميع لعبة الصور المقطوعة (puzzle).

بالنسبة لأسماء، فإن ذاكرة الفلسطينيين “معطوبة بعض الشيء” بسبب 75 عاماً من الاحتلال ومن السردية الصهيونية، “ولذلك فإن هذه الصور مهمة للغاية”، لأنها “أشبه بالمرآة..” تطمح خديجة حباشنة أيضًا إلى تقديم هذه الصور لأكبر عدد ممكن من الفلسطينيين:

في كل الأحوال، فإنه من غير الممكن وضع هذا الأرشيف في فلسطين اليوم، حيث سيكون في خطر. يدمّر الإسرائيليون كل شيء هنا، حتى أن السواد الأعظم من شعبنا لم تتسنّ له قط إمكانية مشاهدة هذه الأفلام في حين التاريخ والإرث الثقافيين هما جزء من هويتنا كبشر. لذا، وحين سيصبح ذلك ممكناً، سينقل هذا الأرشيف إلى المكتبة الوطنية الفلسطينية وسيكون متاحا للعموم حتى تكون رؤية هذه الصور والتعرف على هذا التاريخ مصدرا للفخر وهو أمر على قدر كبير من الأهمية.